مع الإمام الخامنئي | يا شعب لبنان الوفيّ نور روح الله | الوعي بوصلة المؤمنين قيم علوية| انشغل بعيوبك! تسابيح جراح | لن يقرب اليأس منّي أولو البأس | الخيام مقبرة غولاني الشهيد على طريق القدس عارف أحمد الرز («سراج)» تشييع السيّد يومٌ من أيّام الله طوفان المحبّين على العهد لن تأخذوا أسرارنا من صغارنا تذيع سرّاً تسفك دماً

كيف تحفظ خصوصيّاتك؟

الشيخ علي متيرك

 

عن أمير المؤمنين عليه السلام: «مَن كتم سرَّه كانت الخيرة بيده، وكلّ حديث جاوز اثنين فشا»(1).

إنّ كتمان السرّ وحفظه من الفضائل والقيم المهمّة التي تعكس الثقة والمسؤوليّة بين الأفراد، وقد حثّت عليه روايات أهل العصمة عليهم السلام؛ وذلك لأهمّيّته في حفظ المصلحة ودفع الضرر والمفسدة، سواء كان ذلك على المستوى الفرديّ والشخصيّ، أم الجماعيّ والعامّ. وكلّما كان مضمون السرّ ذا خطورة وأهمّيّة، كان كتمانه أشدّ ضرورة، وخاصّة إذا تعلّق ذلك بالأعراض أو الدماء.

كما تربط بعض الروايات الكتمان بالحماية من الحسد؛ إذ إنّ الحديث عن النِّعم والمشاريع المستقبليّة أمام الجميع قد يُعرّض الإنسان للطاقة السلبيّة، أو حتّى العرقلة من قِبَل مَن لا يتمنّى له الخير، عن أمير المؤمنين عليه السلام: «أنجح الأمور ما أحاط به الكتمان»(2).

* الأسرار وأنواعها
السرّ هو كلّ معلومة أو حقيقة يحتفظ بها الإنسان لنفسه أو يتبادلها في نطاق محدود، مع رغبة في عدم كشفها للآخرين، وتكون على صنفَين:

الأوّل: أسرار شخصيّة: قد تتعلّق بالفرد وحده، في أمور يكون هو عليها، أو يريد فعلها، أو ترتبط بأمور شخصيّة عائليّة، أو غير ذلك. وقد حثَّت أحاديث المعصومين عليهم السلام على كتمان هذه الأسرار، ودعَت إلى حفظها وعدم البوح بها، عن الإمام الصادق عليه السلام لبعض أصحابه: «لا تُطلِع صديقَك من سرّك إلّا على ما لو اطّلع عليه عدّوك لم يضرّك؛ فإنّ الصديقَ قد يكون عدوّاً يوماً»(3)، وعنه عليه السلام: «سرّك من دمك، فلا يجرينّ من غير أوداجك»(4).

كما قد تكون هذه الأسرار مرتبطةً بعمل يسعى المرء في تنفيذه، عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «استعينوا على قضاء حوائجكم بالكتمان؛ فإنّ كلّ ذي نعمة محسود»(5)، وعن الإمام الجواد عليه السلام: «إظهار الشيء قبل أن يستحكم، مفسدة له»(6).

وإنّ مرجعَ ضرورة الكتمان في مثل هذه الأمور، احتمال وجود حاقدين وحاسدين، يتأبّطون لغيرهم سوءاً وشرّاً، فيحسدونهم أو يحقدون عليهم ويقومون بتعطيل ما يودّون قضاءه من حوائج.

الثاني: أسرار الآخرين: هي تلك التي تكون مشتركة مع أطراف أخرى أو متعلّقة بأمور جماعيّة، كالأسرار العائليّة أو المهنيّة، وهذا السرّ يكون حفظه مسؤوليّة مشتركة. والتمييز بين هذين النوعين يساعد في فهم متى يكون الإفشاء خيانة للثقة، ومتى يكون ضرورة.

هذا النوع أيضاً نجد له في أحاديث المعصومين عليهم السلام حيّزاً كبيراً، وهو يدخل في الأصل تحت عنوان الأمانة؛ إذ إنّ أسرار الآخرين إنّما هي أمانة بين يدَي من يعرفها، وينبغي التعامل معها على هذا الأساس، وقد عُبّر عنها بالمجالس، فعن الإمام الصادق عليه السلام: «المجالس بالأمانة، وليس لأحدٍ أن يُحدّث بحديث يكتمه صاحبه إلّا بإذنه، إلّا أن يكون ثقة أو ذِكراً له بخير»(7)، وعن أمير المؤمنين عليه السلام: «كاتم السرِّ وفيٌّ أمين»(8). فمن أُسِرّ له بشيء، فإنّما أُودِع أمانة، وقد ورد فضل كتمان أسرار الآخرين في الروايات، فعن الإمام الكاظم عليه السلام: «ثلاثة يستظلّون بظلّ عرش الله يوم لا ظلّ إلّا ظلّه: رجل زوّج أخاه المسلم، أو أخدمه، أو كتم له سرّاً»(9).

كما نُهي في المقابل عن إفشاء أسرار الآخرين، عن الإمام الصادق عليه السلام: «مَن أذاع أمرنا ولم يكتمه، أذلّه الله به في الدنيا، ونزع النور من بين عينيه في الآخرة، وجعله ظلمة تقوده إلى النار»(10).

إنّ مواقف الناس تتباين تجاه مشاركة تفاصيل حياتهم الشخصيّة؛ فبعضهم يرى في البوح راحةً وسبيلاً للتواصل، بينما يجد آخرون في الكتمان حصناً يحميهم من التدخّلات غير المرغوبة. لكنّ الأهمّ من ذلك هو القدرة على التمييز بين ما يُذاع وما يُحتفظ به، إذ إنّ بعض التفاصيل الشخصيّة ليست أسراراً بالضرورة، لكنّها قد تُعرّض الإنسان للتقييم، أو النقد، أو حتّى الحسد.

* العائلة وشؤونها
تُعَدّ المشكلات العائليّة من أكثر الأمور تداولاً في الدوائر الاجتماعيّة، سواء كان ذلك بحسن نيّة، بهدف طلب المشورة، أم بدافع الفضفضة، أو غير ذلك. لكن، لا بُدّ هنا من لفت النظر إلى أنّ إذاعة الخلافات العائليّة والرحميّة، وتوسيع رقعة انتشارها، قد يؤدّيان إلى تعقيدها، وبيان العيوب المستورة وفضحها في بعض الأحيان. ولا شكّ في أنّ حفظ الأسرار العائليّة، وعدم نشر المشاكل بين الأرحام، يُسهم في تقوية الروابط الأسريّة ومنع الفتن، ممّا يعزّز الرحمة والمودّة بين أفراد العائلة.

* الحياة الزوجيّة
إنّ العلاقة الزوجيّة من أكثر الأمور حساسيّة؛ إذ يؤدّي الإفراط في مشاركة تفاصيلها إلى إضعاف خصوصيّتها، وربّما زعزعة استقرارها. ومع تطوّر وسائل التواصل الاجتماعيّ، بات الأمر أكثر خطورةً وتعقيداً، فبعض الأزواج ينشرون تفاصيل خلافاتهم أو حتّى لحظاتهم الجميلة، ممّا يجعل العلاقة عرضةً للحسد أو التدخّل غير المرغوب فيه.

وقد دعا القرآن الكريم إلى معالجة الخلافات الأسريّة بحكمة وسرّيّة، وذلك عبر التحكيم في الإطار الضيّق من الأرحام الذين يُعلَم تأثيرهم وقدرتهم على العلاج، وفي ذلك دلالة على ضرورة عدم إذاعة الأسرار ونشرها، قال تعالى: ﴿وَإِنْ خِفْتُمْ شِقَاقَ بَيْنِهِمَا فَابْعَثُوا حَكَمًا مِنْ أَهْلِهِ وَحَكَمًا مِنْ أَهْلِهَا إِنْ يُرِيدَا إِصْلَاحًا يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُمَا﴾ (النساء: 35).

إنّ حفظ الأسرار الزوجيّة جزء من الأخلاق والقيم الإسلاميّة، وإنّ نشرها يؤدّي إلى فقدان الثقة، ويهدّد استقرار هذه الحياة، وربّما يؤدّي إلى انهيارها.

* الصداقات والعلاقات الاجتماعيّة
الصداقة علاقة إنسانيّة راقية تقوم على المحبّة والوفاء، وهي من أهمّ الروابط التي تؤثّر في حياة الإنسان، بحيث يجد فيها الدعم والسند في مختلف المواقف. وإنّ الصداقة الحقيقيّة تقوم على النصح والإخلاص، وليست مجرّد علاقة عابرة، بل رابطة تتطلّب الوفاء وحُسن المعاشرة والثقة. من هنا، فإنّ حفظ الأسرار في هذه العلاقات هو أساس في عمليّة البناء، وإفشاءها يؤدّي إلى فقدان المودّة وفساد الصداقة.

