الشيخ بسّام حسين
يقترن اسم مدينة قمّ المقدّسة باسم كريمة أهل البيت عليهم السلام، السيّدة فاطمة بنت موسى بن جعفر عليهما السلام؛ فما إن تُذكر هذه المدينة، حتّى يأتي إلى الذهن مقامها الشامخ وضريحها الذي يلجأ إليه القريب والبعيد للتوسّل والدعاء والصلاة والمناجاة.
• العلماء والسيّدة المعصومة عليها السلام
حظيت هذه السيّدة الجليلة باهتمام لافت من الأئمّة عليهم السلام، ما جعل العلماء والفقهاء على مرّ التاريخ يقدّمون لها أشكال الاحترام والتقدير على اختلاف أنواعه. كلّ ذلك لِما لمسوه من فيوضاتها وكراماتها، حتّى أوصى الكثير منهم أن يُدفن إلى جوارها، من علماء ورواة وفقهاء ومراجع تقليد، منهم الشيخ الفاضل المحدّث المتبحّر القطب الراونديّ المدفون في صحنها الشريف، ومن كراماتها عليه أنّه تهدّم قبره وظهر بدنه الشريف طريّاً بعد سبعمئة عام وليس فيه أقلّ تغيّر وكأنّه نائم فيه(1).
وما يُنقل من حكايات عن بعض العلماء يوضح لنا بعضاً من مكانة هذا المقام لديهم:
• الملّا صدرا
يُنقل عنه أنّه على أثر حوادث عصيبة وقضايا مريرة انتابته في ذلك الحين، اضطرّ إلى ترك موطنه شيراز وشدّ الرحال إلى ضواحي مدينة قمّ المقدّسة، التي تعدّ موطن آل محمّد، فسكن إحدى قراها المسمّاة “كهك”، فكان في بعض الأحيان عندما تعتريه حيرةٌ في مسائل فلسفيّة معقّدة يقصد قبر السيّدة الجليلة فاطمة عليها السلام، ويستلهم الحلّ منها، ثمّ يعود إلى مقرّه(2).
ويُنقل عنه قوله لدى حديثه عن مسألة اتّحاد العاقل والمعقول، التي تعدّ من أصعب المسائل الفلسفيّة: كنت بكهك من قرى قمّ، فجئت إلى قمّ زائراً لبنت الإمام موسى بن جعفر عليه السلام، مستمدّاً منها، وكان يوم الجمعة، فانكشف لي هذا الأمر(3).
• العلّامة الطباطبائيّ
كان العلّامة الطباطبائيّ قدس سره من المواظبين على زيارتها خلال إقامته في قمّ حتّى دُفن في جوارها. ويُنقل عنه أنّه في أيّام الصوم كان حريصاً على التشرّف بمحضرها وإتيان حرمها قبل الإفطار(4).
• الإمام الخمينيّ قدس سره
كان الإمام قدس سره لسنوات، قبل إبعاده عن قمّ، يزور الضريح يوميّاً بعد إلقائه الدرس عند الغروب إلى حين الصلاة، وكان مداوماً على ذلك(5).
• الشيخ بهجت قدس سره
وهكذا كان العارف الكبير الشيخ محمّد تقي بهجت قدس سره مواظباً على زيارته عند الصباح، بحيث يقصده بعد إقامته لصلاة الجماعة في المسجد، فيصل إلى بابها ويقبّل أعتابها ثمّ يدخل إلى مسجد “بالا سر”، أي مسجد الرأس، ويتعبّد هناك. بعدها، يأتي إلى قبرها الشريف يقبّله ويقف أمامه لوقت غير قليل، ثمّ يقبّل الضريح عائداً إلى منزله. هذا ديدنه لسنوات طويلة حتّى وافاه الأجل ودُفن في جوار مرقدها الشريف.
• الحوزة العلميّة في جوار الكريمة
يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله في بعض خطبه : ”لا شكّ في أنّ دور السيّدة المعصومة عليها السلام في جعل قمّ على ما هي عليه، وإضفاء العظمة على هذه المدينة الدينيّة التاريخيّة العريقة، هو دور لا كلام فيه، فهذه السيّدة المعظّمة والفتاة التي ترعرعت في حضن أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم بحركتها بين الأتباع والأصحاب والمحبّين للأئمّة عليهم السلام، ومسيرها بين المدن المختلفة، ونثر بذور المعرفة والولاية بين الناس على امتداد هذا المسير، وبعد وصولها إلى هذه المنطقة واستقرارها في قمّ، تمكّنت من جعل هذه المدينة تسطع كمركز أساسيّ لمعارف أهل البيت عليهم السلام“(6).
نعم، لمع اسم قمّ قديماً من خلال الرواة والمحدّثين الذين كانوا يروون أحاديث أهل البيت عليهم السلام. وقد شاء الله في العصر الأخير أن تنشأ من جديد الحوزة العلميّة المباركة في قمّ المقدّسة على يد المرحوم العالم الكبير الشيخ عبد الكريم الحائريّ قدس سره. وقد كان لهذه الحوزة في العصور الأخيرة دورٌ رائدٌ على مستوى تخريج العلماء والطلّاب والمبلّغين بعد الأحداث المؤسفة التي تعرّضت لها حوزة النجف الأشرف، وأدّت إلى تهجير الطلّاب والعلماء.
نتيجة ذلك، سطع اسم قمّ من جديد، وأصبحت الحوزة العلميّة فيها الحوزة الرسميّة للشيعة في العالم، يقصدها الطلّاب من جميع أنحاء العالم، فيتربّى طالب العلم في جوار هذه السيّدة العظيمة، ويستلهم من فضائها المعنويّ بركة العلم والعمل.
• أثر جوار السيّدة المعصومة عليها السلام
حول أثر جوارها في الطالب، يقول الشيخ جوادي آملي (حفظه الله): “لو أنّ إنساناً طالع كتاباً أو مطلباً علميّاً في مدينة تعدّ أفضل من قمّ من حيث الماء والهواء وموقعها الجغرافيّ، ثمّ جاء إلى قمّ إلى جوار السيّدة فاطمة المعصومة عليها السلام، وقرأ هذا الكتاب أو المطلب العلميّ عينه، فسوف يرى بركات أخرى تكون من نصيبه، وتنكشف له حقائق أعلى وأرفع، كما حصل للملّا صدر المتألّهين (رضوان الله عليه). وهذا الأمر يحصل نتيجة الصفاء المعنويّ والفضاء المبارك لمقام السيّدة الذي تضفيه على قمّ وتصل بركته إلى أهل العلم.
وقد سمعنا عن بعض العلماء وأهل العلم، الذين وصلوا إلى مراتب عالية في العلم والعمل، أنّهم كانوا يقولون: كلّ ما عندنا هو من السيّدة المعصومة عليها السلام.
وعلى الرغم من وجود العشرات من المدارس في هذه المدينة، إلّا أنّ بعض الطلبة يرغبون في الدرس داخل حرمها، فتراهم حلقاً حلقاً في مقامها الشريف يدرسون ويدرّسون ويتباحثون من طلوع الفجر حتّى الليل، مستفيدين من بركاتها وفيضها. وقد حرص العديد من المراجع الكبار أن يكون إلقاؤهم للدروس العليا في جوارها أيضاً، لينعم الطالب في دخوله أو خروجه ببركة زيارتها وفيض جوارها.
واليوم، نشاهد كيف يتخرّج من هذه الحوزة المباركة الآلاف من العلماء والمبلّغين الذين ينشرون علوم أهل البيت عليهم السلام في شرق الأرض وغربها، بحيث أصبحت قمّ، ببركة هذه السيّدة الجليلة، حجّة على العالم كلّه، من خلال ما يلقونه من علوم ويبثّونه من معارف.
ولعلّ هذا ما أشارت إليه الرواية عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه ذكر الكوفة وقال: ”ستخلو كوفة من المؤمنين، ويأزر عنها العلم كما تأزر الحيّة في جحرها، ثمّ يظهر العلم ببلدة يُقال لها قمّ، وتصير معدناً للعلم والفضل حتّى لا يبقى في الأرض مستضعف في الدين حتّى المخدّرات في الحجال، وذلك عند قرب ظهور قائمنا، فيجعل الله قمّ وأهله قائمين مقام الحجّة، ولولا ذلك لساخت الأرض بأهلها ولم يبق في الأرض حجّة، فيفيض العلم منه إلى سائر البلاد في المشرق والمغرب، فيتمّ حجّة الله على الخلق حتّى لا يبقى أحد على الأرض لم يبلغ إليه الدين والعلم...“(7).
1. مقدّمة غنائم الأيّام، الميرزا القمّي، ج 1، ص 34.
2. أعلام النساء المؤمنات، الحسون ومشكور، ص 585.
3. اتّحاد عاقل ومعقول، حسن زاده آملي، ص 108.
4. نكين قم، جواد محدثي، ص 25.
5. المصدر نفسه، ص 24.
6. من خطاب له دام ظله عند لقائه طلاب وأساتذة الحوزة العلميّة لقمّ المقدّسة في 13 ذي القعدة 1431هـ.
7. بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 57، ص 213.