نور روح الله | علّمتنــا  أن نبصر جمـال البلاء* مع الإمام الخامنئي | رسالة القرآن: حقيقة النصر* تسابيح جراح | نبضي الخافت تمرّد على الموت مناسبة | في جوار المعصومة عليها السلام الافتتاحية | أذلّاء، لن يجدوا إلّا سراباً كان أباً مجاهداً - حوار مع عائلة سماحة السيّد الشهيد هاشم صفيّ الدين (رضوان الله عليه) وصيّة السيّد صفيّ الدين: "ممنوع أن يجوع أحد" قيادة السيّد هاشم: حـزمٌ فـي ليـن نذرٌ أثمر شرحاً - شــــرح نهــــج البلاغـــة للسيّد هاشم صفيّ الدين لستُ شيعيّاً وأحبُّ السيّد

تسابيح جراح | نبضي الخافت تمرّد على الموت

حنان الموسوي


يومها، طلب منّي صديقي مرافقته لإنجاز مهمّةٍ ميدانيّةٍ في أحد المعسكرات. استقللنا آليّة «البيك آب» وتوجّهنا إلى الجرود مباشرة، بينما بقي اثنان من الإخوة في نقطة العمل الأساسيّة. وصلنا إلى المكان الهدف. توجّه صديقي لتأدية مهمّته تاركاً جهازه اللاسلكيّ قربي، أمّا أنا، فشغلني صوت المسيّرة القويّ والقريب، بينما كنت جالساً بجانب مقعد السائق، حاملاً جهازي بكلتا يديّ، وأنادي صديقي ليأخذ حذره منها. وفجأةً، دوّى انفجارٌ عظيم لم أعرف أسبابه، أهديت فيه يديّ لأبي الفضل العبّاس عليه السلام بكامل وعيي واتّزاني، على الرغم من عجزي عن فتح عينيّ لشدّة ضغط الانفجار.

• بشائر اللطف
عاد إليّ صديقي مسرعاً، صارخاً باسمي كي أحافظ على وعيي. أكثر الشظايا التي اخترقتني لؤماً تلك التي فرت أوردة عنقي، نتج عنها نزيفٌ حادّ لاحظه صديقي ولم يخبرني عنه. أولى بشائر اللطف تجلّت حين عمل محرّك «البيك آب» مباشرةً من دون المشقّة التي اعتدناها عند تشغيله عادةً. كان جواد يقود كمن يمشي على قلبه حذراً، لكنّ وعورة الطريق تسبّبت بصعود الآليّة على صخرة صغيرة، ما أدّى إلى انزلاقي ما بين المقعد والقاع، فتهادى رأسي على كتفي خاتِماً الجرح بطريقة تدفع الدمّ للتخثّر، فتجلّت بشارة اللطف الثانية بتوقّف النزيف حينها.

• نبأ الشهادة
نصف ساعةٍ من الزمن مضت حتّى وصلنا أولى القرى. وهناك، نقلني جواد إلى سيّارةٍ كانت بانتظاري بعد أن رأى كلّ من فيها الانفجار، فهرعوا لإنقاذي. سرعة السائق حملتني إلى مستشفى دار الأمل، ومنها إلى مستشفى رياق لعدم وجود مكان شاغرٍ لجريحٍ إضافيٍّ. شعوري بالبرد الناتج عن الإصابة دفعني لطلب إغلاق النافذة، ما يؤكّد أنّي حافظت على وعيي حتّى اللحظة الأخيرة. ظلّ ضجيج الممّرضين في الطوارئ يتردّد في مسمعي حتّى فقدت الوعي ومعه كلّ علامات الحياة. كما إنّ يأس الطاقم الطبّيّ من إيجاد أضعف نبضٍ خجول بعد إسعافاتٍ طويلة، دفعهم إلى إعلان نبأ شهادتي، ونقلي إلى برّاد الموتى، وقد عُلّقت صوري في القرية ونُصبت خيم العزاء.
قضيت ساعةً ونصف في البرّاد، قبل إحضار الممرّضين لشهيدٍ جديدٍ، فلاحظوا حينها أنّ نبضاً خافتاً تمرّد على الموت وأعلن الحياة مجدّداً. محاولات الإنعاش أثمرت، وقد استقرّ النبض لكنّي بقيت في غيبوبةٍ دامت خمسة عشر يوماً.

