من الثوابت الأساسية لدينا إن القرآن كتاب هداية، لا كتاب قصص وروايات، أو كتاب معلومات علمية، أو مصطلحات لغوية وبلاغية وغيرها، وإنه وإن كان المرجع الأول لنحاة العرب وبلغائهم، إلا إن كل إشارة علمية وإعجازية فيه، وكل صرف وإشارة ولفتة فيه هي لهداية البشر وإيصالهم إلى الله سبحانه وتعالى.
والقرآن الكريم نفسه يقول في هذا الشأن، مبيناً الهدف من إيراد الكثير من القصص فيه، ﴿لقد كان في قصصهم عبرة لأولي الألباب﴾. فكانت القصص للاعتبار بأحوال الأمم الخالية، ولأخذ الدروس من تجاربهم، وذلك للاستفادة مما يستفاد منه، وللاجتناب عما هو مذموم ومهلك فيها.
وقد حث القرآن الكريم على ذلك، وذمَّ الذين يسيرون في الأرض دون النظر فيما حلَّ بالأمم من قبلهم ﴿أفلم يسيروا في الأرض فينظروا كيف كان عاقبة الذين من قبلهم...﴾ (يوسف/ 109).
ولقد ارتأينا، في هذا الدرس، أن نمر على الاستفادات التي يمكن أن نستفيدها من إحدى قصص القرآن، إلا وهي قصة طالوت وبني إسرائيل. فماذا عنها؟
قال تعالى في كتابه الكريم: ﴿ألم ترَ إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم أبعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله﴾ (البقرة/ 246).
لقد بعث الله تعالى النبي موسى عليه الصلاة و السلام إلى بني إسرائيل الذين كانوا يعيشون تحت نير ظلم فرعون، ويثنون من وطأة ظلمه وجوره وطغيانه، المتمثل بسومهم سوء العذاب، وبذبح أطفالهم، واستحياء نسائهم. ولقد بذل ذلك النبي العظيم الجهد الكبير حتى استطاع إخراجهم مما حلَّ بهم من الظلم والشقاوة.
إلا أن بني إسرائيل، وبعد عروجه عليه الصلاة و السلام إلى ربه، عادوا إلى ما نهوا عنه، فغيروا دين الله واتبعوا شهواتهم.
وكان بين ظهرانيهم نبي يأمرهم وينهلاهم ويحذرهم، ويذكرهم بأيام فرعون، وما صبَّت عليهم من مصائب، وعادت عليهم من فجائع وويلات، فما رجعوا عن غيّهم وما أطاعوه، فسلط الله عليهم ملكاً ظالما يدعى "جالوت "، سار فيهم بسيرة فرعون من الظلم والاضطهاد والاستعباد والإقصاء من البلاد. فأسرعوا والهين إلى نبيهم طالبين منه بعث ملك لهم ليقاتلوا معه، ويجاهدوا بين يديه في سبيل الله، فقالوا: ﴿ابعث لنا ملكاً نقاتل في سبيل الله﴾. عندها قال وهو الذين عرفهم ودعاهم ولم يرتدعوا ـ: ﴿هل عسيتم إن كتب عليكم القتال إلاّ تقاتلوا﴾.
فقد كانت مخالفتهم للتكليف الشرعي الذي سيكلفون به، وهو "الأمر بالقتال " واضحة لديه. إلا أنهم أجابوه بقولهم: ﴿وما لنا إلا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا﴾. فأظهروا بذلك إجماعاً على امتثال أمر التكليف، والجهاد في سبيل الله، فنزل الأمر الإلهي حينئذٍ بالقتال. ﴿فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم﴾.
وقد عقب الله سبحانه بقوله: ﴿والله عليهم بالظالمين﴾ وذلك إشارة إلى أن ردّ النبي عليهم في بداية الكلام: ﴿هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا﴾ لم يكن عن عبث و من عند نفسه، بل هو وحي أوحاه الله تعالى إليه. وكم قالوا من قبل لموسى عليه الصلاة و السلام: ﴿فاذهب أنت وربك فقاتلا أنا ههنا قاعدون﴾؟.
﴿وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكاً﴾ فلما سمعوا باسمه اعترضوا على ملكه لعدم توفر شروط الملك المعهودة عندهم فيه.
فقد كانت النبوة في بني إسرائيل في بيت، والملك في بيت آخر، ولم يكن طالوت من أي من البيتين، وكذا لم يؤت سعة من المال، مما أثار استنكارهم واستغرابهم لتتويجه ملكاً عليهم فقالوا: ﴿أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه لم يؤتَ سعة من المال﴾. فلا الوجهاهة متوفرة فيه، ولا الغنى اللذان كانا من الشروط الأساسية عندهم. عندها جاءهم الردّ الإلهي ﴿إن الله زاده بسطة في العلم والجسم﴾ حيث إن المرحلة تقضي وجود ملك يستطيع بعمله وتدبيره وذكائه تأليف الأمة وتوحيدها، وبقدرته الجسدية وقوته البدنية الوقوف بها بوجه ذلك الملك العاتي والجبار "جالوت ".
ومن هنا نفهم أن علينا عند تكليفنا بالقتال تحت أمرة أحد القادة، النظر إلى علمه وتقواه وورعه وقدرته على إدارة المعركة والدولة، لا إلى نسبه وماله وجاهه.
إضافة إلى ذلك، فقد كانت هناك علامة وآية لملكه، هي مجيئه بالتابوت الذي حمل موسى في اليم، والذي يحتوي مواريث آل موسى وآل هارون. وقد كان هذا التابوت في بني إسرائيل في العهود السابقة، وكان يمثل لهم السكينة والاستقرار، ثم رفع عنهم لتماديم في غيهم وطغيانهم. ﴿إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة﴾.
... وبلغ "جالوت " تجمع الناس والتفافهم حول "طالوت ". وكان عددهم ثمانين ألفاً وهو عدد قليل بالنسبة للمتخلفين عن القتال فسار جالوت إليهم، عندها أمر نبي ذلك الزمان طالوت بالمسير لمقابلة جالوت. وفي الطريق كان الابتلاء العظيم بالنهر. فقد سلط الله عليهم العطش، وأمرهم بالشرب من ذلك النهر بكيفية خاصة ﴿قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلاً منهم﴾.
ويتابع القرآن الكريم عرضه لهذا المشهد القرآني فيقول: ﴿فلما جاوزه والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده﴾ في تصوير منه للبلاءات المتوالية التي تعترض المجاهدين لتمحيصهم وتصفيتهم وذلك ليتحقق النصر على يديهم إذ أن النصر لا يتحقق إلا على أيدي انجاهدين المخلصين، وهكذا كان، فقد انفصل عن جيش طالوت من انفصل، وفر من الزحف من فر، وبقيت القلة القليلة التي ظنت إنها ملاقية ربها، فقاتلت واستبسلت محتسبة أجرها عند الله ولسان حالها: ﴿وكم من فئة قليل غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين﴾ ودعت الله سبحانه لتثبيت الإقدام والنصر على الأعداء ﴿ربنا أفرغ علينا صبراً وثبت أقدمنا وأنصرنا على القوم الكافرين﴾. فاستجاب لهم ربهم وهزموا "جالوت " وجنوده وأصبحوا ظاهرين.
نقف هنا لنستعرض البلاءات التي مرت على هؤلاء القوم منذ طلبهم ملكاً يقاتلون معه إلى آخر القصة.
فمنها: توليهم عن القتال بعدما كتب عليهم، واعتراض من قَبله منهم على طالوت لأنه ليس منهم ولم يؤتَ سعة من المال.
ومنها الابتلاء بالنهر وتحديد الشرب منه يكفية خاصة.
ومنها ملاقاتهم لجنود جالوت التي أحدثت في أنفس الكثيرين منهم خوفاً جعلهم يفرون من المعركة.
وفي كل مرة من هذه الابتلاءات كان عددهم يتقلص حتى وصل كما تذكر الروايات إلى عدد أصحاب بدر، ﴿ثلاثماية وثلاثة عشر رجلاً﴾. فهزموا جنود جالوت بإذن الله تعالى وبإخلاصهم.
وكان من هذه البقية الممتحنة المخلصة تحت لواء "طالوت " "داود " عليه الصلاة و السلام "وقتل داوُد جالوت ".
نستنتج مما تقدم أن طريق الجهاد صعب مستصعب، وهو طريق ذات شوكة، لا يصمد في عبوره إلا من امتحن الله قلبه للتقوى، وإلا ذو حظ عظيم.
وكما هو ظاهر فإن الصبر وتوطين النفس على الصعاب، مضافاً إلى الإخلاص لله سبحانه في المسير. هو من أهم شروط الجهاد. وذلك حتى لا يسقط المرء في أثناء الطريق، أمام أية ضغوطات وصعوبات تعترضه.
كما إن إطاعة أمر القيادة وعدم التحول عنها أمر لا بد منه، وشرط أساسي في بلوغ النصر. وأن مخالفة أمر القيادة والتشتت هو واحد من الأسباب المؤدية إلى الخسران والهزيمة. هذا في الدنيا، وفي الآخرة عذاب شديد ونارُ جهنم وبئس المصير.
فما علينا هنا سوى الاستفادة من تجارب من قبل فنقوم للجهاد في سبيل الله لدحر الغاصبين والمحتلين، وإنقاذ الشعوب المستضعفة من ظلمهم وعتوهم واستكبارهم تحت ظل القيادة الرشيدة المتمثلة بولي أمر المسلمين (حفظه الله). لا نتفرق عنه ولا نخذله، بل نكون بين يديه ﴿صفاً كأنهم بنيان مرصوص﴾ وعلينا توطين أنفسنا على الصعاب والصبر على البلاءات، وإخلاص النفس لله تعالى في جهادها وتهذيبها. حتى نحقق الأهداف الإلهية المتوخاة من وراء الأمر بالجهاد.
اللهم اجعلنا من أهل نصرة دينك، واجعلنا ممن يمتثلون أداء التكليف الشرعي. مهما كان شاقاً وصعباً ودقيقاً حتى نصل إلى كمالنا اللائق بنا، والحمد لله رب العالمين.