كلّ امرئ في هذه الحياة سعي دائم نحو الكمال إلاّ أولئك القانطون الذين انطفأ ضوء الوجود المطلق في قلوبهم، وأنّى أن ينطفئ؟!!
بل إنّ كلّ شيء وكلّ مخلوق تائق شائق كادح مفتقر في وجوده وفي سيره الكمالي نحو المطلق حتّى الطير والحجر والشجر هائم متبتّل مسبح منزّه متقرّب بالله وإليه جلّ وتبارك.
إنّنا جميعاً عباداً خاضعين تكويناً وفطرياً وتشريعياً إلاّ الذين نضب زيت الجمال والجلال في سراج كمالهم المطلق، وأنّى له أن ينضب؟!!
ليس للخلق ولا في صفحة الكون بل الوجود إلاّ تراتيل التوحيد ﴿كلّ قد علم صلاته وتسبيحه﴾ وحتّى الجحود والكفر إنّما بمعنى إنكار نور الحقيقة المضيء، أو بمعنى ستر الحقيقة المتلألئة وتواريها في الحجاب و ﴿خائنة الأعين﴾ يقترن بالإذعان لهذه الحقيقة. ﴿وما تخفي الصدور﴾ أيضاً تقترن بالوجود المطلق المستنير فالخفاء إنّما يكون لما من شأنه الظهور وهو فرع الوجود. وكذلك الخيانة إنّما تتعلّق بما من شأنه أن يخان.
ولكن هذه الفلك التي تجري في البحر بنعمة الله يختلف سكانها وهذه الأرض يختلف عمّارها بمقدار ارتوائهم من الماء العذب الفرات والعين السلسبيل أو شربهم من الماء المالح الأجاج، يختلفون بمقدار قربهم من المحبوب الأوحد صاحب الوجه الآسر الذي نوجّه إليه وجوهنا فاطر السماوات والأرض الذي أينما نولّي وجوهنا فثمّ وجهه العذب السالب للندم. ومهما ابتعد أو اقترب سكّان السموات والأرض فهم كالنحل حياتها في كدحها وارتشافها رحيق الأوراد والأزاهير فمنها طعامها وإطعامها وأنسها ولذّتها. والله يخاطبها بقوله فاسلكي سبل ربّك ذللاً أي أنّ السبل خاضعة للخاضع. مستقيمة للمستقيم. فهم كالنحل طالما لم يعصوا الله ما أمرهم طالما لم يعرضوا عن ذكره.
من الطبيعي أنّ الكمال سرّ كدح الإنسان نحو الله سبحانه وفي البداية لا يستغني الإنسان عن المعرفة الحصولية سواء من ضرع الوحي والفطرة أو بالوسائط المختلفة.
ولكن هل تنفكّ هذه المعرفة عن غايتها من المعرفة الحضورية؟!!
أليس من ازداد باباً من العلم ولم يزدد باباً من التقوى لم يزدد من الله إلاّ بعداً؟
أي هل تنفك المباحث الأخلاقية والعرفانية وتحصيلها عن السير والسلوك فعلاً؟
ثمّ هل قصر النظر على مباحث المعرفة بالصورة المعروفة صحيح؟!
أليس مباحث الفلسفة والفقه والسياسة والعرفان هي علوم مترابطة؟!!
أليس الدنيا والآخرة وعلوم الدنيا والآخرة مترابطة أيضاً؟ بمعنى أنّ الدنيا مزرعة للآخرة؟
أليس التعرّف على فكر الأمم ومناقشتها والرد عليها وتصويبها من غايات طلاّب المعرفة؟ أليس مخاطبة الناس على اختلاف أحوالهم وأفهامهم واستعداداتهم سبيل لتمكين أهل الأرض من تلمّس طريق الكمال.
إذا كان كذلك فهل نستطيع أن نكون طلاّب معرفة من دون أن نسير سيراً متوازناً ومتنوعاً في المعرفة. فالمعرفة الحصولية المعروفة القراءة والكتابة والمعرفة الحضورية بطريق مشاهدة الحقائق وظهور أنوار الحكمة إنّما تجتمع في العمل لخدمة الخلق. أي أنّ العمل لخدمة الخلق طريق معرفة حصولية وحضورية. فكر وذكر. فالعمل لخدمة العباد لشرط لتهذيب النفس، وتهذيب النفس شرط لتهذيب الناس أمّا أولئك الذين يدرسون الناس ويعلمونهم باعتبارهم من أهل المعرفة ثمّ ليسوا هم كذلك. يكون العلم والتعليم بالنسبة لهم سبباً لمقت الله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا لمَ تقولون ما لا تفعلون كبُر مقتاً عند الله أن تقولوا ما لا تفعلون﴾ بينما يقول الحديث الشريف: "كونوا دعاة للناس بغير ألسنتكم ليروا منكم الورع والاجتهاد والصلاة والخير فإنّ ذلك داعية" وهذا ببساطة يشير إلى الفرق بين التديّن والتظاهر بالتدين.
لذلك ينبغي أن نقدّم بضاعتنا على أنّها بضاعة مزجاة، أو، كناقل التمر إلى هجر. فربّ حامل فقه، لمن هو أفقه منه.
إنّ تحصيل المعارف والعلوم هو السبيل إلى نيل النفس للملكات الكمالية. ومتى ما توازنت صحّت هذه النفس وأمكن أن تسير بصورة مستقيمة.
ما دام الإنسان غير مدرك لهذا السبيل فإنّه يخبط خبط عشواء ويسير كالأعشى. ويهيم كالضال.
والسلام