نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

مناجاة المريدين (6): ومنك أقصى مقاصدهم حصَّلوا

آية الله الشيخ محمد تقي مصباح اليزدي (حفظه الله)

"الَّذِينَ صَفَّيْتَ لَهُمُ المَشارِبَ، وبَلَّغْتَهُمُ الرَّغائِبَ، وَأَنْجَحْتَ لَهُمُ المَطالِبَ، وَقَضَيْتَ لَهُمْ مِنْ فَضْلِكَ المَآرِبَ، ومَلأْتَ لَهُمْ ضَمَائِرَهُمْ مِنْ حُبِّكَ، وَرَوَّيْتَهُمْ مِنْ صَافِي شِرْبِكَ، فَبِكَ إلى لَذِيذِ مُناجاتِكَ وَصَلُوا، وِمِنْكَ أَقْصَى مَقاصِدِهِمْ حَصَّلُوا".

* امتلاكهم مشارب الكمال والتعالي

يشتاق الإنسان، بشكل طبيعيّ، للوصول إلى احتياجاته. فعندما يجوع يبذل جهوده لتأمين حاجته بسرعة، وذلك بسبب الميل الموجود فيه نحو تأمين وإرضاء تلك الاحتياجات. ولعلّ الحاجة إلى الشرب هي أهمّ الاحتياجات الجسديّة، وأكثرها ضرورة. حيث إنّ ألم العطش أشدّ من ألم الجوع... فالإنسان يمكنه تحمّل الجوع أكثر من تحمّل العطش، لذلك أُطلق على الماء أنّه أساس الحياة. وقد استُخدم بعض التعابير التي تُستخدم في الماء أمثال: العطش والمشرب في الأمور المعنويّة، نظراً لأهميّة نعمة الماء، وأهميّة حاجة الإنسان إليه.

من جملة ذلك ما أخبر به الإمام السجاد عليه السلام في مناجاته حول المشارب الصافية للكمال والتعالي التي وضعها الله تعالى بين أيدي طلائع طريق القرب إلى الله. عندما يكون الإنسان ضمن مسير، يشعر بالعطش، فيتحرّك بحثاً عن الماء. وإذا وجد هذا الباحث نهراً من الماء تغمره الوحول، نراه يتحرك نحو مصدر ذاك الماء ليحصل على ماء زلال خالٍ من كلّ الملوّثات، فيلتذّ به ويرتوي. كذلك حال طلائع القرب الإلهيّ الذين يبحثون عن ماء معرفة الله الزلال، حيث يصلون إلى منبع ومصدر المعارف التوحيديّة الخالصة بهداية من الله فيروون عطشهم وتُسَرّ أرواحهم بها.

*حاجاتهم أُخرويّة

يستفاد من عبارة "الذين صفَّيتَ لهم المشارب" أن هناك أشخاصاً في الطليعة، يشكّلون القدوة والأسوة للإنسان في مسير التعالي والكمال، قد حصلوا على ذخائرهم المعنويّة من مشارب المعارف الإلهيّة الصافية والزلال. في الحقيقة تتضمّن تلك العبارة دعاءً يتوجّه به إلى الله تعالى لإرشادهم إلى مشارب معارفه الصافية، ولأن يجعل أيديهم بأيدي أشخاص قد حصلوا على هداية الله وطهّروا أنفسهم من الكدورات والملوّثات والمحيّرات.

إنّ منشأ وصفاء الذخائر العرفانيّة والمعنويّة الموجود عند طلائع أهل القرب الإلهيّ هو هداية الله وإرشاده لهم. وعندما يعتمد هؤلاء على الله ويتوكّلون عليه، يتعرّفون، وبوضوح، إلى الطريق الإلهي ويشاهدونه ولا يبقى في قلوبهم شيء من الإبهام والترديد. أمّا مصدر الإبهام والترديد فهو تدخّل الظنون الباطلة الوهميّة ووساوس الشياطين الخادعة. ولكن عندما يقدّم الله الحقيقة لهم بشكل شفاف وزلال، لا يبقى أيّ مجال، عندهم، للشكّ والترديد.

إنّ من جعل الدنيا هدفه، تكون مقاصده وطلباته دنيويّة، ويسعى للوصول إلى الموائد الملوّنة وإلى المناصب والبيوت الفخمة. أمّا الذي يكون هدفه طلب الآخرة والقرب من الله تعالى، فتكون أهمّ مقاصده واحتياجاته أخرويّة ومعنويّة أيضاً. إنّ الاحتياجات التي ذكرها الإمام عليه السلام جميعها أخرويّة تتناسب مع الأهداف المتعالية التي يعمل للوصول إليها طلائع مسيرة التعالي والتكامل.

*امتلاك المحبّة الإلهيّة الخالصة

المسألة الأخرى التي أشار إليها الإمام عليه السلام أنّ الله قد ملأ قلوبهم حبّاً له، فليس في قلوبهم سوى محبّة الله، ومحبّة أولياء الله، ومحبّة الأشخاص الذين يدورون في شعاع محبّة الله؛ إذْ إن محبّتهم هي تجلٍّ لمحبّة الله.

ويفهم من هذا الكلام أوّلاً، أنّ في قلب كلّ شخص وعاءً واستعداداً يجب أن يعمل الإنسان على إشباعهما وملئهما فلا يدعهما خاليين.

ثانياً، إنّ وعاء القلب يجب أن يُمْلأ بمحبّة الله ومظاهره وتجلّياته. ويجب أن لا يدع الإنسان مجالاً لدخول محبّة غير الله التي تعارض محبّة الله والتي تمنع القيام بالواجبات الإلهيّة، بمعنى أن لا يعتقد بأيّ أصالة لمحبّة غير الله، وأن لا يجعل ذلك في عرض محبّة الله، عدا عن أنّه يجب أن لا يقدّم محبّة غير الله على محبّة الله، لأنّ محبّة غير الله، وهي محبّة كاذبة، تمنعه من التعالي والعبوديّة لله ومن القيام بالواجبات. يقول الله تعالى في هذا الشأن: ﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾(التوبة: 24).

*والوصول إلى المقاصد العالية

يعمل طلائع طريق الكمال والقرب الإلهيّ للوصول إلى ماء الحياة والمعارف والكمالات التوحيديّة الخالصة. لقد رواهم الله تعالى بمعارفه الزلال وبالكمالات المتعالية. يقول الإمام عليه السلام: "فبِك إلى لذيذ مناجاتِك وصلوا، ومنك أقصى مقاصِدِهم حصلوا".

يؤكّد الإمام عليه السلام في هذا الكلام على الأصل التوحيدي الذي هو عبارة عن أنّ أيّاً من الأعمال لا يمكن أن يحصل من دون الإرادة الإلهيّة، فلا يمكن للإنسان أن يتقدّم بخطواته في مسير التعالي والكمال من دون مساعدة الله تعالى، ولا يمكن للإنسان أن يصل إلى مقام نجوى الحق من دون عناية الله وتوفيقه. إذاً، العبور على مسير التعالي والكمال متوقّف على الهداية الإلهيّة. وفي ظلّ توفيق الله يتذوّق الإنسان لذّة مناجاته. وبمساعدة الله وعنايته يُوفَّق الإنسان لقطع المنازل والمقاصد في مسير التكامل والقرب إلى الله. ويطوي مراحل السير إلى الله، الواحد بعد الآخر، في ظلّ التوفيق الإلهيّ. وفي النهاية، يصل إلى أعلى المقاصد وآخرها... ومن هنا، يفترض بالسالك شكر الله تعالى على التوفيق الذي أحاطه به.

أضيف في: | عدد المشاهدات: