قال رسول الله صلى الله عليه وآله: "إني تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي أبدا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي" .
إن الذي يجول بين التكاليف الإلهية ويتأمل في أبعاد الشريعة الإسلامية يهتدي إلى وجود مراتب بين التكاليف من حيث الأهمية.
وإذا نظرنا إلى العلاقة بين هذه التكاليف نرى أن بعضها أنما يكتسب قيمته من خلال البعض الآخر، ويصبح مقبولاً عند الله بشرط قبول ذلك الآخر.
فكيف يتعامل السالك في طريق العبودية مع هذا الترتيب؟
وما هو السر من ورائه؟
قبل أن نحدد ما هي هذه التكاليف الأساسية التي تمثل القاعدة الكبرى للتكاليف الأخرى نشير إلى بعض أسرار هذا الترتيب والحكمة من ورائه.
فالإنسان الذي يريد أن يسلك هذا الطريق وهو بعد لم يتخلص من كثير من مشاكله النفسية وأمراضه القلبية وينظر إلى حجم التكاليف الملقاة على عاتقه قد يشعر باليأس والقنوط. فعليه أن يزيل آلاف العقبات ثم يؤدي آلاف الأعمال ويمتثل لآلاف الأوامر لكي يكون سالكاً إلى الله!.
لهذا نعلم لماذا يلجأ أكثر المهتمين بهذا العالم إلى انتهاج طرق خاصة واعتماد برامج إضافية سرعان ما تصبح هي المنهج الذي يرونه أساساً في السير والسلوك.
أن عمق السلوك المعنوي يتجلى في الارتباط الصحيح بالله الذي يقوم على أساس العبودية التامة وفناء إرادة العبد في إرادة الله
إن كل سالك يعلم يقيناً أن طاعة الله هي السبيل إليه، فلماذا نجد الكثيرين يرجعون إلى برامج خاصة ومحدودة!؟.
هل ضاقت الشريعة الإلهية بحيث لا نجد فيها ما يشفي العليل ويروي الغليل؟ وهل أن السير إلى الله ينبع من تجارب محدودة ومنامات وحلقات خاصة؟!.
فما هي المشكلة إذاً؟
المشكلة أن الذين يفهمون موقعية الشريعة والتكليف في حياتهم يجدون صعوبة في استخدام هذا المنهاج الواسع وهم قد عينوا مجموعة من المشاكل التي ينبغي أن تعالج... وتعود هذه الصعوبة إلى أمرين:
الأول: أن ما يتعرفون إليه من الشريعة يكون ناقصاً في معظم الأحيان.
الثاني: أنهم يتصورون طريقاً محدداً للعلاج وفق ما سمعوه أو توهموه.
فعندما نقول "الشريعة الإسلامية" هل نقصد فقط مجموع التكاليف والأحكام الواردة في الرسالة العملية للمرجع الجامع للشرائط؟.
إن هذه المجموعة تمثل جزءاً من الأحكام الظاهرية، ويبقى القسم الثاني وهو الأحكام الباطنية المتعلقة بشؤون العقل والقلب والسر.
فالفتاوى والأحكام في الرسائل العملية جزءٌ من كل في مرتبة الظاهر فقط. ولا يجوز الخلط بين الظاهر والباطن، وأن كل الظاهر هو القناة الوحيدة للدخول إلى الباطن من الناحية العملية.
وفي مرتبة الظاهر توجد تلك المجموعة الكبيرة من الواجبات والمحرمات التي يحددها الولي الفقيه، والتي تمس بصورة مباشرة الأمور والقضايا الأساسية في حياة الإنسان.
فما يحتاجه كل وادح منا هو إعادة النظر في مفهومه وتصوره للشريعة وحدودها ودورها، ونحتاج إلى نفض ما علق في أذهاننا من تصورات ناقصة. فالشريعة هي التي نردها لننهل منها لا لنعطيها ما لدينا. وعندما نقف عندها علينا أن نسلم كل أمورنا إليها ونؤمن بأنها تمتلك الحل الشافي لكل مشاكلنا والأجوبة الكاملة عن كل أسئلتنا واحتياجاتنا.
وبهذه النظرة يتقدم السالك في مضمار السلوك وهو ثابت القدم مطمئن البال ويكتسب سلوكه بعده الحقيقي في طريق العبودية لله.
نحن نسمع كثيراً عن برامج وأعمال يقوم بها بعض العارفين وأصحاب المقامات، ونظن أنها الطريقة والمنهاج، وعندما نتعرف إلى التكاليف الشرعية نشاهد ما سمعناه، فنصاب بالحيرة أو الضياع. وأقل ما يحدث هو أن تسقط الشريعة من موقعها في نفوسنا كمنهج متكامل وشاف للسير إلى الله (وليس هذا بالأمر القليل الخطورة أبداً).
يتعجب البعض عندما يقال لهم أن دراسة الأحكام الشرعية تساهم بدرجة كبيرة في السير المعنوي ولكنهم لا يتعجبون أبداً إذا قيل لهم: "عليكم بذكر اسم الحي أو القيوم 1357 مرة حتى تشاهدوا المسألة الفلانية في المنام!".
هؤلاء لا يتعجبون إذا قيل لهم اقرأوا القرآن بشكل دائم أو ادرسوا نهج البلاغة وتعرفوا إليه، ولا يتفاجأون إذا قيل لهم صلوا هذه الصلاة المستحبة خمسين مرة في اليوم الفلاني. كل ذلك لأننا اعتدنا على نمط معين من السير والسلوك، ونحن نظن أن السالك هو الذي يرى في النوم تلك المشاهد الشريفة، وأن السير والسلوك هو معرفة بعض المسائل الغيبية.
