إلى كل القلوب | مقاومتنا روحها حسينيّة (2)* تسابيح جراح| "مستعدّون بجراحنا" الشهيد على طريق القدس محمّد محمود إرسلان وسائل التواصل: معركة الوعي في زمن التضليل مقابلة | حين يرتقي القائد لا تنتهي المقاومة بل تستمرّ بدمه تكنولوجيا | كيف نمنع هواتفنا من التنصّت علينا؟ (1) الملف | أبناء السيّد متكاتفون عوائل الشهداء: أبناؤنا في سبيل الله الملف | أولو البأس في الميدان الملف | الكلمة للميدان

مقابلة | حين يرتقي القائد لا تنتهي المقاومة بل تستمرّ بدمه

مقابلة مع زينب حسن نصر الله
حوار: نور رضا


"آخر لقاء بسماحة السيّد كان قبل نحو سنة وشهرين من شهادته. لم نكن نستطيع زيارته أو رؤيته كلّما أردنا ذلك بسبب كثرة انشغالاته وظروفه الأمنيّة. حتّى أنّ الأمر ازداد صعوبةً بعد انطلاق معركة طوفان الأقصى، التي أخذت منه كلّ وقته واهتمامه؛ فلم نره من حينها!"، تقول زينب ابنة سماحة السيّد الشهيد حسن نصر الله (رضوان الله عليه).

ماذا تخلّل تلك اللقاءات؟ وما كان فحواها؟ وماذا تكشف عن بعض خفايا سماحته؟ هو ما سنطلعكم عليه قرّاءنا الأعزّاء، من خلال حوار أجـــرته مجــلّة "بقية الله" معها.

* أجواء عائليّة عابقة بالشوق
في لقاءاتنا مع سماحته، كنّا نخوض في العديد من الأحاديث والحوارات. أمّا في آخر لقاء، فلم نتطرّق إلى موضوعٍ معيّن، لأنّ اجتماعاتنا عادةً ما تكون عائليّة تضمّ كلّ أفراد العائلة من أولاد وأحفاد. ولأنّ الوالد كان يهتمّ بأدقّ تفاصيل حياتنا، فغالباً ما كان يطغى على زياراتنا تلك أسئلته عن أحوال كلّ فردٍ على حِدة، بالإضافة إلى بعض الحوارات الدينيّة، وأهمّها ما يتعلّق بمناسبة أربعينيّة الإمام الحسين عليه السلام، إذ كنّا ننقل له أجواء الزيارات إلى العتبات المقدّسة. هذا وكنّا نتوق لسماع مواقفه السياسيّة التي كانت تأخذ حيّزاً من لقاءاتنا، فكان يروي ظمأنا لمعرفة ما يحصل من حولنا.

كنّا نتناوب على الجلوس بقربه، صغاراً وكباراً، لشدّة شوقنا إليه وحبّنا له. وكنّا نحرص على راحته، فنطلب من أطفالنا عدم إصدار أيّ صوت حتّى لا نزعجه، ولكنّه كان يرفض ذلك، ويرى أنّ من حقّ الأطفال اللعب والتصرّف براحتهم، وهو الذي كان يلاطفهم ويلاعبهم ويفرح بوجودهم. أجواء الأنس والودّ تلك كانت تعطينا زخماً وحماساً لانتظار موعد اللقاء القادم.

* الأب المثال والقدوة
لقد كان سماحة السيّد مثال الأب الحنون، إذ كان يتمتّع بأسمى الصفات والأخلاق التي يتمنّى أيّ شخص توافرها في والده. نشأنا على حبّه منذ طفولتنا، وكنّا نكنّ له الودّ والاحترام بسبب تعامله المميّز معنا. نشأت بيننا علاقة تغنيه عن توجيهنا، ولم يكن بحاجة لنَهينا عن أيّ عملٍ؛ فنظرة واحدة منه تكفي لنفهم ما يريد، فندرك ما يزعجه ونتجنّب القيام به. ازداد هذا الارتباط بعد أن أصبح أميناً عامّاً، بحيث تضاعفت مسؤوليّاته أكثر، فاشتدّ حبّنا له بسبب عشق الناس له.

* قائدٌ إلهيّ
تمتّع سماحة السيّد بالكثير من الخصال، نذكر أهمّها:

1. تحصيل رضى الله: من ميزات شخصيّة سماحة السيد أنّه لم يهتمّ يوماً بتحصيل شعبيّةٍ ما أو السعي وراء مضاعفة عدد محبّيه، إنّما كان يعمل وفق التكليف والمصلحة لنيل رضى الله أوّلاً وأخيراً.

2. الحكمة والبصيرة: إنّ حكمته في تشخيص المواقف كانت السبيل لعدم تردّده في اتّخاذ القرارات في خطاباته المتلفزة مهما كانت المواقف صعبة، نذكر منها طلبه من جمهور المقاومة التحلّي بالصبر وعدم الشعور بالضيق عند توجيه شركاء الوطن الشتائم لسماحته.

