سكنة حجازي
نذكر اليوم لقمان الحكيم الذي عاش في عهد النبي داود عليه السلام، وكان كثير الوعظ له، فهو الذي رفض الحكم والخلافة مخافة البلوى وأجاب الملائكة بمنطق المشفق منها. وقد غبطه النبي داود عليه السلام لما أنعم الله عليه من الحكمة وعدم ابتلائه بالخلافة التي قبلها النبي وعانى من تحمّل المسؤولية لذا مرّ في الفتنة تلو الأخرى وكان الله تعالى يسدّد خطاه في كلّ مرة.
فالحكم من أشدّ المنازل خطراً على الإنسان وأكثرها بلاءً وفِتنةً لذلك لم يقبل بها لقمان لأنّه خُيّر فيها ولم تفرض عليه كما أجاب الملائكة على ذلك.
وقد نقل الله تعالى على لسانه مواعظ أوصى بها لقمان ابنه ولكنها وصية كلّ إنسان، خاصّة أنّها جاءت في معرض الكلام عن لهو الحديث الذي يضل عن سبيل الله فكانت هذه المواعظ حكمة تهدي إلى صراط.
قال تعالى في سورة لقمان:
﴿وَلَقَدْ آتَيْنَا لُقْمَانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَمَن يَشْكُرْ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيد﴾ٌ (12 و 13).
﴿ يَا بُنَيَّ إِنَّهَا إِن تَكُ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ فَتَكُن فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّمَاوَاتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِير * يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ * وَلَا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَلَا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحًا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ * وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَاغْضُضْ مِن صَوْتِكَ إِنَّ أَنكَرَ الْأَصْوَاتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ﴾ (لقمان 16-19).
* إباء الخلافة
لقد أوتي لقمان الحكمة ﴿يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاء وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ﴾ البقرة/269,
فالحكمة عبارة عن الفهم والعقل، وهي المعرفة العلمية النافعة لذا كانت الباعث على الشكر لأنّها تؤدّي إلى معرفة المنعم ومعرفة نعمه فلا شكّ سيلازمها الشكر.
وقد جاء في الرواية عن أبي عبد الله عليه السلام عن سبب إتيان الحكمة للقمان:
أما والله ما أوتي لقمان الحكمة بحسب ولا مال ولا أهل ولا بسط في جسم ولا جمال. ولكنّه كان رجلاً قوياً في أمر الله متورعاً في الله ساكناً مستكيناً عميق النظر طويل الفكر حديد النظر مستغنياً بالعبر لم ينم نهاراً قط.. لم يضحك من شيء مخافة الإثم ولم يغضب قط ولم يمازح إنساناً قط، ولم يفرح بشيء أتاه من أمر الدنيا ولا حزن على شيء قط، وقد نكح من النساء وولد له من الأولاد الكثير، وقدم أكثرهم إفراطاً فما بكى عبر موت أحد منهم.
وقد سأله الله تعالى أن يعطيه الخلافة في الأرض ليحكم بين الناس فقال: إن أمرني الله بذلك فالسمع والطاعة لأنّه إن فعل ذلك أعانني عليه وعلمني وعصمني، وإن هو خيرني قبلت العافية.
بعدها غشاه الله تعالى الحكمة من رأسه حتّى أخمص قدميه لحسن منطقه. وأوتي النبي داود عليه السلام الخلافة وابتلي فيها غير مرة، وكان لقمان يكثر زيارته ويعظه بمواعظه وحكمته وفضل علمه، فكان داود عليه السلام يقول له: طوبى لك يا لقمان أوتيت الحكمة وصُرفت عنك البلية. وأعطي داود الخلافة وابتلي بالحكم والفتنة.
* مواعظ الحكيم
أما أهم المواعظ التي أوصى بها لقمان الحكيم ابنه فهي بمثابة مشاعل تنير جسد العبور على الصراط ونختصرها بالتالي:
1- التوحيد وعدم الشرك بالله وهو رأس الإيمان، فالشرك من أكبر المعاصي ومن أول الكبائر إذ معه لا يغفر ذلك ولا يُقبل عمل: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يَغْفِرُ أَن يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَن يَشَاء وَمَن يُشْرِكْ بِاللّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا﴾ النساء/48.
2- المعاد، وهو الأصل الثالث من أصول الدين، وذكر معه حساب الأعمال وعلم الله اللطيف النافذ في أعماق الأشياء، فالأعمال مهما كانت صغيرة أم كبيرة، خيّرة أم شريرة، في جوف الأرض أم في عنان السماء فإن الله سيأتي بها يوم الحساب للجزاء، حتّى لو كانت ﴿وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا وَكَفَى بِنَا حَاسِبِينَ﴾.
3- بعض الأعمال والأخلاق الفاضلة الأساسية التي على الإنسان المؤمن أن يتحلّى بها:
أ- الصلاة وهي عمود الدين التي إن قُبلت ما سواها وإن رُدّت رُدّ ما سواها.
ب- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر اللذان هما عمود وأساس قيام المجتمع.
ج- الصبر على ما يصيب الإنسان من مكاره الدنيا، فالصبر من الإيمان بمنزلة الرأس من الجسد.
وكل ذلك من الثبات والطمأنينة في الدنيا (فإنّ ذلك من عزم الأمور).
4- عدّد بعضاً من السلوك الاجتماعي والتصرفات مع الغير:
أ- عدم التكبّر فالتكبّر رداء الله فلا ينبغي لأحد أن ينازع الله رداءه ومن التكبّر المرح وشدّة الفرح والخيلاء وغير ذلك.
ب- الاعتدال في المشي، وغضّ الصوت عند الحديث لأنّ من المستقبح رفع الصوت إلاّ في الدعاء وتلاوة القرآن.
أمّا ما ورد في الروايات من المواعظ على لسان لقمان الحكيم ففيها من الإفاضة ما لا يتسع المقام لذكرها، وكلها تدعو للزهد في الدنيا والتقرّب إلى المولى عزّ وجل.
هذه الحِكَم والمواعظ التي أطلقها الله تعالى على لسان شخصية مميزة وصفها بأنّه وهبها الحكمة، هي موجهة إلى الإنسان ككل، وجاءت على لسان أب حريص على تربية ابنه التربية الصالحة والموجهة تجاه الحق والتي تنجي من العذاب الأليم، إنّها على لسان عالم بالله عابد له خاضع خاشع مشفق منه يؤمن بربّه حقّ الإيمان ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْمًا لَّا يَجْزِي وَالِدٌ عَن وَلَدِهِ وَلَا مَوْلُودٌ هُوَ جَازٍ عَن وَالِدِهِ شَيْئًا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلَا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلَا يَغُرَّنَّكُم بِاللَّهِ الْغَرُورُ ﴾ لقمان /33.