نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

تاريخ: معركة عين جالوت: القرار، الخطّة، النصر


ماهر حسين


واجهت الأمة الإسلامية ومنذ أواخر الحادي عشر الميلادي خطرين كبيرين هدّدا وجودهما والمصير، الخطر الأول مثله الصليبيون الغربيون، والخطر الثاني كان المغول الشرقيين، كان ذلك في فترة تاريخية عصيبة اجتمع فيها الشرق والغرب في هجمة مشتركة على عالمنا الإسلامي.
وإذا كان الخطر الصليبي قد تركّز على القسم الغربي من البلاد الإسلامية الآسيوية (الساحل الشامي) فإنّ الخطر المغولي قد هدّد قلب الأمة وكان له آثار مدمّرة خطيرة حتّى على مستوى إفناء تراثها الحضاري والعلمي فضلاً عن الخسائر البشرية والماديّة التي لا يمكن حصرها.
من هنا تأتي أهميّة ما قامت به الأمة في معركة عين جالوت والتي شكّلت نقطة تحوّل تاريخي قرّرت مصير المنطقة في القرون التالية.

* واقع المسلمين قبل المعركة:
ليس من الصعب تصوّر واقع البلاد الإسلامية غداة الغزو المغولي للبلاد الإسلامية، فبالاتجاه من الشرق إلى الغرب تظهر حالة الضع جليّة في بغداد عاصمة الدولة العباسية وحيث يقيم خليفتها يبدو ترهل قواها بارزاً، أما في الشام حيث الثغور المواجهة للإمارات الصليبية على امتداد الشريط الساحلي الواقع في غرب المنطقة والممتد من فلسطين حتّى الأجزاء الساحلية الشمالية في الشام، هنا يتوزّع أبناء صلاح الدين وأقاربه السيطرة على المناطق ويقيمون دويلاتهم المتنافسة. وفي مصر حيث الضغط العسكري الصليبي بدأ يتجه نحوها حالة من اللااستقرار والصارع الخفي على السلطة.
هكذا كانت باختصار صورة المنطقة عشية الغزو المغولي للبلاد الإسلامية. كيانات متعدّدة تتوزّع قوة الأمة لا يجمعها شيء ولا يمنعها رادع عن حبك المؤامرات لبعضها البعض ولا من الاتصالات السريّة ولا العلنية بالإمارات الصليبية كما أنّ المؤامرات الداخلية في كلّ جزء من أجزاء هذه المنطقة لم تكن تتوقّف أبداً.
في هذا الجوّ المشحون بأنواع الموبقات السياسية والاجتماعية والاقتصادية... كان من الطبيعي أن يتمكّن المغول من اكتساح مناطق واسعة.
بغداد الأقرب إلى مناطق السيطرة المغولية كانت الضحية الأولى اتجه إليها هولاكو في أواخر العام 1257 م بعد أن رفض الخليفة الخضوع له وفي 11 شباط 1258 م وبعد مقاومة أسابيع كانت عاصمة العباسيين تستباح من مئات آلاف الجنود المغول الذين قتلوا ما لا يقلّ عن 80 ألف نسمة بينهم الخليفة هذا باستثناء الأسرى.

الاستعداد للمواجهة:
أمام هذا الواقع المستجد اختلف الموقف الذي اتخذه حكام البلاد الإسلامية فبينما سارع بعضهم إلى إعلان ولائهم لسلطان المغول قرّر بعض آخر خوض المواجهة ورفض الاستسلام.
كان موقف حكّام مصر من المماليك وموقف بعض القيادات في بلاد الشام يدعو إلى المواجهة ورفض الاستسلام إلاّ أنّ بداية المواجهات خاضتها كلّ منطقة بقواها الذاتية التي لم تؤهلها للصمود كثيراً أمام الزحف المغولي، فحلب التي هاجمها المغول في كانون الثاني 1260 سقطت بعد مقاومة عنيفة ودمشق لم تستطع الصمود كثيراً ودخلها المغول في آذار من العام نفسه بعد أن قاومت هي الأخرى. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القوات المغولية لم تتعرّض لمناطق السيطرة الصليبية رغم قربها من الأماكن التي احتلوها وهذا يؤكّد حقيقة التعاون الصليبي – المغولي الذي ذكرت المصادر التاريخية أشياء كثيرة عنه.
مهما يكن فبعد سقوط دمشق تمكن المغول من احتلال بعض المناطق في فلسطين وأبرزها غزة. هنا أصبح المغول على الباب الشمالي لمصر حيث قصدتها كلّ العناصر التي عزمت على الجهاد ومقاومة الاحتلال المغولي، وقبل أن تتثبت السيطرة المغولية في الشام أرسل هولاكو كتاب تهديد إلى سلطان المماليك في مصر قطز يطلب منه الاستسلام، غير أنّ قطز قطع رؤوس رسل المغول وعلّقها وأعلن قراره بالمواجهة مردّداً تلك الصحية الخالدة التي وجّهها لأفراد الجيش المملوكي: "يا أمراء المسلمين! لكم زمان تأكلون أموال بيت المال وأنتم للغزاة كارهون! أنا متوجه، فمن اختار الجهاد يصحبني ومن لم يختر ذلك يرجع إلى بيته فإنّ الله مطلع عليه وخطيئة حريم المسلمين في ركاب المتأخرين".
أدرك المسلمون في مصر ضرورة السرعة في المواجهة فتقدّمت طليعة الجيش المصري نحو غزّة حيث استطاعت أن تدمّر المغول وأكمل الجيش زحفه عن طريق الساحل بعد أن التحق به السلطان قطز ومعه بقية الجيش.

* تفاصيل المعركة:
كانت خطّة المسلمين تقضي بمهاجمة المغول من الشمال أي من الخلف وتطلّب الأمر عبور أراضٍ يحتلّها الصليبيون هنا كان ملفتاً موقف الصليبيين في عكّا الذين سمحوا بعبور القوات الإسلامية الأراضي التي يحتلونها في طريقهم لقتل المغول وسبب هذا الموقف كما يبدو هو خشية الصليبيين من همجية التتار الذين لم يكونوا يراعوا العهود رغم أن التتار كان لديهم اتصالات وتحالف مع العديد من الإمارات والأمراء الصليبيين وكان هجومهم على المناطق الإسلامية جزء من الحملة المشتركة التي شنّها الطرفان من جهتين مختلفتين. وفي كلّ الأحوال عبر جيش المسلمين عكا في الوقت الذي تحرّكت فيه قوات المغول بقيادة كتبفا نائب هولاكو على الشام، وكان هذا الأخير قد عاد إلى موطنه الأصلي لمعالجة بعض الأوضاع الداخلية التي نشأت بعد موت أخيه مونكاخان.
انطلقت قوات المغول من بعلبك حيث كانت كتبفا واتجهت نحو عين جالوت التي قصدها المسلمون أيضاً وفي عين جالوت – التي تقع إلى الشمال الغربي من مدينة بيسان وعلى مسافة عشرة كيلومترات على نهر الجالود – حصلت المواجهة الحاسمة بين المغول والمسلمين.

* تكتيك المسلمين في المعركة:
بعد أن استطاع المسلمون أن يحقّقوا النصر على المغول في غزّة باعتماد عنصر المباغتة اعتمدوا في معركة عين جالوت تكتيكاص خاصاً بإخفاء القسم الأكبر من الجيش في حالة مكمن في الجبال وخرج السلطان قطز مع جزء قليل من جيشه إلى أرض المعركة حيث أغرت قلّتهم المغول الذين هاجموهم على الفور، وأظهر المسلمون عندها تراجعاً وانهزاماً نحو الجبال التي تقدّم نحوها المغول ليجدوا أنفسهم محاصرين من كلّ الجهات، وفي هذه اللحظات بدأت المعركة الأساسية التي قضى فيها على معظم الجيش المغولي فيما أسر بقية أفراده وفي مقدّمتهم قائد الجيش كتبفا الذي أمر السلطان بقتله بعد قليل من أسره. كل ذلك من خلال ساعات قليلة من يوم الجمعة 25 رمضان 658 ه الموافق لـــ3 أيلول 1260، وعلى الفور وبعد انتصارهم في عين جالوت بدأت عملية التقدم السريع نحو دمشق وبقيت المناطق التي احتلها المغول في الشام فحرّرت دمشق بعد المعركة بخمسة أيام وبعد عدّة أسابيع حرّرت حلب ولم يستطع المغول الذين حاولوا معاودة الهجوم على حلب أن يعودوا إلى أيّ جزء من الأرض المحرّرة كما تحرّرت حمص وحماة وبقية المناطق الشامية.