3. الاهتمام بمشاعر الناس: كان سماحة السيّد شديد الحرص على مشاعر الناس، فيستشعر ظروفهم الحياتيّة والمعيشيّة واقعاً، ويسعى لمساعدتهم اقتصاديّاً واجتماعيّاً. ولشدّة حرصه على مشاعرهم، كان يطلب منّا إظهار التواضع والزهد في معيشتنا، كما طلب منّا عدم شواء اللحوم في المنزل مخافة أن تصل رائحتها أنف مسكين أو فقير محروم من تناولها.

4. الإحساس المرهف: عُرف سماحته بإحساسه المرهف تجاه المجاهدين والناس، وبوفائه الشديد لأحبّائه، فكلّما ذُكر سماحة الشهيد السيّد عباس الموسويّ (رضوان الله عليه) تأثّر كثيراً، وهذا ما بدا عليه في مقابلة أجراها عن السيّد الشهيد، بحيث رسمت ملامحه فيض الحنوّ المكتنز في فؤاده.

أمّا محبّته الجمّة للمجاهدين وللجرحى، فلطالما تكشّفت في دموعه رأفةً لحالهم، خاصّةً عند رؤيتهم عبر الشاشة، وتكرّر الأمر مؤخّراً مع جرحى "البايجرز" والأجهزة اللاسلكيّة، إذ فاضت عيناه بالعبرات تأثّراً لحالهم.

وكان سماحته أيضاً كثير التأثّر بمواقف عوائل المجاهدين والشهداء. فعندما كنت أنقل له عبر الهاتف رسائل هؤلاء التي تعبّر عن حبّه له والرضى بالتضحية بأولادهم في سبيله، كنت ألمس من صوته التأثّر والغصّة والحزن حبّاً لهم وتقديراً لمواقفهم.

* هموم سماحة السيّد
أكبر هموم سماحة السيّد هو الحفاظ على هذه الأمّة من النواحي كافّة: الماليّة والأخلاقيّة والجهاديّة. على المستوى الدينيّ، كانت كلماته واضحة، وعلى المستوى الأخلاقيّ، كانت دروسه قيّمة، وعلى المستوى الجهاديّ، زرع فينا روح الجهاد والمقاومة. لم يترك مجالاً ينفع الإنسان في دينه ودنياه وآخرته إلّا وذكره. خطاباته كنزٌ معنويٌّ؛ فقد عرّفنا ماهيّة هذه الدنيا، وأرشدنا إلى تكليفنا تجاه أنفسنا والأمّة، وعلّمنا كيف ننتصر لكلّ مظلوم ومستضعف، وكيف نقوم بواجبنا الدينيّ والأخلاقيّ والجهاديّ بوجه كلّ طاغٍ وظالم ومحتلّ.

كما كان همّ السيّد في هذه الدنيا أن يملك جواباً، بعد وقوفه بين يدي الله، عن كلّ ما قام به. كلّ هدفه بعد تحصيل رضى الله سبحانه وتعالى وأهل البيت عليهم السلام ، هو كيفيّة قيامه بواجبه تجاه هذه الأمّة.

* أصعب موقف!
عارضت والدتي أن أذهب لرؤية الوالد بعد شهادته حتّى لا يشتد حزني، ولكنّ إصراري على توديعه قبل أن يوارى في الثرى، جعلها تعود عن موقفها حتّى لا أُحرم من رؤية وجهه للمرة الأخيرة.

كم كان صعباً عليَّ رؤيته مسجّى داخل برّاد الموتى! لم أخلني يوماً سأراه بهذه الصورة الملكوتيّة! كنت لأقبل أن أُحرم من رؤيته عمراً كاملاً شرط بقائه حيّاً بيننا؛ فوجوده في هذه الدنيا، وأنفاسه، وصوته، وصورته، وطلّته عبر الشاشة، كلّ ذلك لم يكن ملكنا وحدنا، بل كان لكلّ الأمّة التي كان يبثّ الحياة في أوصالها.

* ألم الفقد
كان الفقد صعباً وما زال. لقد فقدنا الأب والقائد، ذلك الأب الذي حُرمنا أن نعيش معه كأيّ عائلة في ظروفٍ طبيعيّة. فحين نفقد إنساناً عزيزاً نتألّم، وإن لم تربطنا به صلة قرابة، فكيف إن كان المفقود أباً ليس كأيّ أب! فهو قائد أمّة، حمل مسؤوليّة المقاومة وحفظ نهج شيعة أمير المؤمنين عليه السلام، والدفاع عن المقدّسات والمسلمين، مع علمه بخطورة تبعات هذا الأمر على حياته. ولكنّه لم يبالِ، فسار على نهج أهل البيت عليهم السلام ، وقدّم ابنه السيّد هادي شهيداً، ثمّ نفسه، فداء لهذا النهج.

وكذلك فقد جمهور المقاومة قائدهم وحبيبهم الذي ترك أثراً بالغاً في قلوبهم، لدرجة أنّ بعضاً منهم لا يزالون حتّى الآن يرفضون تصديق خبر شهادته، ويتمسّكون بأمل عودته، ولكنّنا نؤكّد لهم أنّ سماحة السيّد قد استشهد فعلاً، ونحن رأينا جثمانه. إنّنا نتفهّم ذلك، وندرك حجم الألم الذي يشعر به هؤلاء؛ فألمهم هو ألمنا.

* علّمنا السيّد
أعظم الدروس التي رسّخها سماحة السيّد فينا هو أن لا نخاف في الله لومة لائم. علّمنا أن يكون كلّ سعينا لله سبحانه، فهذه الدنيا الفانية ليست سوى مجرّد جيفة، ودائماً ما كان يستعين بأحاديث أمير المؤمنين عليه السلام كشاهدٍ ودليل على ذلك. كان يشدّد على أهميّة الالتزام بالتكليف وطاعة الولاية الحقيقيّة لأهل البيت عليهم السلام ، ويخبرنا أنّ الامتثال لإرشادات الوليّ الفقيه ما هي إلّا ترجمة عمليّة صادقة لولائنا المطلق لصاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف في غيبته.

* بيننا طوال الوقت
لم يمكث سماحة السيّد في ملجأٍ تحت الأرض يوماً، منذ حرب تمّوز حتّى يومِ شهادته المباركة. كانَ يعيشُ بينَ الناس دائماً، وسكن الطبقات العليا من المباني، ونام في غرفته، وقاد سيّارته، ورأى الناس دون أن يروه. لم يكن مختبئاً تحت الأرض، وإنّما طبيعة هذه المعركة فرضت أن يحمي نفسه ويرابط في غرفة عمليّاتٍ مُحصّنة تتيح له الإدارة والقيادة بأمان. فالسيّد كان من عشّاق الشهادة، ونالها فعلاً.

* نضحّي كما يضحّون
نحن، كعائلة السيّد، بقينا طيلة الحرب في لبنان، رغم كلّ الدعوات التي وجّهت إلينا من الجمهوريّة الإسلاميّة لمغادرة البلد، وهم مشكورون على مشاعرهم وإحساسهم بالمسؤوليّة تجاهنا، لكنّنا كنّا نشعر بالمسؤوليّة تجاه أهلنا وناسنا؛ فكان علينا أن نضحّي كما يضحّون، ونثبت في أرضنا كما يثبتون. ولو كان سماحة السيّد على قيد الحياة، لما سمح لنا كذلك بمغادرة لبنان، وهذا ما حصل في حرب تمّوز أيضاً.

* المقاومة باقية
بعد شهادة السيّد، أحسّ العدوّ بانتصارٍ كبيرٍ، وظنّ أنّه باغتياله لسماحته قد قضى على حزب الله والمقاومة، ولكنّه في الواقع لا يعلم أنّ هذه المقاومة لا تنتهي ولا ترتبط بشخص، مهما كانت مكانته وقيمته ورمزيّته. وهذا ما ذكره سماحته في تأبين الشهداء القادة: "حين يرتقي الشهيد أو القائد منّا، هذا لا يعني أنّ المقاومة انتهت. وعلى كلّ إنسان أن يحمل نهج هذا القائد وفكره وروحه، وأن يستمرّ في هذا النهج، ويصرّ أكثر على مواجهة هؤلاء الأعداء ومقاتلتهم". لذلك، نلاحظ أنّ المقاومة لم تضعف بعد شهادة السيّد. ورغم كلّ ما تعرّض له شعبنا ومقاومتنا خلال الحرب الأخيرة من آلام وتضحيات، فقد أثبتوا أنّهم أهل لحمل فكر سماحته ونهجه وروحه ودمه، فصبروا وثبتوا وصولاً إلى تحقيق الانتصار.

* نعم، انتصرنا
إنّ مفهومنا للانتصار ينطلق من مبدأ انتصار الدم على السيف، كما حصل في كربلاء؛ فهناك، الجميع استشهد، حتّى الإمام الحسين عليه السلام نفسه. صحيح أنّهم اغتالوا أميننا العام، وقتلوا الكثير من الناس، والضاحية دُمّرت، لكنّهم لم يقتلوا فينا روح الجهاد والإيمان والتمسّك بالمقاومة وبهذه الأرض. إنّ كلّ حبّة تراب ممزوجة بدماء الشهداء، والمحافظة على هذه الدماء تعني أن نحافظ على هذه الأرض. لذلك، نعم، نحنُ انتصرنا عندما منعنا العدوّ من احتلال أرضنا، أو حتّى قرية من قرانا. فهو لم يستطع الصمود أمام ثلّة مقاومين رابطوا وجاهدوا عند الحدود. فالانتصار أن تُفشل أهداف العدوّ وتمنعها من التحقّق. ونحن لا ننكر أنّه ممزوج بالحزن والألم على كلّ هؤلاء الشهداء الذين ارتقوا، والألم الأكبر على سيّد شهداء الأمّة الذي لم يُشيّع بعد؛ ولكنّ الانتصار لا يتحقّق دون أثمان باهظة.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع