لقد درس الباحثون والمؤرخون العوامل التي كانت الدافع وراء قيام الإمام الحسين عليه السلام بثورته المباركة، فطرحوا عوامل متعددة تنوعت واختلفت من باحث لآخر. وبرز بعضها كعامل أساسي وبعضها الآخر كعامل ثانوي من عوامل الثورة. ونحن بدورنا سنعرض لهذه العوامل مجتمعة وهي ثلاثة:
1: البيعة ليزيد وموقف الإمام منها:
فبعد موت معاوية واستلام الحكم، أرسل هذا الأخير إلى حاكم المدينة برسالة أخبره فيها بموت معاوية وانتقال الأمر إليه وأمره فيها بأخذ البيعة من الإمام الحسين عليه السلام فإن أبى فليضرب عنقه. وذلك لمعرفته بالمكانة والمقامة اللذين للإمام عليه السلام لدى الناس، وللتأثير الذي يؤثره فعله عليه السلام فيهم فيما لو رفض المبايعة.
فقد كان يزيد على علم بالخطر الذي سيحدق به وبنظام الحكم فيما لو ترك الحسين عليه السلام حراً بين الناس دون مبايعة. وقد شخص الموقف آنذاك تشخيصاً صائباً، حيث اعتبر أن عدم مبايعة الإمامعليه السلام للحكم الجديد يعتبر خروجاً عليه ومعارضة له ووقوفاً بوجهها، وهذا ما لا يستسيغ ليزيد أن يراه أو أن يقع فيه. ولذا حسم أمره وشدد أوامره بقتل الحسين عليه السلام إن لم يبايع حتى ولو كان متعلقاً بأستار الكعبة.
ومن الطبيعي أن يكون موقف الإمام الحسين عليه السلام الرفض لهذا الواقع القائم، وللبيعة لهذا الحاكم الجائر، الذي اغتصب الخلافة، وأمر نفسه على المسلمين "ومثلي لا يبايع مثله".
فشخصية يزيد الماجنة وأخلاقه المخلّة غير خافيتين عليه ولا على أحد من المسلمين كيف لا وهو المتجاهر بالفسق والفجور والمعاصي ولا يتوانى عن ارتكاب الموبقات ولا يرعى لله ذمة، ولا لمؤمن حرمة. إضافة إلى ذلك كله فهو يفتقد إلى الكفاءة واللياقة لسياسية الجديرة بأن تتوفر في الحاكم.
وعلاوة على ذلك فإن، يزيد لم يكن مستعداً لمراعاة المصالح الإسلامية بتاتاً، بل كان يسيِّر الأمور حسبما أهوائه الشخصية ونزواته ورغباته الفردية، بخلاف والده الذي كان رغم فسقه مراعياً لها. وذلك لمعرفته بأن ملكه لن يدوم دون ذلك، وأن القوميات المختلفة لم تنضوِ تحت حكومة واحدة إلا لاعتقادها بأنها تحكم باسم الإسلام حيث لم يكن له خيار آخر سوى مراعاتها.
وهكذا، فقد امتنع الإمام عليه السلام عن البيعة ليزيد لترتب مفاسد كبرى عليها أهمها:
أ - إضفاء المشروعية على الخلافة الوراثية من قبل الإمام عليه السلام. فمبايعة الإمام عليه السلام ليزيد كانت تعني القبول بمبدأ توارث الخلافة لابن عن أب، سواء وجدت الكفاءة في الوريث أم لا.
ب - شخصية يزيد الماجن اللاعب بالقرود، الذي كان يلبس القرود الألبسة الحريرة ويجالسها أكثر مما يجالس رجال الدولة والجيش، والذي كان مجرد وجوده في الحكم يمثل حرباً على الإسلام. ولهذا يقول الإمام عليه السلام: "وعلى الإسلام السلام إذا بليت الأمة براعٍ مثل يزيد".
ومن هنا، نستطيع القول أن عامل البيعة ليزيد وامتناع الإمام عنها امتناعاً شديداً "والله لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا أقر لكم إقرار العبيد" هو العامل الأول من العوامل المؤثرة في النهضة الحسينية.
2: دعوة أهل الكوفة:
ونستطيع أن نعتبر هذا العامل - نظراً للظروف والأحداث المتتالية، آنذاك - عاملاً ثانوياً وليس أساسياً في النهضة الحسينية فخلافاً لما يظنه البعض أو تذهب إليه بعض التواريخ، من أن أهل الكوفة دعوا الإمام عليه السلام للقيام والنهوض على أن ينصروه وعندما توجه إليهم خانوه وغدروا به، مما أدى إلى استشهاده عليه السلام تدل التواريخ المتواترة أن رسائل أهل الكوفة لم تصل إلا بعد مضي حوالي شهرين من مغادرة الإمام للمدينة وبداية تحركه الجهادي، وأنهم لم يطلبوا نصرته إلا بعد علمهم بخروجه وتحركه عليه السلام ومن هنا فإن قرار أهل الكوفة بنصرة الإمام كان نتيجة لخروجه وتحركه الجهادي، وليس العكس، وعليه لا يمكننا اعتبار عامل دعوة أهل الكوفة عاملاً أساسياً في النهضة الحسينية.
نعم يمكننا القول بأن الحد الأكثر لتأثير هذا العامل، هو سحب الإمام من مكة إلى الكوفة.
وقد حاول البعض تفسير القول الذي ورد عن الإمام الحسين عليه السلام والذي خاطب فيه أهل الكوفة حين وصوله إلى حدودها واصطدامه بجيش الحر بن يزيد الرياحي: "أيها الناس، إذا كرهتموني فدعوني أنصرف إلى مأمني من الأرض"، بأنه تمايل من قبل الإمام نحو الاستسلام ليزيد والمبايعة له.
إذ الحجة التي قد تمت عليه بنصرة أهل الكوفة له، قد سقطت عنه بخذلانهم، وأن تكليف الإمام تحول من الثورة والنهوض إلى الحفاظ على نفسه وعقد الصلح. وما ذلك إلا لرؤية أصحاب هذا التفسير بأن دعوة أهل الكوفة عامل أساسي، وأن الإمام لم يتحرك إلا بدعوة منهم، فإذا ما تخلوا هم عن النصرة، ترك هو هذا الأمر وانصرف إلى المصالحة مع النظام.
ويتجلى تهافت هذا التفسير من أحجام الإمام عن المبايعة وعقد الصلح فعلياً، بالرغم من عدم وجود أي مانع أو عقبة من قبل الأعداء بمنعانه عن ذلك. والتاريخ يحدث بأن القوم ما كانوا يريدون منه سوى المبايعة والنزول تحت حكم يزيد.
ثم إن هناك تساؤلاً يطرح نفسه وهو: إذا ترك أهل الكوفة الإمام وانصرف هو إلى أي جهة من الجهات، هل كل سيترك النهوض والثورة ويلقي عن كاهله مسئولية الجهاد ومحاربة الواقع الفاسد القائم؟ ومن ثم يتخلى عن مبدأ أساسي وهام جداً في الإسلام هو مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؟
يتبدى من كلام الإمام عليه السلام قبل تحركه وبعده، وفي أيام عاشوراء أنه لن يتخلى عن هذا التكليف مهما كانت الظروف والنتائج، وحتى لو أدى ذلك إلى مقتله فتراه يبيّن السبب في خروجه: إني لم أخرج أشراً ولا بطراً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، وأسير بسيرة جدي وأبي" وظل متمسكاً بهذا المبدأ إلى آخر نفس من حياته الشريفة، دون كلل أو ملل، أو ملاينة أو مهادنة.
3: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر:
هذا العامل هو الأهم من العاملين السابقين، ونستطيع القول أنه العامل الأساسي في النهضة الحسينية. وذلك أن الإمام قام بنهضته على أساسه بغض النظر عن العاملين الآخرين (وإن كانت العوامل الثلاثة مجتمعة ذات أثر مشترك في النهضة الحسينية).
فالإمام عليه السلام حينما أشار إلى سبب خروجه لم يذكر مسألة البيعة ليزيد، ولا مسألة دعوة أهل الكوفة له، وإنما أشار إلى موضوع الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ذينك المبدأين اللذين يحتلان مكانة رفيعة في التعاليم الإسلامية، واللذين بهما كانت الأمة الإسلامية "خير أمة أخرجت للناس".
فقد قال عليه السلام مستنداً في نهضته المباركة إلى أوامر جده المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم بتغيير الحاكم الظالم حيث قال صلى الله عليه وآله وسلم: "من رأى منكم سلطاناً جائراً، مستحلاً لحرم الله، ناكثاً لعهد الله، مخالفاً لسنة رسول الله صلى الله عليه وآله، يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان، فلم يغيّر عليه بفعل، ولا قول، كان حقاً على الله أن يدخله مدخله".
وقال عليه السلام في موضع آخر: "إني ما خرجت أشراً ولا بطراً، ولا مفسداً ولا ظالماً إنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي، أريد أن آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر وأسير بسيرة جدي وأبي".
فالحسين عليه السلام لم يكن يطلب الجاه، ولا المال والثروة والسلطان، إنما أراد الثورة على الظلم والواقع الفاسد المستشري آنذاك، لتغييره وإقامة الحكومة الإسلامية الفعلية مكانه، التي تسوس الناس بالعدل والإنصاف.
ومن هنا يظهر الإمام عليه السلام رجل الثورة الذي اختار طريقها بنفسه وبكامل إرادته حين رؤيته الأوضاع المتردية في مجتمعه ورجل الإصلاح المتفاني في إصلاح أمة جده التي كانت على شفا جرف من التفتت والضياع، حتى ولو بذل نفسه الطاهرة في هذا السبيل. ولذا تراه يقول مصوراً الوضع القائم وموقفه منه: "ألا ترون إلى الحق لا يعمل به وإلى الباطل لا يتناهى عنه، ليرغب المؤمن في لقاء الله محقاً. إني لا أرى الموت إلا سعادة والحياة مع الظالمين إلا برماً".
وهكذا نجد أن شعار الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ومقارعة الفساد، هو الذي قاد الحسين عليه السلام منذ اليوم الأول لنهضته ولتحركه من المدينة، وجعله بموقع المهاجم الذي قرر التصدي لحكام الزمان، وصاحب المبادرة في التمرد ضد الحكم ونظام الحكم، وذلك أداءً للتكليف الإلهي المسؤول عنه أمام الله تعالى. فسطر بدمائه الزكية أروع ملحمة عرفها التاريخ، لا زالت أصداؤها تتجدد مطلع كل عام هجري وفي كل يوم، "كل يوم عاشوراء" وفي كل أرض "كل أرض كربلاء" وفي كل زمان يعيش فيه حسين ويعبث فيه يزيد.
فالسلام على الحسين عليه السلام وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين عليه السلام وعلى أصحاب الحسين عليه السلام ورحمة الله وبركاته.