يقول الإمام الباقر عليه السلام: «والله، إنّ أحبّ أصحابي إليّ أورعهم وأفقههم وأكتمهم لحديثنا»(11).

* إدارة الأسرار
ليس كلّ ما في حياتنا سرّاً، لكنّ بعض التفاصيل قد تؤدّي إلى نتائج لا تُحمد عقباها إذا انتشرت. لذا، فإنّ من الحكمة اتّباع بعض القواعد والضوابط في إدارة الخصوصيّات والأسرار، ومنها:

1. التمييز بين ما هو خاصّ وما يمكن مشاركته
قبل إفشاء أيّ معلومة، على المرء أن يتنبّه إلى ما يمكن أن يترتّب من ضرر مباشر أو غير مباشر على ذلك، وأيضاً عليه أن يحرص في ذلك على عدم فتح باب التدخّلات أو التقييمات غير المرغوبة، ولعلّ في قول أمير المؤمنين عليه السلام إشارة إلى ذلك: «سِرُّك أسيرك، فإن أفشيتَه صُرتَ أسيرَه»(12).

2. معرفة حدود الأشخاص وأطباعهم
ليس كلّ من حولنا مؤهّلاً لحمل الأسرار؛ بل قد يتصرّف أقرب الأصدقاء أحياناً بسذاجة، أو ينقلون بعض المعلومات من دون قصد الأذى، بل عن حُسن نيّة أحياناً. لذا، من الأفضل أن تكون للمرء دائرة ضيّقة من الأشخاص الموثوقين الذين يمكنه اللجوء إليهم عند الحاجة، والاستعانة بهم.

3. التحكّم في أسلوب مشاركة المعلومات
على المرء في حال الاضطرار إلى مشاركة أمر معيّن، أن يختار الطريقة والأسلوب المناسبَين، فيلجأ إلى التعابير العامّة مثلاً، أو طرح المشكلة من دون تحديد أطرافها.

4. الحذر من وسائل التواصل الاجتماعيّ
لقد أصبحت وسائل التواصل الاجتماعيّ مصدراً رئيساً لإفشاء التفاصيل الشخصيّة من دون إدراكٍ للعواقب والآثار، من مشاركة الصور، والأماكن، بل مشاركة مشاعر معيّنة من فرحٍ أو حزنٍ، الأمر الذي يفتح في الغالب باباً لتدخّلات مزعجة، بل لمخاطر أمنيّة أحياناً.

5. الكتمان ليس عزلة
على الإنسان أن يعلم أنّ الكتمان لا يعني الانعزال عن الناس، بل هو وسيلة حماية للخصوصيّات، مع الاحتفاظ بعلاقات صحّيّة ومتوازنة. ومن الجيّد مشاركة بعض الأمور مع مَن هم أهل ثقة وأمانة، لكن بحدود مدروسة.

* التوازن مطلوب
إنّ الكتمان مهارة تحتاج إلى وعي وتدريب؛ فكما أنّ الإفراط في البوح قد يُعرّضنا لمشاكل غير متوقّعة، كذلك فإنّ المبالغة في الكتمان قد تؤدّي إلى الشعور بالعزلة والوحدة. لذا، فإنّ الحكمة تكمن في تحقيق التوازن، بأن نُدير معلوماتنا الشخصيّة بحكمة، فنعرف متى نتحدّث، ومع مَن، وكيف، ونحافظ على خصوصيّتنا، من دون إغلاق الأبواب أمام التواصل الصحّيّ والسليم مع الآخرين.


(1) الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 380.
(2) عيون الحكم والمواعظ، الليثيّ الواسطيّ، ص 123.
(3) الأمالي، مصدر سابق، ص 767.
(4) بحار الأنوار، العلّامة المجلسيّ، ج 72، ص 71.
(5) شرح نهج البلاغة، ابن أبي الحديد، ج 1، ص 316.
(6) تحف العقول عن آل الرسول، ابن شعبة الحرّانيّ، ص 458.
(7) الكافي، الشيخ الكلينيّ، ج 2، ص 660.
(8) عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 395.
(9) الخصال، الشيخ الصدوق، ص 142.
(10) الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 224.
(11) المصدر نفسه، ج 2، ص 223.
(12) عيون الحكم والمواعظ، مصدر سابق، ص 285.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع