د. نبيل ألماس(*)
يعاني كثير من الناس من حالات دائمة من القلق والتوتر, ويفتقدون طمأنينة النفس وراحة البال, جراء الضغوط التي يتعرضون لها, ونتيجة الظروف الصعبة التي يمر بها المجتمع بشكل عام, سواء على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي, أو على الصعيد السياسي, والحروب والأحداث الأمنية المتنقلة. فالأزمات المختلفة تتكاثر وتتراكم معها الهموم, بينما القدرات والإمكانيّات الشخصيّة والاجتماعيّة للأفراد تتناقص وتضعف.
*حالة صحيّة سلبيّة
وقد ساهمت أساليب الحياة الحديثة التي تسير بوتيرة سريعة وضاغطة, بما فيها من حاجات وكماليات ونمط استهلاكي في زيادة حدَّة هذه المشكلة, والتسبُّب بضغوط مفرطة ومستمرة, يمكن أن تنتج عنها اضطرابات نفسية, تـؤدي إلى حالات من الاكتئاب الشديـد, الذي قد ينتج عنه حالات صحية سلبية جداً. إن خطورة المشكلة واتساعها, جعل البعض يـُطـْلِق على العصر الذي نعيش فيه اسم "عصر الاكتئاب". وجاء في إحصائيات منظمة الصحة العالمية, أن 10 % من سكان العالم يعانون من الاكتئاب (هذا عدا الحالات الكثيرة التي لا يذهب أصحابها إلى الطبيب, فلا تكون مسجّلة ومحتسبة ضِمن هذه النسبة), كما تتوقّع منظّمة الصحة العالمية, أنه وبحلول سنة 2020, سيفوق عدد المصابين بالاكتئاب عدد المصابين بالأمراض القلبية, وينبغي أن نلتفت إلى أنّ الضغط النفسي هو المسبب الأول والأهم لهذه المشكلة.
*تعريف الضغط
الضغط هو جزء طبيعي في حياة الإنسان, وضعه الله سبحانه وتعالى فينا, لتلبية حاجاتنـا والدفاع عن أنفسنا, ويمكن أن نشبّهه بالرياح التي تحرّك السفن الشراعية, فبدونها لن تتحرك سفننا في بحر الحياة. وهو تجاوب الإنسان وتفاعله مع الأحداث والوقائع, وإن أي حادثة أو واقعة تتطلب منـَّا استخدام قدراتنا الجسدية أو العقلية, تستدعي قدراً من الضغط في أجسامنا لتتمكّن من التعامل مع الحدث, وعندما نعاني من الضغط, فهذا يعني أننا أصبحنا جاهزين لهذا الأمر.
إن أحاسيس التوتر والقلق والخوف مثلاً, إنما هي مظهر من مظاهر الضغط التي نتعرض لها, والتي تؤدي إلى التيقّظ والحذر, وهي تأتي بناءً على إشارات الجهاز العصبي اللاإرادي ضمن آلية: (استجابة الضغط Stress Response). ويوجد مستويان من الضغط:
1 - (المعتدل):
وهو ضروري، وبه يستطيع الإنسان التعامل مع أحداث ووقائع الحياة.
2 - السلبي (المفرط / الممتد):
يؤثر سلباً على حيـاة الإنسان, وقد يتسبَّب بأمراض نفسيـة وجسديـة، وهنا المشكلة. (يُطلق على هذا المستوى مصطلح "الإجهاد Stress").
*من أسباب الضغط
توجد أسباب كثيرة للضغط, منها الاجتماعية, الفيزيولوجية, البيئية. وكذلك أساليب التفكير, مثل: المشاجرات, موت شخص عزيز, مصاعب مالية, فقْد عمل, الأمراض وخاصة المزمنة منها, الضجيج, الازدحام, العنف, الفقر, تضخيم الأمور, التوقف عند كل صغيرة وكبيرة, العناد والتحجر, إلخ...
*آلية الضغط وانعكاساته السلبية
إنّ أي مطلب في مواجهة حدث أو واقعـة أو فكرة, يتطلب منـَّا استعمال قدراتنـا الجسدية أو العقلية, يثير فينا "آلية استجابة الضغط", عندها يجري فرز هرمونات الضغط في مجرى الدم, وهي تشمـل مثيـرات (منبـِّهات قوية), مثل الأدرينالين, ونورأدرينالين, والكورتيـزول, وهذه الإفـرازات تُسَبِّب تدفقـاً سريعـاً للطاقـة, لكي نستطيع التفاعـل مع الحدث, وهذا ما يؤدي مثلاً إلى ارتفـاع ضغط الدم وزيادة خفقـان القلب. في حال استمرت "آلية استجابة الضغط" في أجسادنا بالعمل, نتيجة التعرض المـُفـْرِط والمستمر لمسبـِّبات الضغوط, واستمر فرز الهرمونات المنبـِّهة, (بدون فترات راحة واسترخاء), يمكن أن تحدث مجموعة من الأعراض الصحية السلبية (الجسدية والنفسية).
