تنطوي معرفة النفس الإنسانية على فوائد جسيمة لا يمكن تحصيلها من طريق آخر. ولذلك نجد الروايات الكثيرة التي تحث على معرفة النفس وتؤكد أهميتها. حتى أن أمير المؤمنين عليه السلام قال: إن معرفة النفس أنفع المعارف.
والواقع أن من يعرف نفسه يعرف أشياء كثيرة جداً، ونحن هنا سوف نشير إلى جملة منها.
أولاً: من عرف نفسه عرف عدوه الكامن فيها المشار إليه بقول الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك.
فيعرف أن النفس في المقام الأول هي هذا الجسد. وجنوده القوى الظاهرية الموجودة في أقاليمه السبعة، وهي: الأذن والعين واللسان والبطن والفرج واليد والرجل.
وهذه القوى جميعها تحت تصرف الوهم، والوهم إذا تحكم عليها بتدخل من الشيطان أو مستقلاً بذاته - وهو الهوى - جعل تلك القوى جنوداً للشيطان، وبذلك يجعل هذه المملكة تحت سلطان الشيطان وتنهزم منها جنود الرحمن والعقل. وأما إذا خضع الوهم لحكم العقل والشرع ولم يستقل بذاته ويتبع هواه أو يأتمر بأمر الشيطان، كانت حركاته مقيدة بالنظام والعقل والشرع، وتصبح هذه المملكة روحانية وعقلانية ولا مكان لموطئ قدم للشيطان وجنوده فيها مطلقاً.
ويعرف أن النفس في المقام الثاني لها جنود أكثر وأشد أهمية من مملكة الظاهر. فالملكات الفاضلة فيها جنود الرحمن، تقابلها جنود الشيطان من الملكات السيئة. ومنبع جميع هذه الملكات قوى ثلاث: الوهمية، والغضبية، والشهوية. وللإنسان صورة وهيئة وشكلاً ملكوتياً غيبياً تابعاً لملكات النفس الباطنية.
فإذا كانت الملكة والسريرة الباطنية إنسانية، تكون الصورة الملكوتية له صورة إنسانية. وأما إذا غلبت على باطنه ملكة الشهوة والبهيمية مثلاً - أصبح حكم مملكة الباطن حكم البهيمة، وكانت صورة الإنسان الملكوتية على صورة إحدى البهائم، كذلك إذا غلبت على باطنه وسريرته ملكة الغضب والسبعية، كانت صورته الملكوتية إحدى السباع والبهائم. حتى إنه روي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أن بعض الناس يحشرن يوم القيامة على صور تحسن عندها صور القردة والخنازير.
وأمام هذا الخطر الكبير، يتوجه الإنسان إلى ربه مستعيذاً من نفسه كما في الدعاء: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي. ومع معرفة العدو، مكائده وأساليبه، يعرف الإنسان كيف يحذر منه ويواجهه. قال بعض الحكماء: إن الفهم التحليلي لأية عملية نفسية يجعلنا قادرين على السيطرة عليها أو يحررنا من سيطرتها علينا.
ولو لم يعرف نفسه، ينجرف وراء أهوائها ويتخذ هواه إلهاً فيرى الباطل حقاً كما في قوله تعالى: ﴿فطوّعت له نفسه قتل أخيه﴾ (المائدة/30) وروي عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: "ما عبد في الأرض إله أبغض إلى الله تعالى من الهوى"، ثم تلا ﴿أرأيت من اتخذ إلهه هواه﴾ (الفرقان(43).
وللنفس مقامات أخرى لا مجال لذكرها.
ثانياً: من عرف نفسه فقد عرف العالم. وذلك لأن النفس الإنسانية مجمع الموجودات كلها. فهي مع الروح روح ومع العقل عقل ومع الخيال خيال ومع المادة مادة. فهي كل شيء وفيها انطوى كل شيء. روي عن أمير المؤمنين عليه السلام أنه قال:
أتزعم أنك جرم صغير | وفيك انطوى العالم الأكبر |
وأنت الكتاب المستبين الذي | بأحرفه يظهر ما كان مضمر |
النفسية الإنسانية مجمع الموجودات كلها وينطوي فيها العالم الأكبر.
وعليه فمن عرف نفسه عرف الموجودات كلها، ولذلك قال تعالى: ﴿أو لم يتفكروا في أنفسهم ما خلق الله السموات والأرض وما بينهما إلا بالحق وأجل مسمى. وإن كثيراً من الناس بلقاء ربهم لكافرون﴾ (الروم/8).
فما ألطف هذه الآية الكريمة في إشارتها إلى أن الناس لو تدبروا في أنفهسم وعرفوها حق المعرفة لعرفوا من خلالها حقائق الموجودات الفاني منها والباقي، فعرفوا حقيقة السموات والأرض وأن لهما أجلاً مسمَّى، ولأنهم حق ولم يخلقوا عبثاً فلا بد من البعث الذي هو لقاء ربهم.
