عن الإمام الصادق عليه السلام: "سرُّك من دمك، فلا
يجرينّ من غير أوداجك"(1).
لكلّ شيء باطن وظاهر، سرٌّ وعلانية. وما الظاهر والعلن إلّا مرآة لما يخفى وراءه في
السرّ والباطن، بل قد تكمن حقيقة كلّ شيء في ذلك الباطن والسرّ الخفيّ، الذي لا
يطّلع عليه بتمامه إلّا الله سبحانه، قال تعالى: ﴿وَإِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ
فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى﴾ (طه: 7).
ولأهميّة الأسرار في حياة الإنسان، الفرديّة منها والاجتماعيّة، نسلّط الضوء على
بعض الأبعاد التي تتعلّق بكتمان السرّ وعدمه، وكيفية استغلال الأعداء لهذه الصفة في
حربهم ضدّ المجتمعات الإسلاميّة.
* الإنسان والأسرار
ثمّة أمران أساسيّان ينبغي ملاحظتهما على مستوى الأسرار لدى الإنسان:
- الأول: الفضول في التعرّف على كل شيء خفيّ، وكما قيل قديماً: "كل محجوب
مرغوب". وهذا الأمر في الواقع، يرجع في أصله إلى فضيلة في الإنسان، منشؤها الميل
وحبّ التعرّف على الأشياء واكتشاف المجهولات والبحث عن الحقيقة عنده، لكنّها قد
تُستخدم في مجالٍ حسنٍ ومطلوب، فتكون فضيلة؛ كالسعي للتعلّم، وقد تستخدم في مجال
قبيح ومذموم؛ كالتجسّس على المؤمنين، والبحث عن عيوبهم، فتكون رذيلة.
- الثاني: تفاوت حال الناس في درجة تسلّطهم على أنفسهم في مجال حفظ الأسرار؛
ولذا ورد وصف كتمان السرّ في بعض الروايات أنّه جهاد؛ لما فيه من المشقّة وبذل
الجهد، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "كتمان سرّنا جهاد في سبيل الله"(2).
وهذان الأمران قد يشكّلان نقطة ضعف عند الإنسان إذا غفل عنهما، في شتّى مجالات
حياته؛ إذ إنّ العدو قد ينفذ من خلالهما إلى ساحة الصراع ليستفيد من ذلك. فالعدوّ
يهمّه جمع المعلومات عن الطرف الآخر، واستغلال مسألة الأسرار يلعب دوراً كبيراً على
هذا الصعيد كما هو واضح، فلو كان لدينا إنسان فضولي بطبعه، ويسعى للتعرّف على أكبر
قدر من المعلومات، وهو لا يقدر على كتمان السرّ، فسوف يكون هدفاً للعدو في جمع
المعلومات، وسوف يقدّم الخدمات المجانيّة، التي تشكّل خطراً كبيراً على المجتمع
الإسلاميّ وأفراده.
ويزيد الأمر خطورة في أيّامنا هذه، أنّ سهولة انتقال المعلومات عبر وسائل التواصل
الاجتماعي، تجعل معظم الناس في حالة مكشوفة أمام الآخرين.
* أهميّة حفظ الأسرار وخطورته
ورد في الروايات التأكيد البالغ على حفظ السرّ وكتمانه، وآثار ذلك على الفرد
والمجتمع:
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: "صدر العاقل صندوق سرّه"(3).
وعن الإمام الصادق عليه السلام: "صدرك أوسع لسرك"(4).
وعن محمد بن عجلان أنّه قال: سمعت أبا عبد الله عليه السلام يقول: "إنّ الله عزّ
وجل عيّر أقواماً بالإذاعة في قوله عز وجل:
﴿وَإِذَا جَاءهُمْ أَمْرٌ مِّنَ الأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُواْ بِهِ﴾ (النساء:
83)، فإياكم والإذاعة"(5).