1 - الأعراض الجسدية:
آلام في أماكن مختلفة من الجسم, عسر هضم, غثيان, قيء, إسهال, إمساك, تسارع نبضات القلب, تعب وإرهاق, تغيـُّرات في أنماط النوم, شـحوب, زيادة الكولسترول والتريغليسيريد, إلخ...
2 - الأعراض الانفعالية:
اكتئاب, إحباط, حدَّة طبع, انزواء, لا مبالاة عاطفية، إلخ...
3 - الأعراض السلوكية:
إفراط في التدخين, فساد في العادات (كالنظافة والمظهر), قضم الأظافر, إلخ...
4 - الأعراض العقلية:
فقدان التركيز, تشوُّش, ارتباك, ضعف الذاكرة, إلخ...
*أمراض مرتبطة بالضغوط
عن أمير المؤمنين عليه السلام: "الهم يـُذِيبُ الجسد"(1). فتؤدِّي كثرة الضغوط النفسية, إلى العديـد من الأمراض والمشاكل الصحية, فهي مثلاً تـُضْعِف المناعـة, وتسبـِّب تصلـُّب الشراييـن وأمراض القلب الوعائيـّة, وغالباً ما تـُقـْرَن بالإصابة بالقرحـة, كما أنها تُوِقـِّف إصلاح الأنسجـة وصيانتها وإعـادة تشكيلها, وهـو ما يتسبب بالتـالي في انتـزاع الكالسيـوم مـن العظـام (هشاشة العظام وتعرضها للكسور), كما أن ضعف جهـاز المناعة, يمكن أن يـؤدِّي إلى تفاقـم أعراض العديـد من الأمراض.
*الاكتئاب المقنَّع
في أحيان كثيرة لا تبدو على المريض أعراض الاكتئاب, لكنه يشكو من أعراض جسديـة مثل الصداع, ألـم الظهر, عسر الهضم, إلخ... وجاء في بعض الدراسات أن ثلث الحـالات التي يذهب فيها المرضى إلى الأطبـاء, يكـون فيها الضغط هـو المشكلة, وإن نسبة 15 % من المرضى الذين يتـم تحويلهم إلى أطبـاء القلب, هـم في الواقع يعانـون من الضغوط, وليس لديهـم أي مشكلة في القلب.
*نصائح ومهارات لتخفيف الضغوط
1 - الأمان الروحي:
إن القرب من الله سبحانه وتعالى يوفّر طمأنينة النفس والصبر الجميل, وبه تـَهـُونُ مصاعب الدنيا وشدائدها, لأنها بعين الله عزَّ وجلَّ. ولنتذكر قول الإمام الحسين عليه السلام في كربلاء: "هوَّن ما نزل بي أنه بعين الله", ولنعلم أن من مرتكزات هذا القرب الثقة بالله والرضا بقسمه. ونستشعرها من خلال:
أ- قول: لا حول ولا قوة إلا بالله
فقد قال الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: "لا حول ولا قوة إلا بالله" فيه شفاء من تسعة وتسعين داء, أدناها الهم"(2).
ب- استرجع
فقد قال تعالى: ﴿الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُم مُّصِيبَةٌ قَالُواْ إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعون﴾ (البقرة: 156).
ج- أحسن الظن بالله سبحانه وتعالى وارضَ بما قسم
عن الإمام الصادق عليه السلام: "إن الله بعدله وحكمته وعلمه, جعل الروح والفرح في اليقين والرضا عن الله, وجعل الهم والحزن في الشك والسخط, فارضوا عن الله وسلِّموا لأمره..."(3).
د- زيارة القبور
قال أمير المؤمنين عليه السلام: "من ضاق به أمر فليذكر القبر, فإنه يتسع"(4).
هـ- عطِّر مَنْ حولك
"الرائحة الطيبة تشرح الصدر" كما قال الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم.
و- كـُلِ العنب
"شكى نبيٌّ من الأنبياء إلى الله الغم, فأمره بأكل العنب" (الإمام الصادق عليه السلام).
2 - التفكير الإيجابي:
توجد علاقـة وطيـدة بيـن نمـط تفكيـر الإنسان وبيـن مشاعره ومزاجـه, ما هي نظرتنا للحيـاة؟ ماذا نقـول لأنفسنـا عند مواجهة الأحـداث والوقائع؟ هل نعتبر مثلاً أمراً ما مـُفرِحاً أم مـُحزِناً لنا؟ مـُزعجاً أم مريحاً؟ إلخ ..., وقد يختلف تأثير الحدث نفسه بين الأشخاص, فما قد يكون مستفزاً لشخص ما, قد يكون باعثاً على الفرح لشخص آخر, وقد لا يبالي به شخص ثالث, وهذا يرجع إلى اختلاف نظرتهم إلى نفس الواقعة بسبب نمط تفكير كلٍّ منهم, ونجد في أمثالنا الشعبية ما يشير إلى هذا الارتباط بين طريقة التفكير والمشاعر مثل: "هـَوِّنـْها بـِتـْهـُون". قال أمير المؤمنين عليه السلام: "المصيبة واحدة فإن جزعت كانت اثنتين"(5). إن أنماط التفكير السلبي أو اللامنطقي تؤدي غالباً إلى معاناة الضغوط, وإذا كنـَّا دائماً نواجه الأحداث بنظرة إيجابية وبنمط تفكير إيجابي فسنتجنب تلك المعاناة.
3 - تقنية التأمل:
اجلس في وضع منتصب مريح, أو استلقِ إن وجدت ضرورة لذلك. صفِّ ذهنك, وأخرج منه كل الأفكار, تأمل كلمتي ( يا/ رب), أغمض عينيـك, تخيـَّل أن النـَّفـَس الداخـل يُحـْدِث صوت (يا), والنـَّفس الخارج يُحـْدِث الصوت (رب), وعندما يدخل النـَّفـَس في أنفـك, اسمع (في ذهنك) الصوت (يـــــاااااااااا) خلال كامل مدة الشهيق, والصوت (رررررررب) خلال كامل مدة الزفير. إذا تشتت انتباهك فلا تحكم على نـَفـْسـِك بالفشل, بل أرجع تركيزك إلى ذاك الصوت. تابع هذا التمرين لمدة 5 إلى 10 دقائق.
4 - تقنية التنفس العميق:
ابحث عن مكان هادئ, يسمح لك بأن تنفذ هذه التقنية في أي وضعية تختارها. يمكنك أن تختار وضعية الجلوس أو وضعية الاستلقاء. صفِّ ذهنك, وأخرج منه كل الأفكار.
ضع يـدك علـى معدتـك, استنشـق ببـطء مـن خـلال أنفـك, مالئاً القسـم السفلـي مـن الرئـة بحيث ترتفع يـدك (الموضوعة على معدتك) أثنـاء دخـول الهـواء, وأكمـل مـلء القسـم العلـوي حـول القـلـب. عدّ (في ذهنك) ببطء إلى الرقم 5 عند الشهيق 1... 2... 3... 4... 5 - ينبغي جعل الزفير أطـول من الشهيق.
ملاحظة: إن تقنية التأمل وتقنية التنفس العميق, من التقنيات المهمة جداً في تخفيف انبعاث الهرمونات المسبـِّبة للتوتر, وتحفيز انبعاث الهرمونات المسبـِّبة للاسترخاء.
أخرج الهـواء ببطء عبـر الفـم, إبـدأ أولاً بإفـراغ القسم الأعلى من الرئة, ومن ثم القسم الأسفل, إلى أن تنخفض يـدك (الموضوعة على معدتك), ودع السرَّة تهبط باتجـاه العمـود الفقـري. عد (في ذهنك) إلى الرقم 8 عند الزفير 1... 2... 3... 4... 5... 6... 7... 8، من الجيد أن تكون البداية لفترة 5 دقائق.
5 - الرياضة:
تفيد كثيراً في تبديد الطاقة الزائدة المتولِّدة من الضغوط, وهي تحفـِّز إفراز هرمون "بيتا إندورفين" الباعث على الشعور بالراحة والاسترخاء. كما أن هناك الكثير من الوسائل والمهارات الأخرى المفيدة في هذا المجال, مثل: الابتعاد عن الكافيين, الاستحمام, التدليك, الموسيقى الهادئة, مشاركة المشكلة مع صديق مقرب (الفضفضة), إلخ....
وبالختام نؤكد على دور الأمان الروحي في تخفيف المعاناة من الضغوط, وأن نثق بالله سبحانه وتعالى. وأن يكون نمط تفكيرنا إيجابياً في مواجهة المصاعب والعقبات.
(*) اختصاصي في التنمية الاجتماعية، من محاضرة له ألقيت في جمعية أمان.
1.ميزان الحكمة، الريشهري، ج1، ص610.
2.بحار الأنوار، المجلسي، ج71، ص88.
3.الوافي، الكاشاني، ج4، ص269.
4.شرح نهج البلاغة، ابن أبي حديد، ج20، ص336.
5.عيون الحكم والمواعظ، الليثي الواسطي، ص26.