شهيدٌ ينعى شهيداً
وصلت هذه المشاركة عبر أحد الإخوة، من دون اسم الكاتب الذي نعى صديقه الشهيد وعرّف به، وبعد مدة من وصولها، تبيّن أنّ الكاتب سارع باللحاق بصديقه وارتفع شهيداً قبل أن تُنشر.
الشهيد محمّد حمزة شحادي (بدر) ينعى صديقه الشهيد عبّاس أحمد فحص (السيّد يحيى)، والشهيدان ارتقيا جرّاء العدوان الصهيونيّ اليوميّ على الجنوب.
بين أفراد أسرته بمحبّته الكبيرة وحنانه الواسع، فلم يكن يوماً ابناً عاديّاً، بل كان قلباً نابضاً بالحياة والودّ، يبتدئ يومه بفنجان قهوة مع والديه، ولا يمرّ عيد أو مناسبة إلّا ويقبّل قدمَي والدته أمام الجميع، بكلّ فخر ومحبّة، فعلاقته بها كانت روحيّة خالصة، وكان يجد في خدمتها أسمى مراتب القرب.
عاش مع أهله حياة التواصل الدائم. لم يغب عن منزل العائلة، وكان يزورهم باستمرار، يحبّ طعام والدته، ويأنس بحديثها، ويحرص على مشاركتهم في كلّ تفاصيلهم. كان محبوباً من أهل الحيّ أيضاً، كبيرهم وصغيرهم، لما في شخصه من طيبة ودماثة خلق وأدب جمّ.
أمّا في منزله، فكان الزوج العطوف، والصديق الأقرب إلى زوجته، يساعدها في شؤون البيت ليخفّف عنها عناء العمل، وكان يصطحبها في زيارات الأقارب والجيران حرصاً منه على صلة الرحم. ربّى طفله البكر «فضل» على حبّ الحسين عليه السلام، وكان يأخذه إلى المجالس والمآتم منذ نعومة أظافره، ليزرع في قلبه الولاء الذي ورثه هو عن أئمّة الهدى عليهم السلام.
زوجته، التي أحبّها ورافقته في درب الجهاد، كانت تحذّره أحياناً من الاستهداف، فيردّ عليها مبتسماً: «أنا ماشي بطريق العبّاس... والعبّاس ما رجع».عن كلّ ذلك تقول زوجته: «كان الشهيد عبّاس الأب العطوف لابننا فضل، وكان حريصاً على مساعدتي في تربيته. منذ ولادة طفلنا، كان يساندني في السهر عندما يكون مريضاً، ويمضي فترة عطلته إلى جانبه، وكان صديقه، فيلاعبه ويشاركه العمل في الحديقة، وقنّ الدجاج، والزراعة، وريّ المزروعات.
كان بارّاً بوالديه، وشديد التعلّق بوالدته، ولم تمضِ ليلة من دون أن يقول لها: (تصبحين على خير يا أمّ علي). وكان عندما يريد أن ينادي إخوته، لا يناديهم بأسمائهم، بل يرفقها بكلمة (أختي) أو (أخي).
كان صاحب الضحكة والوجه البشوش بين عائلته وأصدقائه وأقاربه، فعندما كان يمرّ في ساحة بلدته، تتسارع الألسن لمناداته: (هلا هلا بالسيّد).
• ضحكة الميدان ووجه الجبهة
انضمّ السيّد عبّاس إلى صفوف المقاومة الإسلاميّة في العام 2007م، وهو في سنّ الثالثة عشرة، أي بعد حرب تمّوز مباشرة، وسرعان ما أصبح من أبناء الجبهة. كان محبوباً بين المجاهدين، وصاحب روح خفيفة ونكتة سريعة، فيزرع المعنويّات حيثما حلّ، ويُشعل الحماسة في قلوب رفاقه.