• جرح عنيد
عبثاً حاولوا السيطرة على جرح رقبتي. نزفي الغضّ استدعى نقلي إلى غرفة العناية، وغزارته استوجبت تزويدي بثلاث وعشرين وحدة دم خلال ليلة واحدة. تمزّق شرايين عنقي وأوردتها أوصد باب الرجاء في إنقاذي، حتّى طال الأذى شرايين قلبي، ما دفع الأطبّاء لليأس من وضعي، وجزمهم بتلف قسمٍ كبيرٍ من دماغي إن ما حالفني الحظّ واحتفظت بأنفاسي. حاولوا إيقاظي بعد ثمانية أيّامٍ دون جدوى. لم يستجب جسدي للحركة سوى يدي اليمنى، كنت أرفعها عند كلّ أذان، كذلك عينايا اللتان كانتا تهميان حين يُذكر اسم ولدي عليّ لا إراديّاً، على الرغم من الاحتياطات التي فُرضت عليّ بعدم الحركة كي لا يتّسع جرح الرقبة، فتتمزّق شرايين جديدة.
تبلورت المعجزة بتمكّن الطبيب الجرّاح من رتق شرايين رقبتي وتوصيلها مجدّداً، فسيطر على النزف؛ كان يشجّع أفراد عائلتي على التوكّل على الله، والتوسّل بأهل البيت عليهم السلام، وبذلك كانت بشارة اللطف الثالثة.
لم أحصِ عدد العمليّات الجراحيّة التي خضعت لها في الرقبة والأطراف لكثرتها، كان أخطرها تلك التي حظيت بها رقبتي، كذلك نالت رئتايا نصيباً وافراً من الجراحات، بحيث كان أنبوب الأكسجين نابتاً في حنجرتي، ما منعني من ابتلاع الطعام والشراب، كما أنّي فقدت القدرة على النطق لمدّة.

• وعيٌ وصدمة
لم يطل الأمر حتّى استعدت وعيي ليلاً. التفتت إليَّ الممرّضة بعد إيماءات متعدّدة، وأسرعت تهنّئني بسلامتي، بعدها أخبرَت أخي فهرع إليّ. صوتي الذي لم يتجاوز أطراف لساني لم يسعفني بتهدئة بكائه، بعد أن رآني بكامل وعيي أُحدّث الممرّضة همساً. ظننتُ أنّ غيبوبتي لم تدم إلّا يوماً واحداً، بينما استمرّت خمسة عشر يوماً. طلبتُ من أخي محادثة زوجتي، واستدعيتها للحضور. تأخّرُ قدومِها أثار استغرابي، إذ لم يُخبرني أحدٌ بنشوب الحرب، وقد علمتُ بشهادة السيّد الأسمى حسن نصر الله (رضوان الله عليه) صدفة، فستائر الغرفة المفتوحة سمحت لي بمشاهدة التلفاز الخاصّ بغرفة الممرّضين. ضماد رقبتي المزعج قيّدني عن القيام بردّ فعلٍ بحجم الفقد، فكبتُّ حزني في قلبي.

• أملٌ وعزم
بعد استقرار حالتي، نُقلت إلى غرفة الاستشفاء لمدّة أسبوع، ومنها إلى مستشفى دار الأمل لمتابعة وضع رئتيَّ، حيث مكثت 20 يوماً، غادرت عقبها إلى منزلٍ استأجرناه خارج قريتي نظراً إلى ظروف الحرب. عانيت من صعوبةٍ في السير، قواي الهزيلة تسبّبت بوقوعي، لكنّ أياديَ محبةً كثيرةً انتشلتني. احتجت لعلاجٍ فيزيائيٍّ في المنزل ليدي اليسرى التي حافظت على إصبعها اليتيم، لأنّ عصبها الأساسيّ طاله أذى كبير. كما طلبت من قريبي المسعف أن يهتمّ بجروحي يوماً بعد يوم حتّى انتهت الحرب. كانت زوجتي السند والمعين لي بعد الله، كلّما ضاق بي البلاء وجدت في قلبها الراحة والأنس والعزم، جزاها الله عنّي خير الجزاء.

• قدرٌ مختلف
أحمد الله أنّي واسيت العبّاس عليه السلام، وسلكت درب التضحيات التي خطّها بإيثاره وجروحه. من تجلّيات النِعم أنّ الله أتاح لنا اختيار طريق ذات الشوكة طوعاً. وقد نُعيت شهيداً مرّتين خلال مشاركتي في معارك الدفاع عن المقدّسات في سوريا ضدّ التكفيريّين، لكنّ الله خطّ لي قدراً مختلفاً هو اختاره، فألبسني ثوب الجراح، وهذا ما يناسبني بحسب رؤيته للمصلحة، وأنا كلّي رضى برضاه. حنيني للعودة إلى عملي يؤلمني، غير أنّه سبحانه اختار لي جهاداً آخر أستكمله.
نحن الجرحى استمرار الحياة، وبإرادتنا الجبّارة نلتفّ حول أميننا العام الشيخ نعيم قاسم (حفظه الله). بجراحنا نذود عنه ونحمي لواء الحقّ، فمقاومتنا قويّةٌ دائماً وستبقى!

اسم الجريح الجهاديّ: أبو جعفر.
تاريخ الولادة: 29-1-1988م.
تاريخ الإصابة: 19-9-2024م.
نوع الإصابة: بتر اليدين، وقطع شرايين العنق.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع