حنان الموسوي
رنّ جرس «البايجر» المثبّت على حزام خصري مطوّلاً. لم أعره اهتماماً فبين يديّ أوراق مهمّة أتمعّن في قراءتها. لم ألتفت إلى أنّ زخم تلك الرنّة الطويلة لم يكن معتاداً. كانت يدي اليمنى تُحكم الإمساك بالقلم، بينما اليسرى حرّة تنسدل تحت طاولة المكتب. باغتني انفجارٌ لم أدرك سببه في بادئ الأمر! كان الدم يقطر من يدي حين رفعتها، وأحسست برطوبةٍ دافئة تبلّل ثيابي. لوهلةٍ، رأيت جزءاً من أمعائي خارج بطني، مع سيلٍ من الدماء صبغ ملابسي!
* استهدافٌ جماعيّ
لم يتبادر إلى ذهني سوى الاستهداف بصاروخ، كذلك اعتقد رفاقي المحيطين بي بعد أن هرعوا إليّ. انسبت تلقائيّاً عن الكرسيّ من شدّة النزف، فوضعوني على غطاءٍ ونقلوني إلى المستشفى. في الطريق، كان سيناريو ما حصل يدور في رأسي، بعد أن تيقّنت أنّ هذا حال العديد من المجاهدين بعد انفجار أجهزة «البايجر» خاصّتهم، إذ كنت أسمع صراخ الناس جرّاء التفجير في الشارع أثناء عبورنا، وركز في أمّ رأسي أنّ أمر العلاج لن يطول، أسبوعٌ فقط وسأكون في عملي.
* جراحةٌ سريعة
لم يكن ثمّة متّسعٌ لجريح إضافيٍّ في مستشفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، لذا، نُقلت على عجلٍ إلى آخر. أُدخلت إلى الطوارئ وتمّ فحصي. لم يطُل الكشف حتّى أُمر بي إلى غرفة العمليّات سريعاً. كان عظم وركي بارزاً، وجزء من لحم الخاصرة قد تلاشى، وأمعاءٌ مثقوبة قد غادرت مكانها، ومشاهد تنبئ أنّ البلاء طويلٌ مكوثه. خضعت لجراحةٍ في منتصف البطن لتطهير الأمعاء، نُظّف خلالها محيط الإصابة، وعُقّم جيّداً وأغلِق.
* ثقوبٌ خفيّة
بعد يومين، خضعت لجراحةٍ ثانية أخرجوا خلالها الأمعاء واستأصلوا منها الشظايا، ثمّ رتقوا بعض الثقوب، وأغلقوا الجرح مجدّداً. الحمّى التي رافقتني لم تكن مؤشّر خير. جفاف جسدي، وفقدان الوزن مع انعدام الشهيّة، والتهاب الجرح الذي زاد من ألمي حتّى مع كمّ المسكّنات الهائل، لم يكن كلّ ذلك دليل عافية. وقد أظهرت الصور الشعاعيّة تضخّماً في شرياني الأبهر يحتاج لجراحة، لذا، حُوّلت إلى مستشفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم لهذه الغاية.
* هيكلٌ عظميٌّ ينبض
نُقلت بعدها إلى مستشفى تعنايل في البقاع. لم يميّزني الأطبّاء عن الهيكل العظميّ سوى بطبقة من الجلد الجافّ، وعينين تجاهدان الألم كي تبقيا مفتوحتين، ونبضٍ خافتٍ لوّعه الوجع. وضعي النفسيّ لامس الحضيض خاصّةً بعد استهداف سماحة السيّد حسن نصر الله (رضوان الله عليه)، فتوجّب إجراء تحاليلَ وصور أشعّةٍ من جديد، كشفت عن انتشار جرثومة في عظم الورك، ما استدعى خضوعي لجراحة ثالثة خلال خمسة عشر يوماً فقط، تمّ خلالها تضميد قسمٍ من الأمعاء المثقوبة التالفة. مكثت في ذلك المكان أسبوعين أيضاً، حاولوا خلالهما القضاء على الجرثومة بعلاجٍ جعلها تخبت. ولكن ما إن غادرنا المستشفى إلى المنزل، حتّى نشطت مجدّداً.
