عندما يريد المرء أن يتحدث عن الزهراء عليها السلام يقعد به شاهق قمم كمالاتها، وبعيد غور أسرارها عن النطق والتعبير، بل عن الفهم والتفسير. وهذا ما أكده الإمام القائد في كلام له في ذكرى ولادتها مشيراً إلى عظمة هذا النور المقدس وإلى خفاء كنهه وحقيقته على الرغم من سطوعه الزاهر. وهنا نص الحديث:
بسم الله الرحمن الرحيم
أنّ كل ما نقوله حول الزهراء عليها السلام قليل، وفي الحقيقة إنّنا لا نعلم ما يجب قوله في الزهراء عليها السلام وما يجب التفكير فيه، فالإبعاد الوجودية لهذه الحوراء الإنسية والروح الخالصة وخلاصة النبوة والولاية، واسعة ولا متناهية وغير قابلة للإدراك وهي بصورة بحيث يتحيّر الإنسان فيها.
فكما تعلمون فإنّ المعاصرة تعتبر من الأمور التي تمنع الإنسان من معرفة الشخصيات بصورة جيدة، فغالباً لم تعرف النجوم الساطعة في عالم البشرية في حياتها من قبل معاصريهم، إلا من ندر من العظام كالأنبياء والأولياء، وهؤلاء أيضاً عرفوا من قبل أفراد معدودين فقط، إلا أن فاطمة الزهراء عليها السلام كانت في عصرها بصورة بحيث لم يمتدحها أبوها وبعلها وبنوها وخواص شيعتهم فحسب، بل أنها كانت تُمتدح حتى من قبل أولئك الذين لم تكن لهم علاقات سليمة معها انظروا إلى الكتب التي أُلفت حول الزهراء عليها السلام أو حول كيفية تعامل النبي صلى الله عليه وآله وسلم مع هذه العظيمة، فقد رويت من قبل الذين أشرنا إليهم كزوجات النبي والأخريات، فهذه الرواية المعروفة عن عائشة أنها قالت: "والله ما رأيت في سَمْتهِ وهَدْيِهِ أشبه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من فاطمة، وكانت إذا دخلت على رسول الله قام إليها" - أي أنه صلى الله عليه وآله وسلم كان يقوم من مكان ويتحرك نحوها بكل شوق، هذا معنى "قام إليها"، وليس معناه أنه إذا دخلت الزهراء عليها السلام قام إمامها النبي صلى الله عليه وآله وسلم كلا، قام وذهب إليها، وفي بعض الروايات المروي عن عائشة أيضاً جاء هكذا "وكان يقبلها ويجلسها مجلسه".
هذه هي منزلة الزهراء عليها السلام، فماذا يقول الإنسان حول ابنة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ وماذا يقول حول هذا الموجود العظيم؟
إن عظمة الزهراء عليها السلام - أيها الأعزاء - مشهودة من سيرتها..
وهنا توجد مسألتان:
المسألة الأولى: ما مدى معرفتنا بالزهراء عليها السلام؟
حسناً، إن محبّي أهل البيت عليها السلام قد سعوا طوال تاريخ الإسلام إلى احترام آل بيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم والتعلق بهم وخصوصاً الزهراء عليها السلام بالقدر المستطاع، وليس لأحد أن يتصور أن هذه العظيمة أصبحت عزيزة على القلوب في عصرنا فقط، نعم في عصرنا ما في ا لقلوب يجري على الألسن؛
لأنّه عهد الإسلام وحكومة القرآن، عهد الحكومة العلوية وحكومة أهل البيت عليها السلام، إنها كانت عزيزة دائماً. فأقدم جامعة إسلامية في العالم الإسلامي والتي يعود تاريخها إلى القرنين الثالث والرابع الهجري هي باسم الزهراء عليها السلام ألا وهي جامعة الأزهر في مصر والمشتق اسمها من الزهراء عليها السلام،
فكان الخلفاء الفاطميون الشيعة الذين كانوا يحكمون مصر آنذاك يسمّون جامعاتهم باسم الزهراء عليها السلام. وقد سعى الشيعة على مدى القرون الماضية للتعلّق بهذه العظيمة.
