تحقيق: مصطفى عواضة
لم تكن حياة الشهيد الأمين العام السابق لحزب الله السيّد هاشم صفي الدين (رضوان الله عليه) محطّات متفرّقة في مسيرة تنظيميّة أو جهاديّة فحسب، بل كانت لوحة مكتملة الأبعاد، تتداخل فيها الروحانيّات العميقة مع الفكر النيّر، والقيادة الميدانيّة مع الإدارة الحكيمة، والتواضع الإنسانيّ مع الحزم الثوريّ. من عرفه عن قرب، أدرك أنّه لم يكن شخصاً عابراً في مسار المقاومة، بل ظاهرة فذّة ارتبطت بالولاية والإيمان، وامتدّ أثرها ليشمل الناس كافّة، من جنوب لبنان إلى شماله، ومن ميادين القتال إلى رحاب العلم والثقافة.
في هذا التحقيق، نستعيد شهادات الشيخ محمّد عمرو، مسؤول منطقة جبل لبنان والشمال في حزب الله، والحاجّ د. عبد الله قصير، معاون رئيس المجلس التنفيذيّ، والسيّد أحمد صفي الدين والحاج محمّد زين الدين، معاونَي سماحة السيّد الشهيد. شهادات تكشف معالم شخصيّة قلّ نظيرها، وتجعلنا نقرأ سيرة السيّد صفي الدين بوصفها مرحلةً كاملةً من تاريخ المقاومة.
• البدايات: صداقة علم وجهاد
يروي الشيخ عمرو أنّ بدايات العلاقة تعود إلى فترة الثمانينيّات في منطقة الشياح، حيث جمعت الصداقة بينه وبين السيّدَين هاشم وشقيقه عبد الله صفي الدين، قبل أن تتحوّل إلى علاقة تنظيميّة متينة. تقلّد السيّد هاشم مناصب متعدّدة، من نائب مسؤول منطقة بيروت، إلى مسؤول منطقة الجنوب، ثمّ إلى رئيس المجلس التنفيذيّ في حزب الله، فتوطّدت العلاقة أكثر فأكثر.
أمّا الحاج عبد الله قصير، ابن بلدة دير قانون النهر التي ينتمي إليها السيّد هاشم (رضوان الله عليه)، فيعود بذاكرته إلى سنوات الحوزة والدراسة في قمّ، حيث كان السيّد الشهيد شابّاً هادئاً، ملتزماً بالعلم، لكنّه في الوقت نفسه منخرطاً في التجربة الجهاديّة، متنقّلاً بين مقاعد الدرس والتبليغ الدينيّ في الجبهات إبّان الحرب المفروضة على الجمهوريّة الإسلاميّة في إيران. ويضيف الحاج قصير بُعداً شخصيّاً للعلاقة، إذ تربطه بالسيّد هاشم علاقة مصاهرة، فالأخير متزوّج من ابنة شقيقته، ما جعل الصلة بينهما تتجاوز حدود العمل إلى علاقة عائليّة متينة.
• صفات قياديّة استثنائيّة
يؤكّد الشيخ عمرو أنّ السيّد الشهيد كان رجلاً ذا فطنة وذاكرة نادرة وقدرة إداريّة عالية: "كان النور يخرج من وجهه. وكان رجلاً متواضعاً، وصادقاً في تعاطيه، ويمثّل نموذجاً نادراً من المؤمنين".
الحاج قصير بدوره يلفت إلى جمع سماحته بين الحزم والليونة: "قدرته على اتّخاذ القرار الحاسم كانت توازي اهتمامه العميق بالكوادر والبيئة الشعبيّة، وهو ما جعله قائداً قريباً من الناس ومحبوباً لدى الجميع".
• الإنسان في قلبه.. أيّاً كان
من أبرز ما يميّز شخصيّة السيّد هاشم (رضوان الله عليه)، كما يروي الشيخ عمرو، اهتمامه بالناس جميعاً: "لم يقتصر ذلك على بيئته الشيعيّة، بل اهتمّ أيضاً بطرابلس وعكّار والضنيّة والمتن وكسروان، ووقف إلى جانب مرضى وفقراء من كلّ الطوائف". ويستعيد واقعة دعمه لبلدة مسيحيّة تعرّضت لكارثة، حيث أغاثها بمليارات الليرات، ما رسّخ صورته كقائد إنسانيّ جامع.
الحاج قصير أيضاً يشدّد على هذه السمة: "كان يتابع أوضاع المتفرّغين والأهالي شخصيّاً، ويكتب عقود الزواج لبعض الشباب بيده، مقدّماً لهم هدايا رمزيّة باسم القيادة. هذه التفاصيل الصغيرة صنعت مكانة كبيرة له في قلوب الناس".
• علاقة استثنائيّة مع السيّد حسن نصر الله
يصف الشيخ عمرو علاقة السيّد الشهيد بسيّد شهداء الأمّة سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه) بأنّها علاقة "التلميذ بالأب"، إذ لم يكن مجرّد عضو شورى إلى جانب أمينه العام، بل كان يجسّد الطاعة الواعية. يكشف الشيخ عمرو أنّ سماحة السيّد حسن سلّم السيّد هاشم في السنوات الأخيرة ملفّات جهاديّة خاصّة وأشركه في جلسات المعاونيّة الجهاديّة، ما يعكس ثقة عميقة بمؤهّلاته القياديّة.
أمّا الحاج قصير، فيرى أنّ هذه العلاقة جعلت من السيّد هاشم امتداداً طبيعيّاً لخطّ الأمين العام: "ارتباطه الروحيّ والوجدانيّ بالولاية كان جوهر شخصيّته. لذلك، بدا دوماً وكأنّه صورة مكمّلة لمسيرة السيّد حسن".
• العالِم العامل والمفكّر المقاوم
لم يكن سماحة الشهيد السيّد هاشم (رضوان الله عليه) إداريّاً أو تنظيميّاً فحسب، بل كان عقلاً علميّاً وروحاً عرفانيّة غاص في الفقه والأصول، وانفتح على آفاق العرفان والفكر. أمضى سنوات يعمل على مشروع شرح نهج البلاغة، وإلى جانبه مؤلّفات لم يُقدَّر لها أن ترى النور بعد، فضلاً عن ديوان شعريّ آثر أن يبقيه لنفسه.
يقول قصير: "كان يرى في الثقافة والمعرفة جزءاً أصيلاً من مشروع المقاومة، لا نشاطاً موازياً أو تكميليّاً".
بعد استشهاد سماحته، عُثر على نصّ الكلمة التي أعدّها ليطلّ بها لأوّل مرّة بعد تعيينه أميناً عامّاً لحزب الله خَلَفاً للشهيد الأسمى السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)؛ كلمةٌ ارتسمت فيها معالم المرحلة الجديدة وتجلّت فيها رؤيته لوحدة الأمّة وثبات خطّ المقاومة، فغدت شاهداً إضافيّاً على عمق الرجل وامتداد مشروعه الذي تجاوز حدود التنظيم إلى رحابة الفكر والروح.
• إرث خالد
يختم الشيخ محمّد عمرو شهادته مؤكّداً أنّ ما قدّمه السيّد صفي الدين (رضوان الله عليه) لا يُحصى: "رفع المجتمع الشيعيّ من الضعف الشرعيّ إلى الاكتفاء، وأعطى كلّ لبنان من وقته وجهده". أمّا الحاج عبد الله قصير، فيختصر تجربته بالقول: "كان السيّد هاشم صفي الدين قائداً استراتيجيّاً، وامتداداً طبيعيّاً لمسيرة المقاومة، وركناً أساسيّاً في استمرارها".
• قائد بفكر استراتيجيّ
يصف السيّد أحمد صفي الدين، معاون السيّد الشهيد، بأنّ علاقتهما ليست مجرّد معرفة عابرة، بل تجربة خاصّة امتدّت لعقود، عايش خلالها شخصيّة قياديّة نادرة، عميقة الفكر، غنيّة بالبصيرة، وقريبة من هموم الناس.
منذ أيّام الدراسة في الحوزة العلميّة، برزت شخصيّة السيّد هاشم بعمقها العلميّ والفكريّ. لم يكن حضوره مقتصراً على الفقه والأصول، بل انعكس هذا العمق في إدارته وعمله اليوميّ، وفي تحليله للأحداث ومواقفه. كان يتمتّع بقدرة لافتة على قراءة المشهد بدقّة، واستشراف المستقبل برؤية استراتيجيّة. حتّى في النقاشات التنظيميّة أو القضايا الاجتماعيّة، كان يظهر هذا البعد المرتبط بالإسلام المحمّديّ الأصيل وبسيرة النبيّ وأهل البيت عليهم السلام، وهو ما منحه بُعداً روحانيّاً ومعرفيّاً متكاملاً.
• إدارة استثنائيّة وتفانٍ لا يعرف التعب
حين تولّى السيّد هاشم مسؤوليّاته في المجلس التنفيذيّ، يروي السيّد أحمد أنّ المجلس شهد قفزة نوعيّة واضحة. فقد كان سماحته يعمل لساعات طويلة تتجاوز أحياناً ثماني عشرة ساعة يوميّاً، مكرّساً كلّ وقته وجهده لخدمة المقاومة والناس. تميّز في الإدارة أيضاً، من خلال قدرته على متابعة التفاصيل كلّها بدقّة، وفي الوقت نفسه في إفساح المجال للآخرين لاتّخاذ القرارات: "كان يثق بفريقه، يشجّعهم على تحمّل المسؤوليّة، لكنّه يعرف كلّ صغيرة وكبيرة، يسأل ويتابع، ويوجّه عند الحاجة".
• قائد شامل متعدّد الأبعاد
يؤكد السيّد أحمد أنّ ما ميّز الشهيد هو تنوّع قدراته. فقد كان حاضراً في الملفّات التنظيميّة، كما في الشأن الاجتماعيّ، والشبابيّ، والثقافيّ، والتربويّ، وحتّى في القضايا الإنسانيّة الدقيقة. هذه القدرة على إدارة ملفّات متنوّعة بعمق وبكفاءة عالية جعلت منه، كما يصفه، "قائداً شاملاً"، يملك من الملكات الذاتيّة ما يؤهّله لمواجهة مختلف التحدّيات.
• أخلاق رفيعة وزهد شخصيّ
على الرغم من كثرة مسؤوليّاته، ظلّ السيّد هاشم إنساناً حسّاساً قريباً من الناس. يروي السيّد أحمد أنّ أكثر ما كان يلفت فيه رقّته الإنسانيّة وشفافيّته في التعامل مع الفقراء وأهالي الشهداء. يقول: "كان يتأثّر بعمق بمعاناتهم، ويحرص على لقاء جميع عوائل الشهداء بشكل دوريّ، يستمع لهم، يواسيهم، ويهتمّ بكلّ تفاصيل حياتهم، بعيداً عن أيّ مظهر بروتوكوليّ". حتّى حاجات الناس البسيطة كان يتبنّاها كأنّها قضيّته الخاصّة، متعاملاً معها بروح المسؤوليّة الشرعيّة والإنسانيّة، لا بوصفها مجرّد ملفّ تنظيميّ.
كما عُرف بالتواضع والزهد، فقد عاش حياة بسيطة جدّاً، بعيدة عن المظاهر والترف، مكتبه كان متواضعاً، وبيته أكثر تواضعاً. لم يكن يسعى إلى مظاهر السلطة أو الامتيازات، بل كان يصرّ على أن يعيش كعامّة الناس.
• علاقة خاصّة بالمجاهدين والشهداء
يحكي السيّد أحمد عن العلاقة الاستثنائيّة التي ربطت السيّد هاشم بالمجاهدين في الجبهات: "كان حضوره بينهم مختلفاً. كانوا يرَون فيه صورة السيّد حسن نصر الله، يسمعون في كلماته صدى الولاية، ويشعرون بصدق محبّته لهم. كان يشاركهم في دوراتهم العسكريّة، ويحاورهم في قضاياهم، ويعمل على حلّ مشاكلهم، حتّى بات مرجعاً ميدانيّاً موثوقاً لهم".
أمّا مع الشهداء، فقد كان دائم الذكر لهم، يرى أنّ كلّ إنجاز للمقاومة إنّما هو ثمرة دمائهم الطاهرة، ويرى أنّ الوفاء لهم دَين في عنق كلّ قياديّ ومجاهد.
يختصر السيّد أحمد صفي الدين شهادته بالتأكيد أنّ الشهيد السيّد هاشم صفي الدين كان قائداً استثنائيّاً، يجمع بين العمق الفكريّ، والحضور الاستراتيجيّ، والبُعد الإنسانيّ والأخلاقيّ. لم تكن علاقته مع العاملين معه علاقة رئيس بمرؤوس، بل قائمة على الأخوّة والروحانيّة. "لقد قاد القلوب قبل العقول، وبقي فينا نموذجاً نادراً للقيادة التي تبني الإنسان كما المقاومة."
يعود الحاج محمّد زين الدين، معاون سماحة السيّد الشهيد، بالذاكرة إلى العام 1993م، حيث كان اللقاء الأوّل مع السيّد هاشم في سهرة بسيطة بمنطقة جبل عامل. يومها، لم تكن العلاقة سوى تعارف أوّليّ، لكنّ النقاشات أظهرت سريعاً شخصيّة فريدة، قادرة على الجمع بين العمق الفكريّ والبساطة في الطرح.
التطوّر الحقيقيّ بدأ في العام 1996م، حين تولّى السيّد مسؤوليّاته في المجلس التنفيذيّ لحزب الله، فكانت العلاقة الشخصيّة امتداداً لتلك العمليّة في مختلف المحطّات التنظيميّة والتنفيذيّة.
يصف الحاج زين الدين سماحة السيّد هاشم بأنّه "لم يكن يوماً مديراً تقليديّاً، بل قائداً استثنائيّاً يؤسّس مدرسة قائمة بذاتها، إذ إنّ العلاقات معه لم تكن قائمة على سلطة الأمر والنهي، بل على روح الفريق الواحد. كان يعدّنا جميعاً شركاء في المهمّة، لا مرؤوسين تحت إمرة قائد".
أبرز ما ميّز شخصيّة السيّد، بحسب الحاج زين الدين، امتلاكه بُعداً استراتيجيّاً نادراً. كان شديد الانتباه للتحوّلات الإقليميّة والدوليّة، يقرأ بدقّة التهديدات والفرص، ويخطّط للمستقبل بروح بعيدة النظر. ومع ذلك، لم يكن منفصلاً عن الواقع أو متعالياً على التفاصيل، بل كان يحرص على النزول إلى الميدان والاطّلاع على أدقّ الجزئيّات بنفسه.
كان السيّد هاشم دائم البحث عن الجديد، يقول الحاج زين الدين: "عندما نعرض عليه خطّة، كان يسأل مباشرة: ما الجديد فيها؟". هذه الروح المتوثّبة جعلت منه قائداً تحويليّاً، بحيث يسعى دائماً إلى تطوير العمل، وابتكار أفكار خلّاقة تنقل الواقع إلى مستوى أفضل، ويبعث الطاقة والأمل في نفوس العاملين معه".
• حضور في كلّ الساحات
لم تقتصر مسؤوليّاته على الإدارة التنفيذيّة، بل كان حاضراً أيضاً في الشأن الجهاديّ، على تماس مباشر مع القيادات العسكريّة، يتابع التفاصيل اللوجستيّة والاستراتيجيّة، ويؤمّن ما يلزم لاستمرار العمل المقاوم، ما جعله عنصراً أساسيّاً في معادلة القيادة الميدانيّة.
• قيادة القلوب قبل العقول
خلاصة التجربة مع سماحة الشهيد السيّد هاشم (رضوان الله عليه) أنّه كان قائداً يقود القلوب قبل العقول. يقول زين الدين: "من الصعب أن تجد قائداً يجمع بين الحزم الإداريّ، والبعد الاستراتيجيّ، والروح الأخلاقيّة العميقة. لكنّه فعل ذلك ببساطة وصدق، فدخل قلوبنا جميعاً."
يختتم زين الدين شهادته قائلاً: "نحن أمام شخصيّة نادرة، استثنائيّة، عاشت بيننا بإنسانيّتها المتواضعة، وبقيت فينا بمدرستها القياديّة. السيّد هاشم لم يكن قائداً عاديّاً، بل نموذجاً من تلك النماذج النادرة التي يرسلها الله في لحظات مفصليّة لتصنع تحوّلات كبرى في مسيرة أمّة."
يضيف: "لم يكن سماحته فرداً في سجلّ الرجال، بل آيةً من آيات الإيمان، ومثالاً للقيادة التي تصنع التاريخ بدمها وفكرها وروحها. لقد ارتقى شهيداً، فارتفع معه اسم المقاومة إلى علياء الخلود، وبقيت سيرته نبراساً لا يبهت نوره، وميراثاً يختزن معاني الولاية والجهاد والإنسانيّة في أنقى صورها".