الشيخ معين دقيق
عندما يسير الطفل مع بالغٍ في طريقٍ مظلمٍ، يثق به ويطمئن
إليه، تسكن نفسه للسير معه، إذا كان على معرفةٍ بقوّته وشجاعته وقدرته، أمّا مع
علمه بضعفه وجبنه، فإنّه يبقى خائفاً وَجِلاً. لذلك فإنَّ أساس هذه الثقة المعرفة.
كيف؟
*الثقة والمعرفة
وهي في الأصل (وَثَقَ): كلمةٌ تدلّ على عقد وإحكام، ووثّقتُ الشيء: أحكمتُه، ومنه
الميثاق، وهو العهد المُحكم1.
والثقة بشخصٍ تعني: الاطمئنان به، والسكون إليه2.
عرفنا من تعريف الثقة المتقدّم أنَّها تعتمد على ثلاثة أركان: (الواثق، والموثوق به،
وعلاقة السكون والاطمئنان من الواثق تجاه الموثوق به). وهذه العلاقة إيجاباً، وسلباً،
وجوداً، وعدماً لا يمكن أن تحصل ولو في أدنى مراتب وجودها، إلّا بمعرفة الواثق
بالموثوق به. وبمقدار تعمُّق هذه المعرفة تزداد هذه العلاقة. ومن دون هذه المعرفة،
تُبنى هذه الثقة على مجرّد وهْم يتبدّد عند أوّل تجربةٍ واختبار.
*معرفة الله أمان من كلّ خوف
وهكذا الحال في العلاقة مع ربّنا تبارك وتعالى، فالإنسان الذي لم يدرك صفاته -تبارك
وتعالى- الجماليّة والجلاليّة، تراه يعيش في الدنيا خائفاً من الفوت والخسارة.
وبمقدار ما تتجذّر في قلبه صفاته -تبارك وتعالى- تراه مطمئناً كالطود لا تهزّه
الرياح العاتية؛ ولذا، ورد في الخبر عن أمير المؤمنين عليه السلام: "على الشكِّ
وقلَّة الثقة بالله مَبْنَى الحرصِ والشُّحّ"3.
فالبخيل، والحريص، والشحيح يتعلّق بحطام هذه الدنيا الزائلة؛ لكونه لم يتعرّف إلى
ربّه حقّ المعرفة، فتراه خائفاً من المستقبل، يتوسّل بالوسائل الزائفة اعتقاداً منه
أنّها هي التي تؤمّن له سعادته في مستقبله.
بينما الإنسان المؤمن الذي يعرف أنّ ربّه الذي رزقه في الماضي، وما زال يرزقه في
حاضره، هو الكفيل برزقه في مستقبله، فتنتفي عنده خصلة الشحِّ والحرص.
والعبد إذا عرف أنَّ مولاه يتميَّز بغاية العلم والهداية، وغاية القوّة والقدرة،
وغاية الشفقة والمحبّة لعباده، فلا يسعه إلّا الثقة به والاتّكال عليه.
فبغاية الهداية يعلم أنّ مولاه لا يسوقه إلّا نحو الخير والمصلحة.
وبغاية القوّة والقدرة يطمئنّ إلى أنّ مولاه قادرٌ على تنفيذ ما يعلم فيه الخير
والصلاح في حقّه، من غير خوفٍ من أحدٍ أو عروض جبن وتردُّد.
وبغاية الشفقة والمحبّة يعرف أنّ ربّه لن يتركه في وسط الطريق، ولن يخذله عندما
يحتاج إليه.
فبمقدار الارتقاء بالمعرفة، وانعكاسها على كلّ جارحةٍ من جوارح الإنسان، ترتقي
النفس إلى حالة الطمأنينة والوثاقة بالله -تبارك وتعالى- ولا محالة تنحصر ثقته
بربّه وحده، ولا يلتفت إلى غيره بوجه؛ ولذا، ورد في الخبر عن أمير المؤمنين عليه
السلام أنّه قال: "الثِّقة بالله حِصْنٌ لا يتحصَّنُ فيه إلّا مؤمنٌ أمين"4.
*نماذج قرآنيّة للثقة بالله تعالى
النموذج الأوّل: أمّ موسى عليه السلام:
قال تبارك وتعالى في محكم كتابه:
﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ
أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي
وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص:
7).
يا لله! يا للقدرة! يا أمّ موسى، أرضعيه، فإذا خفت عليه وهو في حضْنك، وهو في
رعايتك، وهو تحت عينيك، إذا خفت عليه ﴿فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ﴾!!
﴿وَلَا تَخَافِي
وَلَا تَحْزَنِي﴾ إنّه هنا في اليمّ، في رعاية اليد التي لا أمن إلّا في جوارها،
اليد التي لا خوف معها، اليد التي لا تقرب المخاوف من حماها، اليد التي تجعل النار
برداً وسلاماً، وتجعل البحر ملجأً ومناماً؛ اليد التي لا يجرؤ فرعون الطاغية الجبار
ولا جبابرة الأرض جميعاً أن يدنوا من حماها الآمن من العزيز الجناب.
