الإمام الخامنئي دام ظله
أذكر بضع كلمات حول الزهراء عليها السلام، ولعل هذه الكلمات يمكن تعميمها في شأن الأئمة عليهم السلام، ويمكن لكم التأمل في معناها.
إذا كنتِ سيدةً وتعيشين في عصر طغى عليه التطوّر العلمي والصناعيّ والتقنيّ، عالمٍ رحب وحضارته المادية زاخرة بمختلف المظاهر الجديدة، فما هي الخصائص التي يتحقق فيها معنى الاقتداء بشخصيّة سبقك عهدها بألف وأربعمائة سنة؟ هل تتوقعين في القدوة التي تتأسّين بها أن يكون لها وضع كوضعك أو يمكن أن تقتفي أثرها في حياتك الحالية؟ وتفترضين، على سبيل المثال، كيف كانت تذهب إلى الجامعة؟ أو كيف كانت تفكر في القضايا العالمية؟ أو ما شابه ذلك؟
كلا، ليس الأمر كذلك في الأمور المطلوبة ممن يفترض الاقتداء بهم. إنّ في شخصية كلّ إنسان خصائص أصيلة يجب تحديدها، ثم ينظر إلى القدوة في ضوء تلك الخصائص والميزات.
*القدوة تعامل مسؤول
لنفرض، على سبيل المثال، كيفية التعامل مع وقائع الحياة اليومية المحيطة بالإنسان. فقد تكون هذه الوقائع متعلقة تارة بعهد انتشار المترو والقطار والطائرة النفّاثة والحاسوب. وقد تكون تارة أخرى، متعلقة بعهد لا وجود لمثل هذه الأشياء فيه. إلا أن الإنسان لا بد أن يواجه وقائع وأحداث الحياة اليومية، وبإمكانه التعامل معها على نحوين متفاوتين – من دون فرق بين العهدين – فهو إما أن يتعامل معها تعاملاً مسؤولاً، وإمّا أن يقف منها موقفاً غير مبالٍ.
ويتفرع التعامل المسؤول بدوره إلى عدّة أنواع وأقسام، فبأي روحية وبأية نظرة مستقبلية يكون التعامل؟
الإنسان يجب أن يبحث عن تلك الخطوط العريضة والأساس في الشخصية التي يتخذها قدوة له، من أجل اتباعها والسير على خطاها.
*حصار شعب آل أبي طالب
لاحظوا أن الزهراء عليها السلام كانت في السادسة أو في السابعة من عمرها – والتردد لاختلاف الأخبار في تاريخ ولادتها – حينما وقع حصار شعب أبي طالب. وقد مرّت في الشعب على المسلمين فترة عصيبة من تاريخ صدر الإسلام. فبعدما أعلن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم دعوته في مكة بدأ أهالي مكة يستجيبون له وخاصة الشباب منهم والعبيد. أما أكابر الطواغيت من أمثال أبي لهب وأبي جهل فرأوا أنهم لا سبيل أمامهم سوى إخراج الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وأصحابه من مكة. وكان عددهم قد بلغ عشرات العوائل، وفيهم الرسول وأهل بيته وأبو طالب الذي كان من أكابر قريش ووجوهها.
كان لأبي طالب شعب – والشعب هو الشقّ بين جبلين – على مقربة من مكّة يُسمّى بشعب أبي طالب. عزموا على الذهاب إليه مع ما يتسم به جو تلك المنطقة من حرّ شديد في النهار وبرد قارس في الليل. أي أنّ الظروف كانت صعبة لا تُطاق، ومع ذلك مكثوا ثلاث سنين في ذلك الشعب القاحل وتحملوا الجوع وتجرعوا الشدائد والمحن. وكانت تلك الفترة من الفترات العسيرة التي مرّت في حياة الرسول الذي لم تنحصر مسؤوليته حينذاك في قيادة تلك المجموعة وإدارة شؤونها، بل كان يجب عليه أيضاً الدفاع عن موقفه أمام أصحابه الذين وقعوا في تلك المحنة. فمن المعلوم أنّ الجماعة الملتفّة حول القيادة، تبدي ارتياحها ورضاها في حال الرخاء، ولكن حينما يتعرّضون للبلاء أو يقعون في محنة يبدأ الشك يتسرّب إلى نفوسهم ويلقون المسؤولية على القيادة فيما وصلوا إليه من بلاء.