* حُمّى لا تزول
لازمتني الحمّى أسبوعين فقدت خلالهما القدرة على الحركة، كما ساعد نزول ضغط دمي على مضاعفة قلّة حيلتي، حتّى غدوت باهتاً شاحب الوجه وأعاني من مشاكل في الكليتين نتيجة الجفاف الحادّ. نُقلت إلى مستشفى البقاع، حيث تلقّيت علاجاً للتخلّص من الجرثومة، ولكنّه لم يكن كافياً. أجرى لي الأطبّاء قسطرة وريديّة مركزيّة لأحظى بتغذيةٍ شاملة. بعدها، خضعت لجراحةٍ استأصلوا فيها نحو متر من أمعائي المثقوبة.
عند تنفيذ قرار وقف إطلاق النار، عدت إلى المنزل أسبوعاً فقط، نُظّف خلاله الجرح يومَي الاثنين والخميس. كان التحسّن بطيئاً بسبب نحول جسدي، كما أنّ الحمّى داهمتني بسبب انتشار الجرثومة مرّة أخرى.
مسلسل الآلام لمّا ينتهِ بعد، ولم يطل الأمر حتّى نُقِلت إلى مستشفى رياق هذه المرّة. تجرّعت فائضاً من المضادّات الحيويّة، خضعت على إثرها لجراحة أخرى. وضعي المزري استلزم دخولي المستشفى مجدّداً، لكنّ إرهاقي النفسيّ منعني من قبول ذلك بشدّة، وطلبت أن أتلقّى العلاج في المنزل، فجوّ العائلة واحتضانها يساعد في التعافي بشكلٍ أسرع.
* جراحةٌ ناجحة
شاءت حكمة الله أن يأتي ردّ مركز القلب في بيروت بضرورة متابعة تضخّم الشريان الأبهر في ذلك الوقت تحديداً، بعد دراستهم لوضعي الصحيّ، وقد تقرّر إجراء جراحةٍ مستعجلة. تلك الجرثومة الخبيثة حالت دون ذلك، فقد استوجب القضاء عليها قبل الجراحة، لما يشكّل بقاؤها من خطرٍ داهم على حياتي، ويعرّض الصمّام الجديد للتلف. بعد أسبوعين من تلقّي العلاج المناسب والمكثّف في مستشفى الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، خضعت لجراحة الصمّام في مركز القلب، وقد تكلّلت بالنجاح بفضل الله.
* شوقٌ لمتابعة الطريق
أتابع عملي حاليّاً من المنزل بشكلٍ جزئيّ، وأتابع علاجي بانتظام. أتوق لاسترداد عافيتي كي أكون بين رفاقي من جديد، وأشتاق لنشاطي القديم، وأتمنّى استعادته قريباً، فأمامنا أهداف لا تحدّها سماء، علينا تحقيقها. فخرت بجراحي، فبها أواسي قمر بني هاشم عليه السلام ، لكنّ غايتي أن أختم حياتي بين يديْ قائم آل محمّد عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكلّ أملي ومُنيتي أن أبذل جهداً وعملاً تمهيداً لظهوره الشريف، وما يقوي صبري ويشدّ عزيمتي هو هذه الغاية.
عزمٌ لا يلين
شهرٌ ونصف شهرٍ هي الفترة المحدّدة لاستقرار وضع القلب، أحتاج خلالها إلى تغذية خاصّة تساعدني في استرداد طاقتي. أتناول علاجاً لتنظيم دقّات القلب، وأعاني من ضعفٍ عضليٍّ حادّ. أسعى بكامل عزمي لاسترداد عافيتي، كي أزاول عملي مجدّداً.
أمّا شهادة سماحة السيّد (رضوان الله عليه)؛ فحديثٌ ذو شجون، فكلّ هذا الوجع والألم من جهة، دافعٌ يبثّ العزم لاستكمال نهجه ولو قُدِّمت كلّ المُهجِ من جهةٍ أخرى. لقد جعلت شهادته كلّ بلاءٍ دونها سهلاً بسيطاً، فالسيّد كان الأغلى والأقدس.
أسأل الله أن يتقبّل معاناتي أنا وإخوتي الجرحى، وأن يجود علينا باللطف لنكمل طريقنا ونختمه بما يحبّ ويرضى.
- اسم الجريح: جواد.
- تاريخ الولادة: 20-10-1979م.
- تاريخ الإصابة: 17-9-2024م.
- نوع الإصابة: في الخاصرة واليد اليسرى.