لم يهمل النبي الكريم مسألة تعيين الخليفة من بعده منذ أنذر عشيرته الأقربين وحتّى توفاه الله، لكنّ المساعي السياسية التي جرت بعد الرسول، وأهمّها منع كتابة الحديث بحجّة عدم اختلاطه بالقرآن، حاولت أن تدخل في أذهان الناس أنّ رسول الله لم يعيّن خليفة.
إلاّ أنّ الروايات الكثيرة المذكورة في كتب الفريقين سنة وشيعة لا تدع مجالاً للشكّ بأنّ النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم عيّن علياً عليه السلام إماماً على الناس وخليفة من بعده، وهناك بعض هذه الروايات، ومن رام استقصاء مصادرها لدى أهل السنّة فليراجع الكتب المتخصّصة في هذا المجال، لاسيّما "الغدير" للعلامة الأميني "والمراجعات" للسيد شرف الدين.
* حديث الدار
جاء في كتب التاريخ الإسلامي أنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله قد أمر بإعلان دعوته، التي كانت ما تزال سريّة، في السنة الثالثة من البعثة، كما جاء في الآية 214 من سورة الشعراء: ﴿وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِين﴾.
فدعا الرسول صلّى الله عليه وآله أقرباءه إلى بيت عمّه أبي طالب، وبعد تناول الطعام، قال: "يا بني عبد المطلب إنّي أنّا النذير إليكم من الله عزّ وجل فأسلموا وأطيعوني تهتدوا" ثمّ قال: "من يؤاخيني ويؤازرني ويكون وليّي ووصيّي بعدي وخليفتي في أهلي ويقضي ديني"؟ فسكت القوم، فأعادها ثلاثاً والقوم ساكتون، وعلي عليه الصلاة و السلام يقول: "أنا" فقال في المرّة الثالثة: "أنت". فقام القوم وهم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّره عليك.
وفي رواية أخرى أنّه قال له "ادنُ مني"، فدنا منه ففتح فاه ومجّ في فيه من ريقه وتفل بين كتفيه وثدييه وقال: "ملأته حكماً وعلماً".
وهذا الحديث الشريف واضح في دلالته بما لا يدع مجالاً للشك.
* حديث المنزلة
تحرك رسول الله صلّى الله عليه وآله نحو تبوك "وهي تقع في شمال جزيرة العرب قرب الحدود مع امبراطورية الروم ". وكان النبي صلّى الله عليه وآله قد أخبر بأنّ إمبراطور الروم قد جاء بجيش عظيم يريد أن يهاجم به الحجاز ومكّة والمدينة لكي يخنق الثورة الإسلامية في مهدها قبل أن يصل برنامجها الإنساني والتحرّري إلى تلك المنطقة، فتحرّك النبي صلّى الله عليه وآله إلى تبوك، تاركاً عليه مكانه في المدينة، فقال علي عليه الصلاة و السلام: أتتركني بين النساء والأطفال، ولا تسمح لي بالاشتراك في الجهاد معك؟
فقال له رسول الله صلّى الله عليه وآله: "ألا ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلاّ أنّه لا نبيّ بعدي".
وقد كرّر رسول الله صلّى الله عليه وآله هذا الحديث سبع مرات في سبع مناسبات مختلفة، مثل يوم المؤاخاة الأولى والثانية ويوم غلق الأبواب وغيرها، وهذا يدلّ على مفهومه العام، وإنّ جميع المناصب التي كانت لهارون في بني إسرائيل من موسى، باستثناء النبوّة، ثابتة لعليّ عليه السلام، ومنها أنّه كان وزيره وشريكه في أمره كما تشير الآية الكريمة ﴿واجعل لي وزيراً من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري كي نسبّحك كثيراً ونذكرك كثيراً﴾ طه "29-34 ".
* حديث الغدير
وهو من الأحاديث الصحيحة والمتواترة عند أهل السنّة والشيعة وهو صريح في وضوح دلالته على إمامة علي بين أبي طالب عليه السلام وإمرته على المؤمنين.
يقول الكثير من المؤرخين: إنّ رسول الله صلّى الله عليه وآله أدّى فريضة الحجّ في آخر سنة من سنوات عمره الشريف، وبعد الانتهاء من الحج، رجع معه جماعات غفيرة من أصحابه القدامى والجدد والمسلمين المولعين به الذين كانوا قد اجتمعوا من مختلف نقاط الحجاز ليلحقوا برسول الله صلّى الله عليه وآله في أداء فريضة الحج، وعند وصولهم إلى مكان بين مكّة والمدينة اسمه "الجحفة" تقدّمهم نحو "غدير خم " حيث كانت الطرق تتفرّق فيتفرق عندها الناس، كلّ إلى وجهته.
ولكن قبل أن يتفرّق الناس من هناك إلى أنحاء الحجاز، وانتظر حتّى لحق به الذين كانوا في الخلف. كان الجوّ حاراً جداً ومحرقاً، ولم يكن في تلك الصحراء المترامية ما يستظلّ به.
وبعد تأدية صلاة الظهر، أقيم لرسول الله منبر من أحداج الإبل، فارتقاه، وبعد أن حمد الله وأثنى عليه، وقال في جملة ما قال:
".. أمّا بعد، أيّها الناس، اسمعوا منّى أبيّن لكم، فإنّي لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا، أنا مسؤول وأنتم مسؤولون، ترى كيف تشهدون لي"؟
فرفع الناس أصواتهم قائلين: نشهد أنّك قد بلّغت ونصحت وجاهدت فجزاك الله خيراً.
فقال النبي صلّى الله عليه وآله: "أتشهدون بأن لا إله إلاّ الله وأنّ محمداً رسول الله وأنّ الله سيبعث من في القبور يوم القيامة؟" فقالوا جميعاً: نعم نشهد بذلك.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم اشهد"، ثمّ قال: "أنبئوني ما تفعلون بعدي بهذين الثقلين العظيمين اللذين سأتركهما بين ظهرانيكم؟". فقام رجل من بين الجميع وقال: أي ثقلين تعني يا رسول الله؟ فقال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "الثقل الأول وهو الثقل الأكبر، كتاب الله القرآن، ما إن أخذتم به لن تضلّوا، والثقل الثاني هو عترتي آل بيتي، ولقد أخبرني اللطيف الخبير بأنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض، إن سبقتوهما هلكتم، وإن تخلفتم عنهما هلكتم".
ثمّ نظر النبي صلّى الله عليه وآله إلى أطرافه كأنّه يبحث عن شخص، فلمّا وقع بصره على عليّ عليه السلام انحنى وأمسك بيده ورفعها حتّى بان بياض إبطيهما، فرآه الناس وعرفوه.
وارتفع صوت النبي صلى الله عليه وآهل وهو يقول: "أيها الناس، من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟"
فقالوا: الله ورسوله أعلم.
فقال صلى الله عليه وآله وسلم: "إنّ الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فهذا عليّ مولاه".
وكرّر هذا القول ثلاث مرات، أو أربع مرات على بعض الرواة، ثمّ رفع رأسه الشريف إلى السماء، وقال:
"اللهم والِ من والاه، وعادِ من عاداه، وأحب من أحبّه، وابغض من أبغضه، وانصر من نصره، واخذل من خذله، وادر الحقّ معه حيث ما دار".
ثمّ قال صلى الله عليه وآله وسلم: "ألا هل بلّغت؟"
قالوا: نعم.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: فليبلغ الشاهد الغائب.
وبعد ذلك، راح الناس يتزاحمون لتهنئة علي عليه السلام بالولاية. وكان منهم أبو بكر وعمر، اللذان تقدّما إلى علي عليه السلام يقولان: بخ بخ لك يا ابن أبي طالب، أصبحت وأمسيت مولاي ومولى كلّ مؤمن ومؤمنة!.
وقبل أن يتفرّق الجمع نزل جبرائيل الأمين بالآية الكريمة: ﴿حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ "المائدة /3 ".
فقال النبي صلّى الله عليه وآله: "الله أكبر، الله أكبر، على إكمال الدين، وإتمام النعمة، ورضى الرب برسالتي والولاية لعليّ من بعدي".
لقد سعى البعض للتشكيك في دلالة الحديث على الإمامة والخلافة، معتبراً أنّ كلمة "مولى" تعني الصديق، لكن وضوح الأمر على كلّ لبيت منصف يغنينا عن الخوض في مناقشة تفصيلية، ونكتفي في إيراد بعض القرائن الظاهرة من الحديث الشريف، منها:
1- نزول آية التبليغ قبل الحادثة، وهي ﴿يا أيها الرسول بلّغ ما أنزل إليكم من ربّك وإن لم تفعل فما بلّغت رسالته﴾ وهذا يدلّ على أمر خطير كالإمامة والخلافة لا أمر فرعي كالصداقة والمحبّة.
2- الطريقة التي وصف بها الحديث والظروف الصعبة كالصحراء المحرقة وغير ذلك.
3- قوله صلّى الله عليه وآله: "من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟" يدلّ على معنى المولى هو الأولى بالتصرّف والإمام والخليفة وليس الصديق.
4- الدعاء الوارد في قوله صلى الله عليه وآله وسلم: "اللهم والِ من والاه وعادِ من عاداه وانصر من نصره واخذل من خذله" فهو دعاء للولي والخليفة وليس للصديق.
5- إكمال الدين وإتمام النعمة بهذه الولاية حيث نزلت الآية الكريمة ﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾.
6- التهاني والتبريكات التي قدّمت لعليّ عليه السلام والقصائد الشعريّة التي نظمت في المناسبة، كلّ ذلك يدلّ على تنصيب علي عليه السلام في مقام الولاية والإمامة ولا شيء غير ذلك.
* حديث الثقلين
وهو من الأحاديث المشهورة والمعروفة بين علماء السنّة والشيعة هو "حديث الثقلين".
يقول الإمام الخميني قدس سره في مقدّمة وصيّته الإلهية موضحاً أهميّة هذا الحديث الشريف "ويلزم التذكير بأنّ حديث الثقلين متواتر بين جميع المسلمين، وقد روته كتب أهل السنّة "الصحاح الستّة " وغيرها عن الرسول الأكرم صلّى الله عليه وآله وسلّم بألفاظ متعدّدة وموارد متكرّرة فوصل حد التواتر.
فهذا الحديث حجّة بالغة على البشرية جمعاء لاسيّما المسلمين بمختلف مذاهبهم، فهم مسؤولون جميعاً عن ذلك بعد أن تمّت الحجّة عليهم. وإن كان هنالك من عذر للعامّة بسبب جهلهم وعدم اطلاعهم، فلا عذر لعلماء المذاهب الإسلامية".
أمّا نص الحديث، فهو كما ورد في ينابيع المودّة: "لما صدر النبي صلّى الله عليه وآله من حجّة الوداع قال على المنبر: يا أيها الناس إنّي مسؤول وإنّكم مسؤولون... إنّي تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي، وإنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض". وفي رواية "عترتي أهل بيتي ".
وقد كرّر رسول الله صلّى الله عليه وآله هذا الكلام على الناس مرات عديدة يوم عرفة، وفي الحجفة وفي غدير خم وهو على فراش المرض كما يدل على ذلك اختلاف الرواة والروايات. فهو صلّى الله عليه وآله قد أكّد هذا المفهوم مرات عديدة باعتباره مبدأ أساساً لكيلا يطويها التحريف أو النسيان.
إنّ التلازم بين القرآن والعترة يدلّ على أنّ العترة، وعليّاً أبرزها، لن تحيد عن الحق ولن تنالها يد التحريف، ولذلك كان التأكيد على التمسّك بهما حتّى لا يقع المسلمون في وادي الحيرة والضلال أبداً.
* حديث السفينة
ومن الأحاديث اللافتة التي توجب على الناس اتباع علي عليه السلام وأهل بيت رسول الله صلّى الله عليه وآله بعده الحديث المعروف بــــ"حديث سفينة نوح". وهو من الأحاديث المشهورة الواردة في كتب أهل السنة والشيعة. حيث يروي الفريقان عن أبي ذر رضوان الله عليه أنّه قال: قال رسول الله صلّى الله عليه وآله: "ألا إنّ مثل أهل بيتي فيكم مثل سفينة نوح، من ركبها نجا ومن تخلّف عنها غرق".
هذا ولو أردنا استقصاء الأحاديث الدالّة على إمامة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام لاحتاج الأمر إلى مجلّدات، ولذلك نكتفي بهذا المقدار والحمد لله على تمام الحجّة.