نتائج ودلالات:
ممّا لا شكّ فيه أنّ معركة عين جالوت مثلت نقطة تحوّل خطيرة في تاريخ العالم الإسلامي بأسره فقد انقذ انتصار المسلمين في هذه المعكرة مصر وبلاد الشام من خطر المغول وجعل دولتهم تقف عند حدود العراق ورغم أنّ تهديدهم لبلاد الشام ظلّ قائماً إلاّ أنّ خطرهم لم يتجاوز الإغارات المتقطّعة التي كانت تنتهي بالاندحار السريع عندما تخرج لمواجهتهم الجيوش الإسلامية.
جاءت معركة عين جالوت بعد عمليات الاستنزاف الكبيرة التي قام بها المسلمون ضدّ الغزاة المغول في المعارك المتتالية التي خاضوها معهم وحتّى في الانتفاضات السريعة التي نشأت بعد الاحتلال في المدن الشامية وخاصّة في دمشق.
وتعتبر معركة عين جالوت معركة الأمة بحق حيث شاركت فيها قوى إسلامية متعدّدة، وعناصر كثيرة كانت قد تجمّعت في مصر بعد أن انسحبت من أمام القوات المغولية وقد كان لاشتراك هذه القوات الراغبة في الجهاد والمقاومة جميعها أثر كبير في تحقيق الانتصار.
ولا شكّ في أنّ العامل الأساس في تحقيق النصر كان تلك الوحدة التي تمثّلت في اندماج كلّي للقوى الإسلامية في مصر والشام والتي لم تؤثر عليها خيانة من خان وجبن من جبن ولا حياد البعض في اتخاذ الموقف الصحيح، لقد كان قرار المواجهة والمقاومة والجهاد قراراً نابعاً من صميم مشاعر الأمة، وقد أدّى ذلك لوضع حدّ لأسطورة جيش المغول الذي لا يهزم ولا يقهر وظهرت جلية عملاقة إرادة المقاومة المنتصرة، وكان من الطبيعي أن تنعكس نتائج المعركة على جبهة الصراع الآخر (الإسلامي – الصليبي) الذي كان قائماً والذي شكّل انتصار عين جالوت نقطة انطلاق وأمل لتسعير الصراع مع الصليبيين وتحقيق الانتصار عليهم كما تكفّل النصر قبل ذلك بالاسترداد لكلّ المدن الشامية التي كانت سقطت قبل ذلك في أيدي المغول كما أنّه كان للانتصار أثر آخر وأخطر حيث أقبل المغول بعد ذلك على الإسلام يعتنقوه بعد أن شعروا بقوّته وعظمته وجعلتهم الهزيمة يبصرونه على حقيقته.

لقد كانت معركة عين جالوت حلقة في الصراع الذي خاضته الأمة في القرن الثالث عشر الميلادي ضدّ أعدائها الغربيين والشرقيين وقد كانت هذه الموقعة نقطة الضوء التي اتسعت والأمل الذي كبر والذي أدّى إلى حالة من الوعي اللاحق وصحوة الأمة وإدراكها للمخاطر التي تهدّدها فعادت بعد فترة من ذلك لتأخذ المبادرة وتقوم بالحركة العكسية التي أدّت إلى إسلام المغول واحتلال القسطنطينية ودكّ أبواب فينا في قلب أوروبا التي كانت قبل قليل تهدّد قلب المناطق الإسلامية في الشرق.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع