- ما الفرق بين الأهداف الواقعية والهدف الحقيقي؟
- كيف يمكننا أن نصل إلى معرفة الهدف الحقيقي لحياة الإنسان؟
على ضوء حكمة الله تعالى التي لا حد لها ولا أمد، نعلم يقيناً بضرورة وجود غاية سامية من خلق جميع الموجودات، وبالأخص الإنسان، ونعلم انطلاقاً من اعتقادنا الراسخ بعدل الله عزّ وجلّ أن الوصول إلى هذه الغاية ممكن لكل إنسان حيث أودعت في أعماقه تلك الإمكانيات والقابليات التي تؤهله لذلك. ومن غير العدل أن يجعل الله تعالى فينا قابليات واستعدادات دون تمكيننا من تلبيتها وإيصالها إلى درجة التحقق والفعلية، ومن غير العدل أيضاً أن يأمرنا بشيء لا نقدر عليه: تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. فحكمة الله تهدينا إلى وجود غاية إلهية في خلقنا.وهذه الحكمة تؤكد ضرورة الوصول إلى هذه الغاية.
أما عدل الله الشامل فيلهمنا أن الوصول ممكن لكل إنسان، ولكن ما هي هذه الغاية التي ييدها الله لنا؟
لقد تبين لنا أن الأمر الذي يصدر من الله سواء كان تكوينياً أم تشريعياً: أي سواء كان عن طريق الخلق والإيجاد أو عن طريق الأمر التشريعي (عبر الرسالات)، كل هذا يحك عن ضرورة الامتثال والانقياد حيث يعلم كل واحد منا بفطرته وبعمق تفكيره أن العبودية لله رب العالمين مالك كل شيء واجبة وضرورية.
ومن جانب آخر أن إيماننا بضرورة الامتثال لأوامر الله سبحانه مع اعتقادنا بعدل الله الشامل يهدينا إلى إمكانية، بل ضرورة معرفة الغاية، لأن الإنسان لا يمكنه أن يمتثل دون أن يعرف كيف وبماذا يجب أن يمتثل. أن كل عبادة لا بد- لكي تتحقق عند الإنسان- أن تكون واعية ممتزجة بالإرادة و المعرفة. بل إن هذه المعرفة (معرفة الغاية) شرط أساي لسلوك طريق الله والوصول إليه، خصوصاً إذا علمنا أنها الهدف الوحيد من خلق الإنسان.
ولا بد من التمييز دائماً بين الأهداف الواقعية التي يحملها الناس في دوافعهم ويسعون باتجاهها ليلاً ونهاراً. وبين الهدف النهائي الحقيقي الذي خلقنا الله لأجله، فكل البشر يستحيل أن يخلوا من غايات يعيشون لأجلها. بل الإنسان عبارة عن موجود غائي هادف. ونحن هنا لا نريد أن نثبت هذا الشيء الأخير لأنه بديهي، بل البحث دائماً حول ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان.
فهنا إذاً هدف إلهي حقيقي، وأهداف عديدة يعيشها أكثر الناس في حياتهم.
وإذا تمكنا من إدراك هذا الفرق نقدر على البحث بشكل صحيح عن الهدف الإلهي، لأنه سيكون مكتوباً في أصل خلقة الإنسان: ﴿واصطنعتك لنفسي﴾.
أو في شريعته الغراء الصافية: ﴿إلا من رحم ربك * ولذلك خلقهم﴾.
والطريقة التي سنعتمد عليها في هذا المجال هي القراءة الدقيقة لكتاب خلقة الإنسان الذي كتبت سطوره بأحرف الفطرة الصافية، ونعود بعدها للشواهد العظيمة المستودعة في النصوص الشريفة.
ورغم أن هذه الطريقة قد تبدو للوهلة الأولى نوعاً من سوء الأدب بحق القرآن الكريم والمعصومين الأبرار عليهم أفضل الصلوات والسلام، ولكن بسبب الاختلاط الظاهري بين الأهداف النهائية والمرحلية والوسائل والمناهج في النصوص والروايات، نعتمد على طريق الاستدلال أُعقلي الوجداني، فإن الاستناد إلى رواية أو عدة روايات لتبيان المقصود، يمكن أن يقابل باستناد من وجه آخر على مقاصد أخرى كما قال مولى الموحدين عليه السلام: "تقول ويقولون".
أضف إلى هذا، أن السالك ما لم يصل إلى المعرفة الضرورية عن طريق الاستدلال لن يحصل على القناعة المطلوبة التي تتحول إلى عمل وممارسة (طبعاً في مثل هذه القضايا، وليس في المسائل الشرعية التفصيلية التي تتطلب التعبد المحض).
فلنفتح كتاب الخلقة...
فالكتاب الذي نريد أن نحول بين صفحاته هو كتاب النفس المجردة والمنظار الذي سنستخدمه لسبر أغوارها هو العقل السليم.
وعندما نضع هذا المنظار أمام أعيننا فإننا سنطلع على عوالم أخرى غير ما اعتدناه، وسنجد من النظرة الأولى أن النفس وجود آلاف الميول المتزاحمة التي تدفع الإنسان في كل لحظة للاستمرار في العيش والقيام بالأعمال والنشاطات.
وعندما يتم تعديل هذا المنظار بصورة أخرى، نرى من عدسيته مجموعة من الميول الأصيلة التي وجدت مع الإنسان منذ بداية خلقته ومجموعة أخرى قد اكتسبها من بيئته ومجتمعه وتربيته.
لقد عدلنا المنظار ليشاهد الميول الأصيلة منفردة: ففي العدسة الأولى يبين لنا ما إذا كان هذا الميل ثابتاً في وجود جميع البشر، وفي العدسة الثانية يبين ما إذا كان الميل المذكور ثابتاً عبر العصور والأزمان.
إنه منظار يلتقط فقط ما يسمى بالميول الفطرية التي هي أصل خلقه الإنسان المركبة بيدي الجمال وا لجلال الإلهيتين.
ولماذا؟
لأن الهدف لا يمكن أن يكون موجوداً إلا في الصفحات الصافية من كتاب النفس، الصفحات التي كتبها الخالق الحكيم الذي ليس حكمته حد أو نهاية.
ولماذا لا يمكن أن نتعرف على الغاية الحقيقية بقراءة كتاب"الميول الأخرى التي يكتسبها البشر من دنياهم"؟
والجواب بكل بساطة: لأن حكمة الله المطلقة لم تدع لغير الله حكمة، وكيف يمكن أن يترك الله حكمة واحدة ولا يفعلها وهو الحكيم المطلق!
فالبحث عن الهدف الحقيقي خارج كتاب الفطرة (الميول التي أودعها الله فينا) يشبه البحث عن السراب: ﴿حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً﴾.
من هنا ندرك أهمية هذا التقسيم للميول الموجودة في نفوس البشر. فالميول الفطرية يمكن أن تخبرنا بصدق عن الغاية الحقيقية، لأنها رسالة الله إلى كل إنسان تحكي عن إرادته. أما الميول التي يكتسبها الإنسان أحياناً من أنواع التربية ومؤثرات المحيط فهي خالية من الحقيقة وممتزجة بالوهم.
ومن جانب آخر ينبغي الالتفات إلى حاجات البدن وميول النفس، فالبعض يعد الاحتياجات الضرورية للجسد جزءاً من الميول الفطرية، وهذا اشتباه، لأن التركيبة الفيزيولوجية (العضوية) لجسم الإنسان تؤلف سلسلة من الاحتياجات الاضطرارية التي لا تخل في تركيبة النفس الإنسانية المجردة، وعليه فإن الاحتياج إلى الطعام والشراب والنوم والزواج (بمعناه المادي) ليس إلا احتياجاً اضطرارياً للجسم الإنساني، ولو قدر للإنسان أن يسكت هذه الاحتياجات بطرق مختلفة لبقي إنساناً بخلاف الاحتياجات النفسية، فإنه إن تخص منها خرج عن إنسانيته كياً. (ينبغي التأمل هنا).
إذاً، ما هي الميول الفطرية؟
إذا عرفنا أن الميزة الأولى للميول الفطرية أنها مودعة في أصل خلقة الإنسان بيد الحكمة الإلهية فهي ثابتة وشاملة لكل إنسان وجد على هذه الأرض: ﴿ فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ﴾.
وهكذا بمجرد التأمل في طبائع البشر عبر التاريخ وعلى مر العصور والأزمان وفي جميع الأصقاع والبلدان يمكننا أن نكتشف الشيء المشترك بينهم ويكون هو ما نعبر عنه بالفطرة.
أما الأشياء التي تختلف عبر الزمان أو بين البلدان، فهي غير أصيلة، لأنها تكون وليدة الفوارق الزمانية أو المكانية. هي إذاً ما صنع الدنيا والناس وليس الله بالأصالة.
وعندما نعيد إلى عقلنا ذلك المنظار الفطري، نكتشف أن الميول الفطرية التي تجمع ما بين البشر ثلاثة هي:
1- طلب العلم (حب الاستطلاع).
2- طب القدرة (حب السيطرة).
3- طلب العاطفة (الحب).
فإن كل إنسان منذ أني فتح عينيه على هذه الدنيا، يصبح طالباً لهذه الأمور المذكورة، يتميز بها عن غيره من المخلوقات. فهو يريد أن يكتشف المجهول أينما وجد، ويتمنى لو أنه يقدر على فعل ما يريد، ويرتبط بما يؤمن له العاطفة والسكينة النفسية.
إن هذه الاحتياجات التي أودعها الله فينا تحكي بناءً على الحكمة الإلهية عن سر الخلقة. فالله عزّ وجلّ لم يجعل الإنسان محتاجاً إلا ليسعى لتأمين احتياجه، وإلا كان ذلك ظلماً أو جهلاً: تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً. ومن غير الحكمة أيضاً أن يجعل فينا الطلب والاحتياج ولا يكون لاحتياجنا مؤمناً.
ولكن هذه الميول تتصف بصفة أخرى أساسية وهي أنها لا تعرف حداً، فمهما بلغ الإنسان من العلم يبقى طالباً له، ومهما وصل إلى القدرة فإنه يرغب بتحصيل المزيد، ومهما ارتوى من العاطفة يبقى راغباً بالمزيد.
إنها الفطرة التي تسعى لبلوغ العلم المطلق والقدرة المطلقة والحب المطلق. هذه الفطرة تعشق هذه الكمالات على نحو الإطلاق، وهي لا تريد إلا الوصول إليها والحصول عليها. يقول الإمام الخميني في رسالته إلى زوجة ابنه: "بمقتضى الفطرة والخلقة لا يمكن أن يتوجه الإنسان إلى غير الكمال المطلق أو يتعلق قلبه به" (بلسم الروح- ص 35).
فإذا كان الله قد خلقنا طالبين وعاشقين للكمال المطلق، فهل يعقل أن يحرمنا منه أو يمنعنا من بلوغه إذا نحن سعينا بصدق؟ حاشا وكلا، فليس هذا من صفاته، وقد قال في محكم كتابه: ﴿كتب على نفسه الرحمة﴾.
وأين هو هذا الكمال المطلق؟
أين هو العلم المطلق والقدرة المطلقة والحب اللامتناهي؟
ألا تقول فطرتنا: أنه الله سبحانه!
يقول الإمام أيضاً:
"طالب العلم يطلب العلم المطلق ويعشق العلم الملق وكذلك طالب القدرة وطالب كل كمال".
"الإنسان بالفطرة عاشق للكمال المطلق، وما يريده من الكمال الناقص هو كماله وليس نقصانه، لأن الفطرة تنزجر منه" (بلسم الروح- ص 36).
'"ذلك الذي يطلب الكمال كيفما كان يعشق الكمال المطلق لا الكمال الناقص.." (بلسم الروح).
فالله عزّ وجلّ خلقنا على أساس حب الكمال المطلق والسعي نحوه وليس في الوجود من كامل بالأصالة إلا الله سبحانه، حيث أن كماله مطلق لا حد له. ولذلك فإن كل إنسان يعشق الله ويحبه بفطرته وهو يريد أن يصل إليه.
والله تعالى قال:
"عبدي خلقت الكون لأجلك، وخلقتك لأجلي فهل تفر مني".
فتكون النتيجة أن الإنسان قد خلق لهدف أساسي وهو الوصول إلى الله، أي الوصول إلى الكمال المطلق على أساس ما أودع الله فيه من إمكانيات واستعدادات فطرية لا حد لها ولا نهاية: "لم تسعني أرضي ولا سمائي، ولكن وسعني قلب عبدي المؤمن".