المسألة الأخرى: هي أنّنا يجب علينا اهتداء الطريق بالنجوم:
فالإنسان العاقل يكون هكذا، فعندما يسطع نجم في السماء فهو لا يختص بهذه الكرة الأرضية فقط - يقال أن بعض هذه النجوم التي هي كالنقطة في السماء، هي - في الحقيقة - أكبر من مجرة درب التبّان التي تشاهدونها والتي تتشكّل من ملايين النجوم، فلا نهاية للقدرة الإلهية، لكننا نشاهده نقطة تسطع في السماء - حسناً، فلا بد للإنسان العاقل الذي وهبه الله العين أن يستفيد من هذا النجم في حياته، والقرآن يقول ﴿وبالنجم هم يهتدون﴾.
أعزّائي! إن نجم عالم الخلق الزاهر ليس بالذي نراه ونتصوّره، بل هو أعظم من هذا بكثير، إننا نرى نور شخصية الزهراء عليها السلام، لكنها أعظم من هذا بكثير. إذاً ماذا نستفيد نحن منها؟ بهذا القدر الذي نعرف فيه أنّها الزهراء عليها السلام.
لقد قرأت هنا في إحدى المرات الرواية التي تقول: "أنها تظهر لأهل السماء"، فنحن لا شيء أمام هذا النور، فالكروبيون (الملائكة المقربون) في الملأ الأعلى تنبهر عيونهم من نور الزهراء عليها السلام. فيجب علينا الاهتداء بها إلى الله وإلى طريق العبودية، وإلى الصراط المستقيم. فالزهراء عليها السلام قد سلكت هذا الطريق فأصبحت الزهراء، وإن رأيتم أن الله قد جعل طينتها طينة متعالية؛ لأنه كان يعلم أنها تخرج مرفوعة الرأس في الامتحان في عالم المادة والناسوت (الطبيعة الإنسانية) "امتحنك قبل أن يخلقك فوجدك لما امتحنك صابرة"، فالباري سبحانه وتعالى قد أَلطَف على تلك الطينة وجعلها متعالية؛ لأنه كان يعلم أنها تخرج مرفوعة الرأس من الامتحان، وإلا فالطينة الطيبة كانت كثيرة، لكن هل تمكّن الجميع من الصبر على الامتحان.
هذا جانب من حياة الزهراء عليها السلام التي نحتاج إليها لتطهير أنفسنا، فالحديث ورد من طريق الشيعة "أن النبي صلى الله عليه وآله وسلم قال لفاطمة عليها السلام: يا فاطمة، إنّني لا غني عنك من الله شيئاً، أي يجب عليك أن تفكّري بنفسك، فكانت تفكّر في نفسها من صغرها إلى نهاية عمرها القصير. فانظروها إلى حياتها كيف كانت؟ كانت إلى قبل الزواج حينما كانت فتاة - تعامل أباها - نبي الرحمة والنور ومؤسس الحضارة الحديثة، والقائد العظيم للثورة العالمية الخالدة، وحيث كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم آنذاك يرفع راية تلك الثورة - بصورة بحيث أصبحت "أمُّ أبيها" ولم يقل اعتباطاً (أُمُّ أبيها)، فكانت الزهراء عليها السلام - سواء في مكة أو في شعب أبي طالب أو عندما توفيت خديجة وبقي النبي وحيداً مكسور القلب بوقوع حادثتين في فترة قصيرة وفاة خديجة ووفاة أبي طالب، فأحسَّ النبي بالغربة - تزيل بيديها الصغيرتين غبار الحزن والغمّ عن وجه رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم. فانظروا كم هو عظيم بحر هذه الشخصية وجهادها، ثم في العهد الإسلامي ومن بعده الزواج من علي بن أبي طالب عليه السلام الذي كان مصداقاً كاملاً للتعبوي المضحّي في سبيل الثورة.
إنّه أسبوع التعبئة، وهذا هو معنى التعبوي، أي أنه وقف حياته كلها للإسلام ولنبيّه مرضاة لله، ولم يعمل لنفسه أبداً. ففي العشر سنوات من حياة النبي كان كل عمل أمير المؤمنين عليها السلام لأجل رفعة الإسلام، وأن يقال إن أمير المؤمنين والزهراء وبنيهما عليها السلام ظلّوا جياعاً فكان هذا سببه، وإلا لو كان يفكّر كبقية الشباب في التجارة لكان أفضل التجّار جميعاً. هذا هو علي بن أبي طالب عليها السلام الذي كان في أواخر عمره يحفر البئر ولا يخرج منه حتى يتدفّق الماء ولا يغسل يديه ووجهه حتى يوقفه لبيت المال، فقد أحيى الكثير من البساتين، فلماذا يبقى أمير المؤمنين عليه السلام جائعاً، فقد ورد في الرواية أن الزهراء عليها السلام جاءت إلى النبي صلى الله عليه وآله وسلم وقد بان على وجهها آثار الجوع. فرقّ قلب النبي لها فدعا لها.
لقد كانت كل مساعي أمير المؤمنين عليه السلام خالة لله وللإسلام، فهو أُمثولة رجال التعبئة، وإنني أُهيب بمقاتلي التعبئة في بلادنا العلوية الفاطمية أن يجعلوا أمير المؤمنين عليه السلام قدوة لهم، فإنه عليها السلام أفضل وأعظم قدوة للتعبويين المسلمين في كل أرجاء العالم، ثم أن فاطمة
الإسلام العظيم والحاكم المقتدر في زمانه رغم كل الذين تقدّموا لها ومن بينهم المتمولّين والشخصيات، إلا أنها انتخبت - أي أن الله انتخبه وهي كانت راضية بالانتخاب الإلهي وفرحة بذلك - هذا الشاب الذي وهب حياته مرضاة لله وقضى عمره في الجهاد، ثم تعيش معه بتلك الصورة حيث كان أمير المؤمنين عليه السلام راضٍ بل وجوده عنها، وعبارات أمير المؤمنين عليها السلام لها - والتي لا أُريد ذكرها في يوم العيد هذا - في أواخر حياتها خير دليل على ذلك.
فصبرت وربّت بنيها ودافعت عن حق الولاية دفاع المستميت وتحمّلت في ذلك كل ذلك العذاب وتلك المصائب ثم استقبلت تلك الشهادة العظيمة بكل رحابة صدر. فهذه هي فاطمة الزهراء عليها السلام.
إن الإنسان ليشعر - في السنوات الخمسة عشر الأخيرة - بفورة محبة الزهراء عليها السلام في قلوب أبناء هذه الأمة المؤمنة الثورية المخلصة الحزب اللّهية، فكان اسمها يتردد في الجبهات خلال الحرب وفي فترة الصلح والإعمار أيضاً وكذا في الاستعداد لمواجهة الأعداء. هذه الحالة موجودة ولله الحمد.
إن هذا التوسّل جيد وذو قيمة، وأن الزهراء عليها السلام لتحب هذه الروح الجهادية بأية صورة ممكنة وهذه بشرى للشباب التعبويين في هذا البلد، فكما أنهم يحبّون الزهراء عليها السلام كذلك يتحركون طبقاً لإرادتها وميولها ويسلكون طريقها التي هي سبيل الله وسبيل العبودية ﴿وأن اعبدوني هذا صراط مستقيم﴾.
اللّهم لا تحرمنا حب الزهراء عليها السلام وولايتها في الدنيا والآخرة بحق محمد وآل محمد. واهدنا بنور الزهراء المطهّرة اللّهم زد حبّها في قلوبنا يوماً بعد يوم، وأمتنا على حب آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم، واحشرنا يوم القيامة على حب آل النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
الّهم بحق محمد وآل محمد أزل عنّا المشاكل بالتمسك بالإسلام وبالأحكام الإسلامية والإلهية. وابعث اللطف والرحمة والصفاء والنور على روح إمامنا العظيم وشهداء الإسلام العظام.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.