القرآن معجزة، أي إنّ الله المتعالي أثبت نبوّة نبيّ الإسلام الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بواسطته. والفرق بينها وبين سائر معجزات الأنبياء عليهم السلام هو أنّ تلك المعجزات ومشاهدتها كانت تختصّ بمرحلة كلّ نبيّ من دون سواه. أمّا معجزة النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم، فالناس يرونها على مرّ التاريخ وحتّى آلاف الأعوام القادمة. هذا الاستمرار للإعجاز القرآنيّ والنبويّ بركةٌ عظيمة لعالَم البشريّة والوجود.
كلّ شيء في القرآن معجزة؛ لفظه، ونظمه، ومفاهيمه، وإخباره عن الماضي والمستقبل، وعرضه سنن عالم الوجود، وإخباره عن بطون الإنسان. إذا استفدنا منه، فإنّ حياة البشر ستزدهر، وستُحلّ المشكلات كلّها؛ فدروسه للبشر عمليّة ويُمكن أن تُجرّب. هذا غير المعارف الراقية التي لا يتسنّى الوصول إليها سوى للعظماء والأولياء والمقرّبين.
• التوكّل وشروطه
أودّ أن أطرح مثالاً يساعدنا في فهم عبرة التبيين القرآنيّ. يقول القرآن على سبيل المثال: ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾ (الطّلاق: 3)؛ أي لو توكّلتم على الله المتعالي واعتمدتم عليه وارتكزتم إليه، فهو كافٍ لكم، ولا نحتاج أيّ وسيلة وأيّ عامل آخر لبلوغ المقصود. وسط أيّ ظروف وضمن أيّ إطار تتحقّق هذه الحقيقة الحتميّة والمسلّم بها؟ القرآن يحدّد لنا ذلك: التوكّل على الله وترتّب الأثر الناتج منه لهما شرط قلبيّ وآخر عمليّ وواقعيّ. إذا تحقّق هذان الشرطان، فعندها ﴿وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ﴾، أي إنّكم لن تحتاجوا إلى أيّ عامل آخر. وتفصيل هذين الشرطين كالآتي:
1. الشرط القلبيّ: هو أن تثقوا بصدق الوعد الإلهيّ: ﴿وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللهِ قِيلًا﴾ (النساء: 122). لن يتحقّق التوكّل إذا لم يكن هذا الأمر حاضراً. لذلك، تلاحظون أنّ الله المتعالي يذمّ الذين يسيئون الظنّ به: ﴿الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا﴾ (الفتح: 6).
في ذاك الشرط القلبيّ، يجب أن يكون لدينا يقينٌ بأنّ المستحيل يصبح ممكناً بإذن الله، وأن نعتقد بصدق قوله تعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: 40). ينقل القرآن في أحد المواضع عن النبيّ عيسى عليه السلام وفي موضع آخر عن الله المتعالي نفسه: ﴿أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (آل عمران: 49)؛ أصنع من الوحل شكل حمامة أو حيوان أو طائر، ثمّ أنفخ فيه فيتحوّل إلى حمامة. أليس هذا من المستحيلات؟ لكنّ هذا المستحيل يصبح ممكناً بإذن الله.
﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (البقرة: 249). فئة قليلة تستطيع الانتصار على فئة كثيرة، ﴿فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ﴾ (البقرة: 251)؛ فاستطاعت مجموعة صغيرة محيطة بطالوت أن تغلب عدوّاً عاتياً. هذا الشرط القلبيّ ضروريّ، أي يجب أن نعلم أنّ كلّ ما يبدو مستحيلاً في العالم يمكن أن يتحقّق بإذن الله وبالإرادة الإلهيّة.
2. الشرط العمليّ: يعني أنّه لحدوث هذا الحدث، يضع الله المتعالي جزءاً من العمل في عهدة الإنسان نفسه. ليس الأمر على هذا النحو بأن نجلس في بيوتنا ثمّ نقول: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ﴾، إنّما يجب أن نتولّى جزءاً من العمل: ﴿إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ﴾ (الأنفال: 65). هذا ما يرويه القرآن عن التكليف الذي كُلّف به المسلمون في الصدر الأوّل. في مقدوركم التغلّب على الكثرة حتّى وإن كنتم قِلّة.
• فلنقف في وجه الاستكبار
لنتوكّل على الله مع استيفاء هذين الشرطين: أوّلاً، بأن يكون لدينا يقين بالله المتعالي ونثق بأنّه سيساعدنا إذا دخلنا الميدان. وثانياً، بأن ندخل الميدان ﴿فَإِذَا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾ (المائدة: 23).
قال الله المتعالي لأصحاب النبيّ موسى عليه السلام: عليكم أن تدخلوا هذه المدينة، فإذا دخلتم ﴿فَإِنَّكُمْ غَالِبُونَ﴾، ولكنّهم لم يدخلوها، فلَم يحقّقوا الغلبة أيضاً. إذا أنجزتم الجزء المُلقى على عاتقكم، فسوف تحقّقون تلك النتيجة حتماً، ويُحقّق الله المتعالي ذلك الوعد.
نحن نقف اليوم في وجه الاستكبار، ولدينا الجرأة لنقول أمريكا معتدية وكاذبة ومخادعة ومستكبرة. أمّا الآخرون، فمع علمهم أنّ أمريكا كاذبة ومخادعة ومستعمرة ومعتدية، وليست ملتزمة بأيٍّ من المبادئ الإنسانيّة، إلّا أنّهم لا يجرؤون على التصريح بذلك، ولا على الوقوف في وجهها. حسناً، إنّهم لا يؤدّون دورهم، وعندها، لا تتحقّق أيّ نتيجة. يجب أن نؤدي دورنا ونتحلّى بالصبر ونجاهد ونسعى حتّى نحقّق النتائج المرجوّة.
لو توكّلتم على الله المتعالي واعتمدتم عليه وارتكزتم إليه، فهو كافٍ لكم
* كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله بتاريخ 02/02/2025م.