إن عمق السلوك المعنوي يتجلى في الارتباط الصحيح بالله، هذا الارتباط الذي يقوم على أساس العبودية التامة والفناء المطلق للعبد في إرادة الله: أن للَّه وان إليه راجعون . العبودية التي تعني أن السالك يطيع الله في كل ما أمره ولا يطلب من مولاه ومحبوبه شيئاً، لا المقام ولا الشهود ولا أي شيء آخر. فشتان ما بين هذا الطريق وطريق المنامات والأذكار للمشاهدات!!.
ولكن ينبغي الالتفات إلى هذه النقطة وهي أن ما ذكرناه لا يعني أن السالك في طريق العبودية الحق لا ينال شيئاً ولا يعبر مقاماً ولا يرى ملكوتاً، بل أن هذه المقامات تسقط من عين السالك لأنه يعبد الله بمقتضى الحب الخالص الذي يجعل المحب فانياً، وهذه هي عبادة الأحرار، كما قال مولاهم عليه السلام: "الهي ما عبدتك خوفاً من نارك ولا طمعاً في جنتك ولكني وجدتك أهلاً للعبادة فعبدتك".
فقد آن الأوان للورود إلى الشريعة الصافية مع خلع النعلين حيث ننهل من وعاء التسليم المحض شراباً طهوراً يطهر فينا كل أرجاس النفس الأمارة والهوى ويزكي في قلوبنا أشجار المحبة الباسقة.
وهذه الشرعية بدورها تهدينا أعظم هدية من صاحبها وحافظها الأكبر سيد الخلق أجمعين: ثقلين ثقيلين وحبل واحد ممدود من سماء الرحمة المطلقة إلى أرض الغفلة والنسيان لانتشالنا من حضيض الجهل والانحطاط.
فالقرآن الكريم والعترة الشريفة الطاهرة هما أساس الشريعة الكبرى وروحها وقاعدتها، وعليهما يبنى صرحها الشامخ وتمتد جذورها العميقة وتعلو أغصانها وتورف، فتكون لنا طريقة منهاجاً.
وبفهم دور هذين الثقلين في حياتنا وموقعهما في سلوكنا سنخرج بنظرة مختلفة بشكل كلي عن السابق حيث سيبدو السير إلى الله أمراً جديداً ونوراً باهراً.
فالحبل المشار إليه في الرواية هو السلوك، وطرفاه هما بدء السير ونهايته. فهو المحدود من أسفل سافلين أي أرض الهجران والفراق التي اهبط إليها آدم وبنوه، ومنتهاه هو السماء العليا أي مقام عند الله تعالى، قال الله تعالى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي فِي السَّمَاء إِلَهٌ وَفِي الْأَرْضِ إِلَهٌ وَهُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ﴾ .
وقوف كل ذلك فإن البدء منه والمنتهى إليه سبحانه.
ومن طلب النجاة من الحيرة، والخلاص من الضلالة، فليس له إلا هما، بضمان من الأمين الصادق صلى الله عليه وآله وسلم، ويعلم من حديثه الشريف ووصيته الجامعة أن من يروم غيرهما سيقع في لجة الحيرة ومتاهة الضلالة بل أن من يمسك بواحد دون الآخر فكأنه ما اسمك بشيء كما صرح عليه السلام بأنهما لن يفترقا أبداً إلى يوم الحساب، حيث ستظهر حقيقتهما النورانية المتحدة التي تفرعت في عالم الدنيا.
فالذي يريد الوصول إلى الله والتمسك بحبله يجب عليه أن يتمسك بعروتيه وإلا انقطع به الحبل وسقط في الضياع.
ولتحقيق هذا الأمر عليه أن يتمسك بالحبل جيداً، وهذا التمسك في عنوان التكليف.
فقد تحصل من هذا البيان أمور، هي:
1- إن الشريعة هي الطريق الوحيد للوصول إلى الله.
2- أنه يجب علينا أن نصحح نظرتنا إلى الشريعة.
3- أن الشريعة هي المنهاج الشامل الذي لا نقص فيه.
4- إن الشريعة تقوم على قاعدة الثقلين: القرآن والعترة الطاهرة.
5- وان السير بالشريعة لا يتم إلا بعد التمسك بالثقلين.
* فائدة عظيمة
قد ذكرنا في طيات الكلام صعوبة تخلص الإنسان من أمراضه القلبية وتخطيه للعقبات النفسية، نظراً لكثرتها في العادة وتشعبها، فإذا أراد هذا المسكين أن يقتلع من نفسه جذور الحقد والحسد والرياء والعجب واتباع الهوى وطول الأمل و... لشعر أنه يواجه عاصفة هوجاء بقصاصة ورق.
ولكنه بعد أن يتعرف إلى الثقلين سيجد فيهما الدواء لكل أدوائه وأمراضه: ظاهرة وباطنة، وسيرى من نفسه إنساً لا مثيل له لأداء الواجبات ويتنفر من المحرمات ويعرض عنها ويهجرها ملياً. وإذ بكل صعب يصبح سهلاً، وكل هجر يصبح إنساً.
ونحن ؛ بإذن الله تعالى- سنبين سرّ هذا الأمر في الحديث المقبل وأن كان قد ظهر بشكل كلي لكل ناقد بصير.
ويبقى أن نشير إلى أن للتمسك بالثقلين حديثاً مفصلاً يبين كيفية أداء تكليفياً بشأنهما وله فوائد لا تحصى ستكون محور المقالات المقبلة إن شاء الله.