بلال اللقيس
إنّ عالمية الإسلام، الذي جعله الله قياماً للناس وحياة، تستلزم من الأمة وجمهور المسلمين وعيه "كرسالة"، وما يرتبه ذلك من انفتاح واعتراف بالآخر ونظرة إيجابيّة مبدئيّة إليه تتيح إيصال الرسالة وتحقق البلاغ... فأن تكون الغاية "لتعارفوا" كما ورد في الآية: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13) يعني أن تسلك الرسالة الإسلاميّة قلوب الآخرين. وبذلك تسعى لرفع الحواجز المصطنعة والأوهام المختلَقَة مع الآخر...
*كثرة الصداقات.. من الدين
ينبثق عن هذه النظرة، وهذا الفَهم، أنّ الدين الإسلامي بمنطقِهِ وطبيعة خطابِه يُكثر "الصداقات" كأصل "... إما أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق"(1) ويتجنب "العداوات" ويقلّصها، فلا يضع الإسلام أيّ اختلاف أو تباين في خانة العداوة، إذ إن للعداوة والعدو معنى خاصاً يقضي الأخذ باعتبارات وشرائط سياسيّة وثقافيّة واجتماعيّة وحتى نفسيّة....
فمثلاً، حرّم الشارع المقدس على المسلم اختراع أعداء للهروب إلى الأمام حال الأزمات أو المشاكل التي تعتري صفّه، كما سوّغت أو تسوغ الأنظمة الوضعية، اليوم، لا سيما الغربية.
بل، وتذهب الأطروحة الدينية أبعد من ذلك فتصرّ على التمييز والفصل بين عداوة الدولة "كشعب" وعداوتها "كنظام سياسي"، إلّا ما استثني بدليل واضح كحالة التجمّع الصهيوني الاستيطاني اليوم في فلسطين المحتلة.
*عدم التفريط بالهويّة الدينيّة
إنّ الإسلام بالقدر الذي يدعو أتباعه للانفتاح والمبالغة في السعي، وبذل الوسع، لهداية الناس وتعريفهم بالرسالة، فإنه بالقدر نفسه ينبّه المسلمين أفراداً وجماعةً لضرورة تحصين هويّتهم وعدم التفريط بأيٍّ من مرتكزاتها وخصائصها وأحكامها، إذ إنّ أي خدش أو تضييع أو تمييع لأيّ جزء أو حكم من أحكامها لا يرتدُّ على واقع المسلمين والأمة فحسب، بل يُؤثر على هداية البشرية جمعاء.
لذا، أمكننا بسياحة فكرية مع كتاب الله تعالى أن نتعرّف إلى عظيم الجهد الذي بذله الأنبياء والأوصياء ليبيّنوا معالم الهويّة الفردية للمسلم والجماعيّة للأمة والحدود، بدءاً من المصطلحات ﴿لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا﴾ (البقرة: 104) مروراً بأحد أبعاد وأوجه تغيير القبلة إلى البيت الحرام ﴿فَوَلُّواْ وُجُوِهَكُمْ شَطْرَهُ﴾ (البقرة: 144) وليس انتهاءً بإحداث الإصلاح الداخلي لجميع الوافدين إلى الدين الحنيف ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ ادْخُلُواْ فِي السِّلْمِ كَآفَّةً..﴾ (البقرة: 208) وغير ذلك الكثير مما لا تتسع له هذه الأوراق.
فالهوية قوامها تعريف بالذات وترسيم للحدود مع الآخر باختلاف ألوان طيفه قرباً أو بعداً.
*أساليب المواجهة بوعي وحكمة
انطلاقاً مما تقدم، وفي محضر أمتنا... وفي زمان بلغ التداخل والتفاعل الثقافي والفكري فيه مَدَيات غير مسبوقة، تبدو الأمة أمام تهديدات تفرض التصدي بوعي والمواجهة بحكمة واجتراح الأساليب والوسائل المناسبة لكلّ حالة بحسبها.
1 - عدو بلبوس صديق: يلقي "بأمنيته" الوعد بحياة أفضل شريطة اتّباع منهجه والسير خلفه والاحتذاء به، فله -كحالة حداثوية متحضرة بزعمه- أهليّة تحديد المتقدم من المتخلّف والمتطوّر من النامي لوضع مسارات التقدم الإلزامي للشعوب والأمم.
2 - الآخر الصديق: والذي من مدخل التفاعل العفوي والطبيعي أو التلقائي معه قد تتسرّب عبره بعض القيم والمفاهيم الهجينة وغير المنسجمة إلى منظومتنا. فيضرب تحتك حيث لا تدري، إذ عادة ما تخلّف "الصداقات المتعارفة" في زماننا و"التقليدية" تجاوزاً وتؤثر ولو لماماً، بهاجس المصلحة المشتركة.
3 - أخٌ لك في الدين: جاهل.. وآخر منافق: أولهم يشوّه الرسالة ويخدم العدو كحصان طروادة بجهله وتعنّته، والآخر يتمثّله "مسجد ضرار" اليوم.
*عدو أم صديق؟!
وللإضاءة أكثر على المسائل الآنفة -ولو بإيجاز- نقول:
أولاً: لن ننهمك في الحديث عن عدوّ أظهر عداوته فهذه الحاله آخذة بالأفول لسهولة تشخيصها وانكشافها. أما اليوم فإن الخشية من حالة فإنّ مكرهم وكيدهم صار "لتزول منه الجبال". فمع تنامي وسائل الاتصال الحديثة، وبعد صحوة الشعوب المستضعفة واستحضارها للقيم الدينيّة السامية، فإن الغرب، ما عاد، ولا الولايات المتحدة أيضاً، قادرَين على تكرار الإبادات الجماعية وإظهار توحشها العلني وتهديدها، بل لقد أصبح العدو أكثر من أي يوم مضى يبحث عن مسوغات المظلات القانونية والأخلاقية برأيه لتبرير مآربه وغاياته. لذلك يزداد حضور مفردات "القوة الناعمة" و"الغزو الثقافي" و"الاحتواء"، عبر وسائل القانون الدولي وتشريعات مجلس الأمن والمؤسسات الدوليه أفضل سبل بلوغ الأهداف... وبالتوازي دائماً مع قوة الردع العسكرية والعصا الخشنة. واليوم بات العالم يرى كيف تدوس أميركا وحلفاؤها كرامات الأمم والشعوب بالقوانين التي شرعوها بأنفسهم لأنفسهم.
أما مسؤوليتنا اتجاه هذا العدو الخطير فتوجب العمل لإسقاط نموذجه في أعين الناس وتبيان زيفه، وهذا يتطلب سياسات وقائية دفاعية وهجومية في آن عبر ميادين التحدي والمواجهة المختلفة ( الثقافية، الفكرية والنفسية و...) كما يتطلب تعميق الخطاب الديني بحيث لا يتعرف الناس إلى الإيمان والإسلام فحسب ليتبعوه، بل على الكفر والشرك والفسق وأهله ليجتنبوه، فدون ذلك لا تكتمل الهوية ولن تتقوّم الشخصيّة الفرديّة والجماعيّة للأمة.
ثانياً: تقضي منا أن نعلن "هؤلاء نحن، وهذه أطروحتنا، فلنأخذها بقوة ولا يكن في صدرنا حرج منها لننذر بها".
ونعيد تعريف "الصداقة" بين الأفراد والجماعات البشرية لا أنها مجاملة أو مصانعة أو مضارعة أو تمييع للحدود الثقافية والاعتقادية، بل طريق وسبيل إلى "لتعارفوا". إنها تعاون وانفتاح على قاعدة الأخلاق والقيم الإنسانية المشتركة. إنها حوار تلاقٍ وتكامل... كما قال عزَّ من قائل: ﴿وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا﴾ (الحجرات: 13).
ثالثاً: "أخ في الدين جاهل، وابن عم منافق".
وهنا المسؤولية تبدو أخطر، حيث إن الجهل والجهالة يستولدان ويكتنفان كل استعباد واستغلال وتمكين للعدوّ وهنا المكمن؛ ما يتطلب شجاعة حكيم. والأمة كلها معنية بما إلنا إليه اليوم من فتن ونزف. فحيثما يتخاذل ويقصر أهل العلم والرأي والمعنيون في هذه الأمة، تحل الفتنة التي ﴿لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُواْ مِنكُمْ خَآصَّةً﴾ (الأنفال: 25). اليوم وقبل الغد نحن مدعوون بلا مزايدة ولا مكابرة للعمل بكل مسؤوليّة وحكمة للتصدي لها.
فالجاهل لا تراه إلّا مُفرِطاً أو مُفَرِّطاً وفي كلتا الحالتين تنكشف الأمة أمام أعدائها.
رابعاً: أما حديثنا عن "ابن عم منافق -حاقد-" لا يريد سماع الواعية، فليس لنا أمامه إلّا المقاومة بالصبر والتحمّل حتى ييأس فيهوي ويسقط أو يجري نقداً ذاتياً لموقفه وهو ما نتمنّاه... فصَمداً، صَمداً على من قدمَّ للوثبة يداً وأخَّر للنكوصِ رِجلاً، حتى ينجلي عمود الحق...
1- وهو مضمون ما ورد عن أمير المؤمنين عليه السلام في كتابه لـ"مالك الأشتر": "إنهم صنفان: إمّا أخٌ لك في الدين وإمّا نظير لك في الخلق".