﴿إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ{ فلا خوف على حياته ولا حُزن على بُعده،
﴿وَجَاعِلُوهُ
مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾، وتلك بشارة الغد، ووعد الله أصدق القائلين.
أيُّ أمٍّ تستطيع أن تضع وليدها الذي لا حول له ولا قوّة في بحرٍ واسعٍ متلاطم
الأمواج، إنْ لم تكن في أعلى مراتب المعرفة بربّها وبقدرته، هذه المعرفة التي
جعلتها تقدم على إلقائه بكلّ طمأنينة وثقةٍ مطلقة؟
النموذج الثاني: قصة يوسف عليه السلام:
قال تعالى في قصّة يوسف عليه السلام:
﴿فَلَمَّا ذَهَبُواْ بِهِ وَأَجْمَعُواْ أَن يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ
وَأَوْحَيْنَآ إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُم بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لاَ
يَشْعُرُونَ﴾ (يوسف: 15).
ينقل بعض الروايات في قصّة المؤامرة على يوسف من قِبل إخوته وإلقائهم له في الجبّ،
ما يلي: "أنَّ يوسف عليه السلام كان يبكي تحت وابل اللّكمات والضربات القاسية، ولكن
حين أرادوا أنْ يلقوه في الجبّ شرع بالضحك فجأة، فتعجّب إخوته كثيراً وحسبوا أنَّ
أخاهم يظنّ الأمر لا يعدو كونه مزاحاً، ولكنّه رفع الستار عن ضحكه وعلّمهم درساً
كبيراً؛ إذ قال: لا أنسى أنني نظرت أيّها الإخوة إلى عضلات أيديكم القويّة، وقواكم
الجسديّة الخارقة، فسُررت وقلت في نفسي: ما عسى أن يخشى ويخاف من الحوادث والملمّات
من كان عنده مثل هؤلاء الإخوة، فاعتمدت عليكم وربطت قلبي بقواكم، والآن وقد أصبحت
أسيراً بين أيديكم، وأستجير بكم واحداً تلو الآخر فلا أُجار، وقد سلّطكم الله عليّ
لأتعلّم هذا الدرس، وهو ألّا أعتمد وأثق وأتوكّل على أحد سواه، حتى ولو كانوا
إخوتي"5. وقد كانت نتيجة هذا التوكّل الذي يقلّ نظيره أنْ كانت عاقبته صلوات الله
وسلامه عليه: ﴿وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً وَكَذَلِكَ
نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (يوسف: 22)، وليس ذلك إلّا لما نُقِل عن مولانا الإمام
الجواد عليه السلام من أنَّ: "الثّقة بالله ثمنٌ لكلِّ غالٍ وسلَّمٌ إلى كلِّ عالٍ".
كيف لغلام لم يبلغ الحلم أنْ يطمئنّ هذه الطمأنينة لو لم تكن معرفته بربّه كاملة؟
ولذا، عندما كان يناجي ربّه في البئر قالت الملائكة: "الصوت صوت صبيٍّ، والدعاء
دعاء نبيٍّ".
*"ذاك إلى الله عزَّ وجلّ إن شاء أخرجني"
وفي الخبر عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام: قال: "لمّا طرحَ إخوة يوسف يوسفَ في
الجُبِّ أتاه جبرائيل عليه السلام، فدخل عليه، فقال: يا غُلامُ، ما تصنعُ هاهنا؟
فقال: إنّ إخوتي ألقَوْني في الجُبِّ. قال: فتحبُّ أن تخرج منه؟ قال: ذاك إلى الله
-عزَّ وجلّ- إنْ شاءَ أخرجني. قال: فقال له: إنّ الله تعالى يقولُ لكَ ادعُني بهذا
الدعاء حتى أُخرجك من الجُبِّ. فقال له: وما الدعاء؟ فقال: قل: اللهمَّ إنّي أسألكَ
بأنّ لك الحمدَ، لا إلهَ إلّا أنتَ المنَّانُ، بديعُ السماوات والأرض، ذو الجلال
والإكرام، أنْ تُصلِّيَ على محمّدٍ وآلِ محمّدٍ، وأنْ تجعلَ لي ممّا أنا فيه فَرَجاً
ومخرجاً. قال ثمَّ كان من قصّته ما ذكر الله في كتابه"6.
هكذا تفعل الثقة المطلقة بالله في القلوب العارفة بربّها. رزقنا الله كمال المعرفة
بحقّ محمّد وآل محمّد، صلوات الله عليهم أجمعين، والحمد لله أوّلاً وآخراً.
1- معجم مقاييس اللغة: أحمد بن
فارس بن زكريا. ج6، ص85.
2- راجع، لسان العرب: ابن منظور. ج8، ص388.
3- عيون الحكم والمواعظ: محمد الليثي الواسطي. ص328.
4- بحار الأنوار: المجلسي. ج75، ص79.
5- الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل: ناصر مكارم الشيرازي. ج7، ص155.
6- الكافي: الكليني. ج2، ص557.