إلى كل القلوب | مقاومتنا روحها حسينيّة (2)* تسابيح جراح| "مستعدّون بجراحنا" الشهيد على طريق القدس محمّد محمود إرسلان وسائل التواصل: معركة الوعي في زمن التضليل مقابلة | حين يرتقي القائد لا تنتهي المقاومة بل تستمرّ بدمه تكنولوجيا | كيف نمنع هواتفنا من التنصّت علينا؟ (1) الملف | أبناء السيّد متكاتفون عوائل الشهداء: أبناؤنا في سبيل الله الملف | أولو البأس في الميدان الملف | الكلمة للميدان

تقرير | يومٌ في جوار الشهداء

تحقيق: ولاء حمّود

لن أنسى ما حييت دِفْءَ يد أمّي، تُخَبِّئُ كفّي الصغيرة في يدها، وتحمل في اليد الأخرى علبة "معمول"، وباقة ريحان، تضعها على ضريح والدي. رسالتان من حبّ وشوق، تتكرّران في كلّ عام مرّتين، في عيدَيْ الفطر والأضحى. وبعد أعوام، ازدادت باقات الريحان في كَفَّيْ أمّي، وتضاعفت علب الحلوى فوق كَفَّيْ، فقد صارت أمّي، أمّاً لشهيدين من شهداء زمن الطلقة الأولى في خلدة، وصرتُ شابّة أسند حزنها.

* أصبحتُ أحد سكّانها
ضاقت روضة الشهيدَيْن بسكّانها، ونشأت قربها لضرورات المكان، بعد اشتعال جبهة الدفاع عن المقدّسات في الميدان السوريّ، روضة الحوراء عليها السلام، لشهداء ذلك الميدان. تأسّست هذه الروضة عام 2013م حيث أُنشيء أوّل ضريح في روضة الحوراء عليها السلام وكان للشهيد محمّد علي المصري.

مع تعاقب الأيّام والليالي، وبعد جهاد سنوات خمسة قضاها وليد قلبي في الجبهة، أصبحتُ أمّاً لأحد سكّانها الشهداء، وبدأت أزورها بعد ليلته الأولى فيها كلّ يوم صباحاً بعد صلاة الفجر، أجالس شهيدي، أبّثه أشواقي، أتلو له القرآن، وتخلّل هذه الزيارات تبادل الأحاديث مع أمّهات الشهداء اللواتي كنّ يحضرن هناك.

تحدّثنا عن جهاد شهدائنا، وبطولاتهم، وكراماتهم عند الله. صرنا نشعر جميعنا بالراحة لتبادل أحاديث الشهادة وعظمتها، ولاحظتُ أنّ زوّار الروضة كثرٌ، وهم ليسوا جميعاً من عوائل الشهداء، فتذكّرت أن شهيدي كان دائماً يخبرني أنّه ذاهب إلى الروضة لقراءة الأدعية المختصّة بليالٍ معيّنة عن أرواح شهدائها الذين لهم في أعناقنا دَيْنٌ كبير.

* روضة الحوراء تعبق بعطر الشهداء
عندما يدخل زائر الروضة اليوم سيرى التراب الغضّ الذي لا يزال يستقبل الجثامين المباركة للشهداء على طريق القدس، الكثير من العطر والبخور الذي لا يشبه شيئاً ألفناه في الدنيا، أصوات التسابيح مجتمعة كأنّها ترانيم سماوية. يتوسّط الروضة صور القادة الشهداء الذين ما عرفناهم حتى سكنوا الروضة، من السيّد محسن شكر، إلى الحاج عبد القادر، والشيخ نبيل قاووق... الذين اجتمعوا في ضريح واحد كما اجتمعوا في الدنيا لتحقيق هدف واحد في زمن واحد.

* سرّ العلاقة مع الشهداء
أقام الإخوة في روضة الحوراء مشروع سهرة مع الشهداء، يستمع فيه روّاد الروضة وعوائل شهدائها إلى قصص ساكنيها الأبديّين وكراماتهم. عملوا بجهدٍ على جمعها من العوائل والرفاق الذين ما زالوا ينتظرون. من هنا، بدأت فكرة هذا التحقيق، الذي طرح بضعة أسئلة عن أسرار العلاقة مع الشهداء في الروضة والفوائد الروحيّة منها، على مجموعة من الشبان والشابات، منهم ابنة شهيد، مضافاً إلى أمّ شهيد.

-عونٌ غيبيّ ونفسيّ: أكّدت ن.ر أنّها تتردّد دائماً الى روضة الحوراء عليها السلام، لتطلب من شهدائها العون في أمورها الحياتيّة الصعبة، كاليوم الأوّل والأخير من الامتحانات. مدرستها قريبة من الروضة، وزيارة الشهداء تُشعرها بتجاوب روحيّ عميق يمنحها الصبر والرضى، وختمت بقولها: "لا أتخيّل الحياة دون روضة قريبة من مدرستي، أزورها كلّما احتجت، فهي عونٌ غيبيّ نفسيّ في حياتي. في البيت وفوق سجادة الصلاة، أتوسّل بآل البيت عليهم السلام ، وأستحضر إيثار بشهدائنا الذين كانوا بأخلاقهم واستقامتهم وولائهم سبيلنا إليهم".

-"أنا لست يتيمة": ترى ح.ع.م. أنّ زيارة الشهداء مصدر فخر لها، وأنّ تلاوة القرآن لهم من أجمل الأمور بالنسبة إليها لأنّها تُشعرها أنّها في جوارهم، "فهم جنود الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف العائدون معه بإذن الله، الذين يجب ذكرهم دائماً في كلّ تفاصيل حياتنا". تبدأ زيارتها للشهداء في روضة الشهيدين، ومنها تنطلق إلى روضة الحوراء عليها السلام، استكمالاً لإيفاء الشهداء بعض ديونهم. عن ذلك تقول: "أنا ابنة شهيد منذ خمسة عشر عاماً، أي قبل أن أولد، ومع ذلك، لا أشعر أنّني يتيمة بل أنا ابنة أحد الأحياء الذين هم عند ربّهم يُرْزَقون، لكنّ دمعة المشتاق إلى أبيه جمرة حارقة لا يخفّف لذعها إلّا زيارة ضريحه لأنّه الأمان".

-"كلّ الشهداء أبنائي": ترى والدة الشهيد محمّد علي أسعد الحاج حسين، شهيد معركة القلمون، أنّ روضة الحوراء عليها السلام -حيث يقيم ابنها منذ نحو سبع سنوات-، المكان الوحيد الذي ترتاح فيه كثيراً، فقد كانت تزوره ثلاث مرّات في الأسبوع الواحد، وبسبب تقدّمها في العمر، صارت تكتفي بمرّة في الأسبوع. وروت الحاجة بعينين دامعتين أنّها تعدّ كلّ الشهداء أبناءها، فتزورهم بدءاً من روضة الشهيدين حتّى روضة الحوراء عليها السلام، حيث تحطّ رحالها عند شهيدها.

-"ارتديتُ العباءة بفضل الشهداء": كذلك ترى ريم أنّ روضة الحوراء عليها السلام جنّة الله على الأرض؛ لأنّها تشعر هناك بروحانيّة الشهداء الذين وصلوا إلى الدرجات العالية في التضحية والإيثار. تهرب ريم من ضجيج العالم الخارجيّ إلى الروضة لتعايش مزيجاً من الهدوء والطمأنينة، ولتشحن روحها بالطاقة لمواجهة مصاعب الحياة بقوّة وثبات. تقول إنّها بدأت تزور الروضة من عام 2021م، لتجد نفسها أمام ضريح الشهيد محمّد إبراهيم، فأحسّت بتوجّه مشاعرها بقوّة نحو السيّدة الزهراء عليها السلام، لتكتشف بعد مدّة أنّ الشهيد كان متعلّقاً بها كثيراً.

ريم ارتدت العباءة بفضل الشهيد محمّد إبراهيم، الذي تختم كلّ زيارة للروضة في الجلوس قرب ضريحه الذي رأته في منامها قبل معرفته، ومنذ تلك الرؤيا، تهبه كلّ ما تقرأه من كتاب الله عرفاناً وامتناناً. ختمت ريم حديثها: "إنّ ساكني هذه الروضات جاهدوا كثيراً ليشرحوا لنا كيفيّة الاتّصال بالله سبحانه من خلال سيرِهم وقصصهم في جهادهم".

-صفاء ذهنيّ: التقيتُ أيضاً بالشابّ ح. ن. بعد إنهائه امتحان دخول إلى صفّ البكالوريا القسم الثاني، الذي يزور الشهداء كلّهم، ولكنّه يطيل الجلوس عند ضريح والد صديقه الشهيد عفيف حمادة، والشهيد حسين كمال حمّود الذي كان يأخذه في طفولته في نزهة، ويعيده سعيداً إلى منزله الذي كان مجاوراً لمنزل أهل الشهيد. يسترجع الشابّ ذكرياته مع هذا الشهيد وأحاديثه المؤنسة عن الجهاد العلميّ والعسكريّ معاً لتستقيم الحياة عزيزة لأبنائها. وفي جواره يستعيد ن.ح. صفاءه الذهنيّ الذي يساعده في مراجعة دروسه قبل دخوله قاعة الامتحان القريبة من الروضة، بعد أن يكون قد وهب الشهيد ثواب تلاوة سورة كاملة من كتاب الله.

يرى (ح. ن.) أنّ الروضة مكان اجتماعيّ بامتياز، يلتقي فيه بأهالي الشهداء، فيصغي إلي قصص البطولة والجهاد، ممّا يعطي الروضة خاصيّة روحيّة لا تتوفّر في مكان آخر. وقد دعا في ختام حديثه إلى إنشاء روضة للشهداء في كلّ حي وبلدة، وخاصّة لشهداء "على طريق القدس"، كي يلتقي بعدد أكبر من عوائل الشهداء الذين يملكون الكثير ممّا يجب روايته لتستمرّ روحانيّة هذه الأمكنة.

* التوسّل بآل البيت عبر الشهداء
مع الأستاذ علاء قبيسي وصلنا إلى ختام التحقيق، وقد أكّد حرصه على زيارة روضة الحوراء عليها السلام بشكلٍ دائم، حامداً الله سبحانه لمنحه هذه الفرصة باعتبارها مساحة يعود إليها الناس لقضاء الحاجات المعنويّة والروحيّة والماديّة عبر الدعاء والتوسّل بآل البيت عليهم السلام ، الذين يتّصل بهم الشهداء بفضل ما بذلوه من دماء. يرى قبيسي أنّ السهر في جوار أضرحة الشهداء مع ذويهم ورفاقهم والإصغاء إلى قصصهم فرصة روحيّة ومعنويّة لا مثيل لها. وقد حدّثنا عن قصّة صديق له واجهت زوجته ولادة متعسّرة، فخاف عليها وعلى مولودهما، فأمضى ليلته حينها في جوار ضريح الشهيد محمّد إبراهيم، وهو يدعو الله عبر التوسّل بمحمّد وآل محمّد أن يُفَرِّج كربته، ولم يغادر الروضة وضريح الشهيد إلّا بعد أن وافته بشرى خلاص زوجته وولادة مولودهما بخير وسلامة.

وهكذا، باتت رياض الشهداء سبباً لارتماء القلوب على عتباتها، وموضع أنس الصغار والكبار، الذين ينشدون الأمن والسكينة بين ملامح صور الشهداء الجميلة، حتّى باتت هذه الأضرحة مدارس صامتة تلقّن فتياننا وفتياتنا فنّ الصبر والثبات حتّى تحقيق النصر.
 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع