تحقيق: السيّد عدي الموسويّ
كان على سماحة الشهيد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) أن يفي بنذر عظيم قطعه على نفسه بعدما تحقّق الأمر المتعلّق به. لكنّ الوفاء يحتاج إلى تفرّغ ووقت كبيرَين لإنجازه، متمثّلاً في وضع شرح كامل لكتاب نهج البلاغة.
فمن أين له الوقت الكافي مع مشاغله الكثيرة ومسؤوليّاته الجسيمة في رئاسة المجلس التنفيذيّ لحزب الله؟
صحيح أنّه أنجز شرح الخطب الثلاث الأولى من النهج، ودوّنه بخطّ يده في صفحات دفتر مدرسيّ حينما كان طالب علمٍ في قمّ، غير أنّ المهمّة سرعان ما تعثّرت في لبنان، حتّى صار صاحب النذر يخشى من انقضاء سنوات عمره قبل أن يتمكّن من الوفاء به.
• انطلاقة فريق الشرح
يبدو أنّ هذا التعثّر غدا سرّ التحوّل لانطلاقة جديدة، ليكون مصداقاً للآية الشريفة: ﴿فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا﴾؛ فيشير سماحة الشيخ د. خليل رزق إلى أنّه في ختام جلسة إداريّة، كشف سماحته لصديقه وزميل دراسته الحوزويّة عن هذه المشكلة وعن هواجسه الشخصيّة. فاقترح عليه سماحة الشيخ أن يتابع العمل في مشروعه عبر تشكيل فريق من أهل الفضل والعلم والمثابرة، يكون سماحته مشرفاً عليه ومشاركاً فيه لإنجاز هذا الشرح. ولاحقاً، وقع الاختيار على سماحة السيّد علي عبد المنعم مرتضى والسيّد علي عبّاس الموسوي، إضافة إلى سماحة الشيخ د. خليل رزق نفسه.
التأم عقد جلسة الشرح أوّل مرّة في العام 2011م، في ليلة السبت بعد صلاة العشاء، وجرى تثبيت هذا الموعد الأسبوعيّ، الذي لم تتوقّف جلساته ما يقارب عشر سنوات، باستثناء ليالي عاشوراء، لارتباط أعضاء الفريق بحضور المجالس ليلاً وإلقاء الخطب والمحاضرات، فيما كانت جلسات الشرح تُعقد في الأغلب في مكتب سماحة السيّد الشهيد هاشم (رضوان الله عليه).
• منهجيّة الشرح
خلال جلسة العمل الأولى، توزّعت المهام على الأعضاء، بين تجميع لأقوال الشارحين لمناقشتها خلال كلّ جلسة، وهو ما تولّاه السيّد علي الموسويّ. أمّا مهمّة استخراج معاني المفردات اللغويّة وتوثيق سيَر الأعلام، الذين ذُكروا في نهج البلاغة، فتولّاها الشيخ خليل رزق. فيما تولّى السيّد علي مرتضى تدوين وقائع الجلسات وما يرد خلالها من ملاحظات وأفكار. هذا مع الإشارة إلى أنّ الجميع كانوا يشاركون في النقاشات التي امتدّ بعضها إلى خمس ساعات خلال جلسة واحدة، عبر اعتماد منهجيّة واضحة تهدف إلى استخراج خلاصات جامعة من مختلف الشروحات. وفي هذا السياق، يشير السيّد علي الموسويّ إلى أنّهم اعتمدوا في أغلب الأحيان على شرحَين أساسيّين، هما: منهاج البراعة للعلامة الخوئي قدس سره، وشرح العلامة ابن ميثم البحراني، من دون إغفال الشروحات الأخرى، خصوصاً إذا ما تفرّد بعضها بآراء معيّنة وإشارات محدّدة ومميّزة.
ومع تتابع جلسات شرح النهج، بدأت تظهر لمسات الشهيد السيّد هاشم (رضوان الله عليه) بدايةً عبر ما أسماه (الفوائد)، وكلّ فائدة هي عبارة عن أفكار مستلهمة من نصوص النهج كانت قد لفتت نظره، وسعى من خلالها إلى توضيح أفكار أمير المومنين عليه السلام وتفسيرها وصولاً إلى محاولة تظهيرها وتطبيقها في أرض الواقع، وذلك عبر نصّ لا يتجاوز بضعة سطور، ولا يتّسع إلى حدّ أن يبلغ البحث. وتجدر الإشارة إلى أنّ سماحته قرّر البدء بتفسير نهج البلاغة من أوّله من دون الاستفادة ممّا أنجزه سابقاً بشرح ثلاث خطب، لكنّ باقي أعضاء الفريق قرّروا الاستفادة منها والتوسّع فيها بما ينسجم مع منهجيّة العمل التي أقرّوها.
• لمسات السيّد هاشم
يتّفق أعضاء اللجنة أنّ سماحة الشهيد السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) لم يكن خلال نقاشات هذه الجلسات متمايزاً عن الآخرين، ولم يحاول تسخير موقعيّته التنظيميّة أو المعنويّة كصاحب لهذا المشروع لفرض آرائه أو تغليبها على بقيّة الآراء. فإضافة إلى دوره المهمّ في تحفيز سير العمل في الجلسات، كان مثالاً مميّزاً في حسن الإصغاء إلى مختلف وجهات النظر واحترامها والتفاعل معها، وإن خالفت رأيه الخاصّ في موارد عدّة، بل لم يكن يتوانى عن التراجع عن رأي اقتنع به، كما أكّد لنا سماحة السيّد علي الموسويّ، الذي أصرَّ في إحدى الجلسات على اعتماد شرح غير مألوف لأحد أقوال أمير المؤمنين عليّ عليه السلام، فاستبعد سماحة الشهيد هذا الشرح، غير أنّه بادر في الجلسة التالية إلى تأييده واعتباره أقرب للواقع.
ويشير الشيخ خليل رزق إلى أنّه في مجال ضبط معاني المفردات، كان سماحة السيّد الشهيد يصرّ على العودة إلى معاجم اللغة لاستخراج معاني الكلمات من جذورها الأصليّة، داعياً إلى التحرّر من سطوة شروحات المعاني كما قدّمها أصحاب الشروحات السابقة، سعياً إلى تجديد حقيقيّ ومواكبة لتطوّرات العصر.
• المسؤوليّة لم تفقده العلميّة
لكن، ماذا عن حضور شخصيّة سماحته العلميّة؟
يؤكّد أعضاء فريق الشرح أنّهم وجدوا أنفسهم أمام عالِم وفقيه صاحب رؤية ثاقبة وعلم غزير، بحيث لم يُفقده انغماسه في العمل التنظيميّ الإداريّ أيّ شيء ممّا اكتسبه من معارف ومَلَكات علميّة وقّادة، إضافة إلى هدوئه وتأمّله العميق في مختلف دقائق النصوص وتفاصيلها، وحضوره الذهنيّ اللافت، وهمّته العالية في التمعّن في مضامين النصوص وأبعادها المختلفة. هذا على الرغم من أنّ الجلسات كانت تجري مساءً بعد يوم حافل من متابعات سماحته لعشرات الوحدات التي تتبع لإشرافه، فكان يحرص على أن لا يقاطع الجلسة أيّ اتّصال، إلاّ إذا كان لأمر طارئ أو شديد الضرورة. فيما يشير السيّد علي الموسويّ إلى أنّه لم يلحظ في أيّ جلسة أيّ أثر من آثار أعباء يوم العمل في سلوك سماحته الهادئ، أو حتّى في حضوره الذهنيّ والعلميّ، وهو ما كان ينعكس بشكل إيجابيّ على أجواء البحث والنقاش.
• أولويّة لا يؤخّره عنها شيء
حرص سماحة الشهيد السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) على استمراريّة جلسات الشرح وعدم انقطاعها تحت أيّ ظرف من الظروف. ويستذكر أعضاء الفريق أنّ سماحته اضطرّ بسبب متطلّبات مسؤوليّاته إلى الحضور في بلدة النبيّ شيث البقاعيّة لإحياء الذكرى السنويّة لسيّد شهداء المقاومة الإسلاميّة السيّد عبّاس الموسويّ (رضوان الله عليه)، وكان عليه البقاء إلى ما بعد المغرب بساعات، وكان ذلك يوم الجمعة، الموعد الأسبوعيّ للجلسة، فأصرّ على العودة إلى مكتبه في الضاحية الجنوبيّة للعاصمة بيروت، على الرغم من الطقس الشتويّ العاصف. وعقدت الجلسة في وقتها.
كما يتذكّر الشيخ خليل رزق اضطرارهم في إحدى الليالي إلى عقد جلستهم في معلم مليتا السياحيّ الجهاديّ. فيما يتذكّر السيّد علي الموسويّ أنّ عيد الفطر جاء في إحدى السنوات يوم الخميس، فقضاه في بلدته في البقاع، قبل أن يتوجّه مساء اليوم التالي نحو بيروت للمشاركة في جلسة الشرح الأسبوعيّة.
أمّا السيّد علي مرتضى، فأشار إلى أنّ جلساتهم خلال شهر رمضان كانت تُعقد بالتناوب في منزل أحد أعضاء الفريق، بعد تناولهم طعام الإفطار، وأداء ما تيسّر من أعمال ليالي الشهر الكريم.
وهكذا، امتدّت جلسات الفريق وبإيقاعها المنتظم والدقيق، فبدأت تتجمّع لديهم عناوين أبحاث تتعلّق بما تثيره نصوص نهج البلاغة من قضايا، فقرّر سماحة السيّد هاشم ضبط هذه العناوين، وتأجيل إنجاز أبحاثها إلى حين إنجاز الجزء الأكبر من الشرح، وهو ما جرى بعد الانتهاء من شرح خطب النهج، لينتج عن ذلك ما يقارب 180 بحثاً توزّعت على أعضاء الفريق وشرعوا في إنجازها.
• استلهام تجربة أمير المؤمنين عليه السلام
الجدير ذكره هنا، أنّ أيّ مشروع شرح لسفر عظيم كنهج البلاغة، قد يكون محكوماً بالاهتمامات الشخصيّة لشارحه، سواء أكانت فقهيّة أم عقائديّة أم فلسفيّة، وهو ما جعلنا نتساءل إن كان هذا قد حصل خلال جلسات هذا الفريق المبارك؟
رأى كلٌّ من الشيخ خليل رزق والسيّد علي الموسويّ أنّ تنوّع اهتمامات الفريق جعل رؤيته للشرح متّسعة وشاملة، غير أنّه من الواضح أنّ سماحة الشهيد كان متعطّشاً لاستلهام تجربة الإمام عليّ عليه السلام بأبعادها الإداريّة والاجتماعيّة والعمليّة، ما جعله يسعى لتصحيح بعض مفاهيم العمل الإداريّ انطلاقاً من شرح خطب نهج البلاغة ورسائله ووصاياه وحكمه.
• تجهيز الشرح ليرى النور
توقّفت جلسات الشرح بشكل قسريّ خلال جائحة كورونا مطلع العام 2021م، ولكنّ هذا التوقّف كان فرصة ليعمل الفريق على تنظيم المادة التي تجمّعت لديه وتنسيقها وتنقيحها، بحيث إنّهم خلال هذا الوقت كانوا قد أنجزوا الجزء الأكبر من عملهم، ليعود الفريق للعمل بعدها بهمّة أكبر، فيما بدأت عمليّة تنضيد الجزء الأوّل في العام 2023م. ومع اندلاع معركة طوفان الأقصى ومعركة إسناد غزة، توقّفت الجلسات، ولحسن الحظّ، كان قد أُنجز الجزء الأكبر من شرح نهج البلاغة.
لكنّ المسؤوليّات الجسام التي حملتها معركة الإسناد، لم تمنع سماحة السيّد من متابعة عمليّة تنضيد الشرح، بل قدّم الكثير من الملاحظات من حيث بساطة الشكل والإخراج وتجنّب الأشكال الزخرفيّة. وفي مرحلة لاحقة، بدأ سماحته بمراجعة النصوص، وعدّل فيها وقدّم في بعض الموارد إضافات واسعة، كما أكّد لنا السيّد علي مرتضى، عارضاً علينا أوراقاً من النسخة المصحّحة والمعدّلة بخطّ سماحة الشهيد.
أمّا عنوان الشرح، فلم يُتّفق عليه، فقد قُدّمت العديد من المقترحات، من دون أن يُتفق عليها بشكل نهائيّ.
• أخٌّ وصديقٌ
خلال جلسات الشرح، توطّدت علاقة الزمالة العلميّة بين سماحة السيّد هاشم وبقيّة أعضائها، وامتدّ أثرها ليتحوّل إلى علاقة أخويّة مميّزة، خصوصاً لدى السيّدين علي مرتضى وعلي الموسويّ اللذين لم يسبق لهما أن تعرّفا إليه من قرب إلّا من خلال العلاقة التنظيميّة الحزبيّة، فصارت لقاءاتهما به خارج نطاق جلسات الشرح أو على هامشها تتّسم بالودّ والمحبّة والأريحيّة. فيما شعر الشيخ خليل رزق أنّه استعاد الكثير من روحيّة أيّام زمالتهما الدراسيّة في حوزة قمّ، عندما كانا جارَين ورفيقَي دراسة وحلقات مباحثة.
يذكر السيّد علي مرتضى، أنّ الهامش المتّسع لهذه الجلسات اشتمل على سعي من سماحة السيّد هاشم للتباحث في الشؤون العامّة والنقاش فيها، كما كانت مناسبة لحلّ بعض مشاكل الناس وقضاياهم من خلال عرضها على سماحته، بحيث كان يهتمّ بكلّ صغيرة وكبيرة تُعرض عليه، ويسعى وفق إمكاناته المتاحة إلى حلّها.
• لم يسمح بطباعة شيء في حياته
يشير السيّد علي مرتضى إلى أنّه عمد دون علم السيّد هاشم صفي الدين إلى تفريغ عدد من محاضراته القيّمة وتحريرها، وأنجز عمليّة إخراجها تمهيداً لطباعتها على أمل أن يقبل سماحته بنشرها، لكنّه رفض ذلك بشدّة، مبرّراً ذلك بأنّه لا يريد أن يظنّ أحدٌ إنّه استغلّ موقعه ليطبع محاضراته ويروّجها.
حتّى كتابة هذه السطور، يجري العمل على قدم وساق لإنجاز طباعة هذا الشرح، الذي يتكوّن من عشرة مجلّدات، لكن من الأمور التي يأسف عليها السيّد علي الموسويّ، أنّ الأجل لم يمهل سماحة السيّد الشهيد ليكتب مقدّمة تليق بهذا الشرح الجليل.
أمّا الشيخ خليل رزق، وفي حضرة ذكرى سماحة السيّد الشهيد هاشم صفي الدين، فيرى أنّه (رضوان الله عليه)، وإن كان إداريّاً من الطراز الرفيع، فإنّنا نظلمه إن حصرناه في هذا المجال، فقد كان عالِماً فقيهاً وصاحب فكر مميّز ونيّر، وهو ما يكشف عنه هذا الشرح لكتاب نهج البلاغة، الذي سيكتشفه الناس حين يرى النور.