توزّعت مسيرته الجهاديّة بين محاور عدّة: الغوطة، والزبداني، والقلمون، ودير الزور، وحلب. وهناك، خَبِرَ النار والرصاص والخنادق، فكان مقاتلاً لا يعرف التعب، ومجاهداً حاضراً في الصفوف الأماميّة، لا يهاب الموت، بل يُقبل عليه.
ثماني سنوات أمضاها إلى جانب القائد الشهيد الحاجّ علي كركي (أبو الفضل)، وكان شديد الحرص على جهوزيّته، ودائم الطلب للخضوع للمزيد من الدورات والتدريب، وكان يقول: «يا حاجّ، بدي إعمل دورات أكتر، بدّي كون دايماً على جهوزيّة».
• رجل الدعاء وعاشق القرآن
لم يكن السيّد يحيى مجاهداً في الميدان فقط، بل كان عارفاً بالله، متعلّقاً بالقرآن والدعاء، فكان يحبّ قراءة كتاب الله، ويتلوه بخشوع، كما واظب على أدعية التوسّل والندبة ودعاءَي كميل وزيارة عاشوراء.
في عامه الأخير، التزم صلاة الليل، وكان يؤدّيها في الخفاء لئلّا يراه أحد، يعيش ليلته في الخلوة، بين يدي الله، باكياً ساجداً. انتمى إلى مركز لتجويد القرآن، وكان في صوته سكينة تبعث على الطمأنينة في النفوس.
• مركبا وكربلاء المعاصرة
في معركة طوفان الأقصى، كان في طليعة المقاتلين في المحاور الأماميّة، وخصوصاً في بلدة مركبا الجنوبيّة، حيث تسلّم القيادة هناك، وأدار العمليّات بكفاءة واقتدار، كان يقول لرفاقه: «أنا هون عم عيش كربلاء، الشباب معي مثل أصحاب الإمام الحسين عليه السلام، ما بدّي روح».
واكب عمليّات الإسناد الناريّ، وشارك الإخوة في إطلاق صاروخ «جهاد مغنيّة» على مركز قيادة اللواء الشرقيّ 769 في كريات شمونة، والذي أصاب هدفه بدقّة، فكان فرح السيّد يحيى لا يُوصف، وقال حينها: أهمّ شي أصبنا الهدف، هيدي فرحة كبيرة».
كان يهتمّ كثيراً بعمل الإنشاءات، ويشارك فيه شخصيّاً ليشجّع الإخوة على الجديّة والإتقان. كما كان دقيقاً جدّاً في مواعيده، ويحرص على تنظيم المهمّات وتأمين كلّ متطلّبات المجاهدين. في أحد الأيّام، تأخّر عن العودة من مركز عمله، فقلق أصدقاؤه عليه، فقال لهم عند عودته بابتسامة الواثق: «ما في مشكلة إذا تعبنا أو تأخّرنا، المهمّ أنجزنا المهمّة على أكمل وجه».
• الموعد السماويّ
في 27 أيلول/ سبتمبر 2024م، ارتقى السيّد عبّاس شهيداً، في اليوم نفسه الذي استُشهد فيه السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، فكان ذلك اليوم ثقيلاً على القلوب، لكنّه في عرف العاشقين، موعد مسجّل في دفتر السماء.
استشهد عبّاس وترك خلفه طفله «فضل»، وزوجته الحامل بطفلهما الثاني، وبعد خمسة أشهر، رُزقت العائلة بمولود جديد، فسمّته الأمّ عبّاس، ليحمل الاسم نفسه، ويواصل الطريق نفسه.
لم يرحل السيّد يحيى، بل بقيت روحه تطوف في بلدة مركبا، في حاراتها، ومنازلها، وشوارعها، ووديانها ومرتفعاتها. كلّ زاوية في البلدة تحكي قصّة معه، وكلّ صخرة وموضع عمل وموقع حراسة تحفظ صوته وذكراه.
يستذكره الإخوة المجاهدون في كلّ لقاء ومعركة، وعند كلّ أذان فجر، وفي كلّ تلاوة قرآن وزيارة عاشوراء ومجلس يُرفع فيه شعار «يا لثارات الحسين».