*أم أبيها
من الطبيعي أن أصحاب الإيمان الراسخ يصمدون ويصبرون في مثل هذه الظروف. إلا أنّ جميع الضغوط تصب في نهاية المطاف على كاهل الرسول. وفي تلك الظروف العصيبة والضغوط النفسيّة الشديدة التي كان يواجهها رسول الله توفي في أسبوع واحد كل من أبي طالب الذي كان أكبر عون وأمل له، وخديجة الكبرى التي كانت خير سند روحي ونفسي له، فكانت هذه الحوادث مريرة على قلب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم وبقي الرسول على أثرها وحيداً فريداً.
لا أدري إن كان فيكم مَن تصدى لرئاسة فريق عمل وعرف معنى المسؤولية. في مثل تلك الظروف يُغلب الإنسان على أمره. ولكن لاحظوا دور فاطمة الزهراء عليها السلام في مثل تلك الظروف، وموقفها الإيجابي. وإذا نظر المرء إلى صفحات التاريخ يجد هذه الموارد متناثرة بين ثناياه ولكن لم تفرد بباب، للأسف.
كانت فاطمة في تلك الظروف بمثابة الأم والمستشار والممرّضة بالنسبة للرسول. ومن هنا أطلق عليها "أم أبيها". وهذه الصّفة تتعلّق بتلك الفترة التي تكون فيها صبيّة عمرها ست أو سبع سنوات على هذا النحو. ومن الطبيعي أن الفتاة في تلك الأجواء العربية الحارّة تنمو بشكل أسرع روحاً وجسماً بما يعادل نمو فتاة تبلغ العاشرة أو الثانية عشرة في وقتنا الحاضر، فتكون على هذه الدرجة من الشعور بالمسؤولية.
ألا يمكن لمثل هذه الفتاة أن تكون قدوة للفتيات ليصبح لديهن شعور مبكر بالمسؤولية إزاء القضايا المحيطة بهن، ويتفاعلن معها بنشاط؟ كان وجه فاطمة ينشرح بوجه أبيها وتنشط قواها وهي تزيل بمنديل العطف والحنان غبار الهمّ والحزن، وقد تجاوز حينذاك الخمسين من عمره الشريف، قبل أن تزيله بيدها. ألا يمكن لهذه الفتاة أن تكون قدوة للشابات؟ هذه قضية بالغة الأهمية طبعاً.
*الزهراء عليها السلام في حياتها الزوجية
يتجسّد المثال الآخر في حياتها الزوجية؛ فقد يتصور بعض الناس أن الزوجية – بالنسبة للمرأة – تعني الاهتمام بشؤون المنزل وإعداد الطعام، وعندما يأتي الزوج من العمل تقدم له الوسادة، على غرار ما كان يفعله القدماء. لكن الزوجية ليست بهذا المعنى فقط. انظروا كيف كانت الحياة الزوجية لفاطمة الزهراء عليها السلام.
على مدى السنوات العشرة التي قضاها الرسول صلى الله عليه وآله وسلم في المدينة عاشت الزهراء عليها السلام مع أمير المؤمنين حياة زوجية فترة، وقعت خلالها معارك متعددة صغيرة وكبيرة، بلغت حوالي ستين معركة. لقد كانت عليها السلام في بيت زوج يشارك في المعارك باستمرار – لأنّ نتائجها تتوقف على مشاركته فيها ولولاه لما كتب لها النصر – إضافة إلى أنّ حياتها المعيشية لم تكن على ما يرام من الرفاهية أو الغنى، ولا تتعدى ما سمعناه عنها في قوله تعالى:
﴿وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا * إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ﴾ (الإنسان: 8–9) بمعنى أنها كانت تعيش حياة فقر وعوز على الرغم من كونها ابنة الرسول وزعيم الأمّة، وذلك يعني أنها كانت على قدر كبير من الشعور بالمسؤولية.
*زينب عليها السلام (بنت الزهراء) لم تكن إماماً
لاحظوا كم تستلزم وضعية هذه المرأة من صلابة حتى تفيض بها على الزوج ليكون متفرّغاً من هموم ومصاعب الحياة، ولتبعث فيه السكينة والطمأنينة، وتربّي الأولاد تلك التربية العالية. فإذا قيل إن الحسن والحسين إمامان ومجبولان على العصمة، فزينب لم تكن إماماً، ولقد ربّتها فاطمة الزهراء عليها السلام تربية صالحة خلال تلك السنوات القصيرة.
ألا يمكن أن يكون كل هذا مثالاً تحتذي به الفتاة أو ربّة البيت أو من تشرفت توّاً وأصبحت ربّة بيت؟ هذه الجوانب مهمّة جداً.