ثالثاً: من يعرف نفسه من حيث أنها روح مجردة غير قابلة للفناء يطلع على العالم الروحاني الباقي، ومن يعرف جسده من حيث إنه مادة فانية داثرة ينتبه إلى أن الدنيا المادية فانية داثرة. فيعرف خسة الفانيات الداثرات وشرف الباقيات الصالحات كما قال تعالى: ﴿المال والبنون زينة الحياة الدنيا والباقيات الصالحات خير عند ربك ثواباً وخير أملاً﴾ (الكهف/46).
رابعاً: من عرف نفسه لم يجد عيباً من أحد الناس إلا رآه موجوداً في ذاته، إما ظاهراً جلياً وإما كامناً كمون النار في الجمر، وهكذا يستطيع أن يعلم عيوب نفسه ويشتغل بها عن عيوب الناس فتشمله الرحمة بدعاء الرسول صلى الله عليه وآله وسلم.: "رحم الله من أشغله عيبه عن عيب غيره".
خامساً: من عرف نفسه عرف كيف يسوسها، ومن أحسن أن يسوس نفسه وجنودها أحسن أن يسوس العالم لأن نفسه مجمع الموجودات كلها كما أشرنا. قال أمير المؤمنين عليه السلام: "يدانكم الأول أنفسكم. فإن أنتم ذرتم عليها كنتم على غيرها أقرد وإن عجزتم عنها كنتم عن غيرها أعجز". ويستحق بذلك أن يصير من خلفاء الله في الأرض كما في قوله تعالى: ﴿ويستخلفكم في الأرض﴾ (الأعراف/129).
سادساً: من عرف نفسه عرف ربه، ولهذا الكلام بحث عميق، وقد روي أنه ما أنزل الله كتاباً إلا وفيه: إعرف نفسك أيها الإنسان تعرف ربك، وفيها يقول تعالى: ﴿ولا تكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم﴾ (المدثر/19) ودلالتها واضحة فلو أخذنا عكس النقيض(1). لهذه القضية، والنسيان هنا بمعنى نقيض المعرفة، فنسيان الله الذي هو موضوع هذه القضية نقيضه معرفة الله وهو محمول القضية المعكوسة، ونسيان النفس الذي هو محمول في الآية الشريفة نقيضه معرفة النفس وهي موضوع القضية المعكوسة. فيصبح عكس النقيض للآية الشريفة: معرفة النفس تؤدي إلى معرفة الله أي: من عرف نفسه فقد عرف ربه.
* النفوس أربعة
عن كميل بن زياد قال: سألت مولاي أمير المؤمنين علياً عليه السلام فقلت: يا أمير المؤمنين أريد أن تعرفني نفسي؟ فقال يا كميل وأي الأنفس تريد أن أعرفك؟ فقلت يا مولاي وهل هي إلا نفس واحدة؟ قال يا كميل إنما هي أربعة: النامية النباتية، والحسيّة الحيوانية، والناطقة القدسية والكلية الإلهية. ولكل واحد من هذه خمس قوى، وخاصيتان، فالنامية النباتية لها خمس قوى: ماسكة وجاذبة وهاضمة ودافعة ومرتبة، ولها خاصيتان: الزيادة والنقصان، وانبعاثها من الكبد، والحسية الحيوانية لها خمس قوى: سمع وبصر وشم وذوق ولمس، ولها خاصيتان: الرضا والغضب وانبعاثها من القلب.
والناطقة القدسية لها خمس قوى: فكر وذكر وعلم وحلم ونباهة وليس لها انبعاث، وهي أشبه الأشياء بالنفوس الملكية، ولها خاصيتان: النزاهة، والحكمة.
والكلية الإلهية لها خمس قوى: بقاء في فناء، ونعيم في شقاء، وعز في ذل، وفقر في غنى، وصبر في بلاء، ولها خاصيتان: الرضا والتسليم. وهذه هي التي مبدأها من الله وإليه تعود، قال تعالى: ﴿ونفخت فيه من روحي﴾ وقال تعالى: ﴿يا أيتها النفس المطمئنة إرجعي إلى ربك راضية مرضية﴾، والعقل وسط الكل.
(1) عكس النقيض لأي قضية هو إبدال طرفي القضية يجعل نقيض موضوع الأولى محمولاً في الثانية ونقيض محمول الأولى موضوعاً في الثانية مع بقاء الصدق والكيف.
طلب واستفسار
مهدي
2016-03-04 00:48:01
الساده المشرفون على هذا الموقع المبارك السلام عليكم ورحمه الله وبركاته هل هناك من اليات او طرق او تمارين نفسيه او روحيه على شكل برامج من خلالها يتمكن الانسان على السيطره على نفسه وخصوصا فيما يتعلق بجانب التفكير والخيال والثرثرة الباطنيه ، ومن الجدير بالذكر ان مثل هذه القضايا المهمه تطرح على شكل عموميات رغم شرافتها واهميتها كالنصوص الدينيه المقدسه ولكم الشكر والاحترام والتبجيل