وتؤكّد الروايات على أن الكلمة في ظروف معينة قد تعرّض حياة الآخرين للخطر، وتساهم
في سفك دمائهم، فيكون الشخص المتكلّم شريكاً في دمهم؛ فعن الإمام أبي عبد الله عليه
السلام أنّه قال: "ما قَتَلنا من أذاع حديثنا قتل خطأ، ولكن قَتَلنا قتل عمد"(6).
وعن محمد بن مسلم أنّه قال: سمعتُ أبا جعفر عليه السلام يقول: "يحشر العبد يوم
القيامة وما ندى دماً(7)، فيدفع إليه شبه المحجمة(8) أو فوق ذلك فيُقال له: هذا
سهمُك من دم فلان، فيقول: يا ربِّ إنّك لتعلم أنّك قبضتني وما سفكتُ دماً؟
فيقول: بلى، سمعتَ من فلان رواية كذا وكذا، فرويتَها عليه، فَنُقِلت حتّى صارت
إلى فلان الجبّار فقتَله عليها، وهذا سهمُك من دمه"(9).
وعن أبي بصير، عن الإمام أبي عبد الله عليه السلام في قول الله عزّ وجلّ:
﴿وَيَقْتُلُونَ الأَنبِيَاء بِغَيْرِ حَقٍّ﴾ (آل
عمران: 112)، فقال: "أَمَا والله ما قتلوهم بأسيافهم، ولكن أذاعوا سرهم،
وأفشَوا عليهم، فقُتلوا"(10).
* نصيحة عميل
يقول أحد العملاء في فلسطين المحتّلة: "لقد كنتُ بجهد قليلٍ أعرف كلّ المعلومات؛
لأنّ العناصر كانوا يتبرّعون بالحديث عن القصص التي تحدث معهم، في السهرات التي كنت
أنظِّمها في بيتي، وكنت أدعوهم إلى منزلي، وأعرض عليهم خدماتي، وكان ينام بعض
المطلوبين في ضيافتي أحياناً، وطلب منّي ضابط المخابرات أن أعرض عليهم تزويدهم
بأجهزة كمبيوتر كمساهمة منّي إليهم، ووافقوا ولكن قبل أن أتسلّم الأجهزة من الضابط
أبلغوني رفضهم هديتي، وقد استطعت الوصول إلى كثير من قادة المقاومة الشعبيّة".
ويستطرد في القول: "أنصح عناصر المقاومة وقادة الشعب الفلسطيني في الفصائل كافّة،
بعدم التسرّع في إعطاء ما لديهم من معلومات لأيٍّ كان، وعدم التفاخر بكثير من
القضايا التي يعرفونها، فالمخابرات الإسرائيليّة تأخذ كلّ صغير(ة) أو كبير(ة) من
معلومات تفيدها في ضرب أبناء شعبنا، الذي يتبرّع أحياناً بالبوح بكلّ ما لديه من
أسرار لأيٍّ كان"(11).
الخلاصة: إنّ المعلومات التي لديك، أمانة بين يديك، فلتكن بمثابة الدم الذي يجري
في عروقك، فلا تبُح بها إلّا في موضع تكون على يقين من أنّها تعود بالنفع عليك وعلى
أمّتك وإخوانك، وليكُن "سرُّك من دمك".
1- بحار الأنوار، المجلسي،ج 72، ص 71.
2- (م، ن)، ص 70.
3- (م، ن)، ص 71.
4- (م، ن).
5- (م، ن)، ص 84.
6- (م، ن)، ص 85.
7-أي لا يزال الدم بين يديه نديّاً لم يجف.
8- أي قارورة الدم.
9- بحار الأنوار (م، س)، ص 85- 86.
10- الكافي، الكليني، ج 2، ص 371.
11- كتاب: العملاء في ظلّ الاحتلال الإسرائيلي، مدوّنة الدكتور خضر عباس، (drabbass.wordpress.com)،
عن جريدة القدس، 2003م.