تتنوّع العلاقات في حياة الإنسان على ثلاثة اتّجاهات، هي:
1- العلاقة مع نفسه.
2- العلاقة مع الله.
3- العلاقة مع الناس والمجتمع.
وتبعاً لها، تتنوع القضايا بين ظاهرة للناس وخافية عنهم، وباطنة في النفس. وعليه،
تنقسم الأسرار، وفق هذه العلاقات، إلى ثلاثة أقسام: الأسرار الشخصيّة وأسرار الله
وأسرار الناس.
في هذا المقال، سنتناول هذه الأسرار؛ لنميّز بين ما يمكن إذاعته وما لا يمكن.
* القسم الأول: الأسرار الشخصيّة
وهي الأسرار الخاصّة بالإنسان، مثل: خططه ومشاريعه وأمواله وممتلكاته وآلامه وآماله
وتطلّعاته وأمراضه وأفراحه وأتراحه. وقد يظنّ الإنسان أنّه يحقّ له إذاعة هذه
الأسرار كلّها والتحدّث بها، لكنّ الله سبحانه، الذي خلق هذه النفس ويعلم
بتركيبتها، نهى الإنسان عن كلّ ما فيه ضرر جسديّ بالغ له، أو مهانة، أو إساءة
نفسيّة شديدة تشينه أمام الناس، ولا يرضى له بذلك.
فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام قال: "إِنَّ اللَّه عَزَّ وجَلَّ فَوَّضَ
إِلَى الْمُؤْمِنِ أُمُورَه كُلَّهَا ولَمْ يُفَوِّضْ إِلَيْه أَنْ يُذِلَّ
نَفْسَه، ألَمْ تَسْمَعْ لِقَوْلِ اللَّه عَزَّ وجَلَّ:
﴿ولِلَّهِ الْعِزَّةُ ولِرَسُولِه ولِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (المنافقون: 8)؟
فَالْمُؤْمِنُ يَنْبَغِي أَنْ يَكُونَ عَزِيزاً ولَا يَكُونَ ذَلِيلاً، يُعِزُّه
اللَّه بِالإِيمَانِ والإِسْلامِ"(1). ومن الأمور التي ينبغي إخفاؤها:
أ- المال والغنى: من قبيل عدم تعداد ما يملك(2)، حتّى أمام الإخوان. ومن
فوائد عدم إذاعة ذلك: أن لا يقع في العجب والرياء والتكاثر والتفاخر بالحديث عن
أنشطته وأعماله الخاصّة، فتفسد أموره الأخرويّة، ويقع نتيجتها في عذاب الله سبحانه،
كما كان مصير قارون، في قوله تعالى: ﴿إِنَّ قَارُونَ كَانَ مِنْ قَوْمِ مُوسَى
فَبَغَى عَلَيْهِمْ وَآَتَيْنَاهُ مِنَ الْكُنُوزِ مَا إِنَّ مَفَاتِحَهُ لَتَنُوءُ
بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قَالَ لَهُ قَوْمُهُ لَا تَفْرَحْ إِنَّ
اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ... فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ﴾، ثمّ
أتت نتيجة ذلك التباهي والاغترار: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ
وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ
اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ الْمُنْتَصِرِينَ﴾ (القصص: 76-83).
ب- الفقر: روي عنه صلى الله عليه وآله وسلم: "من تفاقر افتقر"(3). يُستحبّ
إخفاء الفقر، ومن كشف فقره وهو يرجو غير الله ويطلب العون منه، يوكله الله إلى
غيره. في حين أنّ إخفاءه من كنوز الجنّة، كما في الحديث عن النبيّ صلى الله عليه
وآله وسلم: "أربع من كنوز الجنّة: كتمان الفاقة، وكتمان الصدقة وكتمان المصيبة،
وكتمان الوجع"(4).
ج- المصيبة والصدقة(5): ورد عن الإمام الباقر عليه السلام: "ألا أخبركم بخمس
خصال هي من البرّ، والبرّ يدعو إلى الجنّة؟ (...) إخفاء المصيبة وكتمانها، والصدقة
تعطيها بيمينك، لا تعلم بها شمالك، وبرّ الوالدين، فإنّ برّهما لله رضى، والإكثار
من قول: لا حول ولا قوة إلّا بالله العليّ العظيم، فإنّه من كنوز الجنّة، والحبّ
لمحمّد وآل محمّد .(6) صلى الله عليه وآله وسلم
د- المرض: عن الإمام الصادق عليه السلام: "من كتم وجعاً أصابه ثلاثة أيام من الناس
وشكا إلى الله عزّ وجلّ كان حقّاً على الله أن يعافيه منه"(7).
* القسم الثاني: الأسرار بين العبد والله
هي الأمور التي تكون من العلاقة بين العبد وربّه سبحانه من معارف أو حالات روحيّة
أو عبادات. من هذه الأسرار:
أ- المعارف الإلهيّة: قد يختصّ الله عبده بمعارف إلهيّة قد تكون أعلى من
مستوى عوامّ الناس، وتحتاج إلى مقدّمات وزمن ومستويات وشروط وقابليّات لا تتوفّر في
المتلقّي، وقد يريد الله سبحانه إخفاء هذا العلم عن غير أهله؛ وقد يعطي الله عبده
من علمه ثم يُنسيه إيّاه ليبقى سرّاً لا يبوح به، كما في حديث عن الإمام الباقر
عليه السلام: "السرّ ما أخفيته في نفسك، وأخفى ما خطر ببالك ثمّ نسيته"(8). فُسِّرَ
السرّ بأنّه ما أخفاه الإنسان في نفسه، أو أخفاه الله بإنسائه إيّاه لمصلحة وهو
الأخفى، وقد فسّروه بالسرّ الإلهيّ والعلم الإلهيّ(9).
وفي الكافي رواية أنّ رجلاً من أهل البصرة جاء إلى أبي جعفر عليه السلام، يقول: إنّ
الحسن البصريّ يزعم أنّ الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار، فقال أبو
جعفر عليه السلام: "فهلك إذن مؤمن آل فرعون، ما زال العلم مكتوماً منذ بعث اللَّه
تعالى نوحاً؛ فليذهب الحسن يميناً وشمالاً، فواللَّه ما يوجد العلم إلّا
هاهنا!"(10).
ب- الحالات المعنويّة: هي أحوال الإنسان الروحيّة والمعنويّة الخاصّة في
العلاقة مع الله، كالحبّ لله والأُنس بالله سبحانه والخشوع والبكاء من خوف الله أو
الشوق إليه ونحوها وفي عرضها على الناس كشف لها والتفات إلى الناس وطلب المنزلة
عندهم. ففي الدعاء في المناجاة الشعبانيّة: "إلهي! هَب لي كمال الانقطاع إليك،
وأنِر أبصار قلوبنا بضياء نظرها إليك، حتّى تخرق أبصار القلوب حجب النور، فتصل إلى
معدن العظمة، وتصير أرواحنا معلّقة بعزّ قدسك..."(11). فالانقطاع إلى الله عن
الناس، وإخفاء هذه الأسرار عنهم، ينيران القلوب ويرفعان الإنسان إلى معدن العظمة.
وفي الكشف عن هذه الأسرار آفات أقلّها العُجب، وأخطرها الرياء الذي هو شرك بالله
العظيم، وقد تؤدّي إلى النفاق؛ لأنّ من ينظر إلى الناس يغفل عن الله تعالى، فإنْ
أظهر ما ليس فيه، كان من النفاق، ونتيجة ذلك الطرد من محرم الأسرار ومحلّ الأُنس،
وبدلاً من أن تكون العبادة مقرّبة إلى الله، تكون محرّمة ومبعدة عنه، بل قاطعة
للصلة بين العبد وربّه.
ج- العبادات: كلّ عمل مستحبّ أو عبادة وفقّه الله تعالى إليها كقيام الليل
أو ذكر أو صيام، فيستحب إخفاؤه عن الناس وإبقاؤه سرّاً بينه وبين الله؛ كي لا يقع
في آفات النفس من عجب أو رياء؛ فيبطل ويكون ناراً بدلاً من أن يكون نوراً. بعكس
الواجبات فيستحب إظهارها والإعلان بها. عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "دعوة
في السرّ تعدل سبعين دعوة في العلانية"(12)، وعن الإمام أبي عبد الله الصادق عليه
السلام: "من ذكر الله في السرّ فقد ذكر الله كثيراً، إنّ المنافقين يذكرون الله
علانية، ولا يذكرونه في السرّ، قال الله تعالى:
﴿يُرَآؤُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللّهَ إِلاَّ قَلِيلاً﴾(النساء: 142)"(13).
(1) الكافي، الكليني، ج5، ص63.
(2) الدروس الشرعية في فقه الإمامية - الشهيد الأول، ج3، ص186.
(3) (م.ن)، ص119.
(4) الدعوات (سلوة الحزين)، قطب الدين الراوندي، ص164.
(5) (م. ن)، ص167.
(6) المحاسن، البرقي، ج1، ص9.
(7) بحار الأنوار، المجلسي، ج78، ص203.
(8) الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، ناصر مكارم الشيرازي، ج9، ص529.
(9) (م.ن).
(10) (م.ن).
(11) مفاتيح الجنان، عبّاس القمي، المناجاة الشعبانية، ص259.
(12) (م.ن)، ص18.
(13) الدعوات (سلوة الحزين)، (م.س)، ص 20.