تحقيق: سوزان شعيتو فاعور
رفع يده يوماً، وأقسم بالله أن يؤدّي واجبات مهنته كاملةً ويقوم بمتطلباتها بأمانة، يحافظ على آدابها ويراعي أخلاقيّاتها، ويتقيّد بقوانينها، إلّا أنّ هوىً ما غلبه فعبث بالأمانة وعاث فيها فساداً، وذهب قَسَمُه أدراج الرياح. كيف يمكن لكلّ ذي مهنة وصاحب عملٍ ومسؤوليّة أن يُتمّ عمله على أكمل وجه؟ يؤدي الأمانات، يراعي الحقوق ويحفظ الوعود. وإلى مَن يُشتكى منه؟ وما العمل إذا ما سوّلت له نفسه وأخلَّ بعهده ؟!
*قصص.. وخاتمة واحدة
كثيرة هي القصص التي يرويها الناس عن وقوعهم في شَرَك أصحاب مهن ومصالح أو مسؤولين في مواقع لم يفوا بالتزاماتهم معهم. وتكون النتيجة إما تقصيراً في أداء المطلوب أو تهرّباً بعد قبض المستحقات الماليّة أو مماطلة في تسليم المتفق عليه في الموعد المحدّد أو تقديم المُنتج بمستوى نوعية وجودة أقل مما اتُّفق عليه، وإليكم بعض هذه الصُور: يتذكّر السيد رأفت جيداً تفاصيل ما حدث معه، ذات يوم، فهو يعتبره "مقلب العمر" كما يُقال؛ كان ذلك عندما قرّر أن يشتري شقة للسكن في أحد المجمّعات التي أغرى مالكوها الناس بخدمة التقسيط المريح والتسليم السريع، إلّا أن السنتين المنصوص عليهما في العقد، كمدّة قصوى لتسلّم الشقة، مُدِّدتا إلى خمس سنوات من المماطلة والتسويف. وبعد تسلّم السيد رأفت شقّته وجدها غير مكتملة تنقصها إمدادات شبكة المياه والكهرباء، وكانت الحنفيّات واللّمبات مجرّد ديكور خارج عن الخدمة.
أمّا السيّدة مهى فتروي ما حصل مع زوجها عندما اشترى سيارة من أحد المعارض وتبيّن له فيما بعد أن فيها خللاً ميكانيكياً أساسياً. وعندما طالب الزوج أصحاب المعرض باستردادها وإعادة الأموال له رفضوا رفضاً قاطعاً، فوكّل محامياً بارعاً، لكن المحامي المذكور لم يتوانَ عن طلب بدل أتعابه دون أي تقدّم في القضية لأنها شائكة، حسب قوله، "وكان أن خسرنا القضية بعد أن تكبدنا أعباء مالية للمحامي عينه تعادل ما كان يمكن أن نُصلح به خللَ السيارة، أي موضوع القضية"، تختم السيدة مهى.
بالإضافة إلى قصص كثيرة نسمعها عن طبيب أخلَّ بواجباته تجاه المريض الذي دفع الثمن من صحته أو حتى حياته، أو عن تاجر باعَ الفاسد من المواد الغذائية دون رادع يمنعه، أضف إليهما القاضي، والمهندس، والمعلم، والمسؤول، والموظف في الدوائر الخاصة أو الرسمية وغيرهم الكثير.
*القَسَم: التزام بالأمانة
ولكن، كيف يمكن لمن يعمل في مهنة تُلزمه بأداء القسم، أن يتجرّأ على الإخلال بحقوق الناس؟ وأين يأتي دور النقابات في مراجعة أداء من ينتسبون إليها من أصحاب المهن إذا ما قصّروا أو أخطأوا؟ وكيف للمتضرر أن يسترجع حقّه فيما لو كان ضحية الإجحاف والأذية؟
استشرنا المحامي بالاستئناف الأستاذ "زياد بيضون" فبيّن "أن المهن والوظائف التي ينظّمها قانون يَفرض على العاملين أداء القَسَم لحماية مصالح الناس الموضوعَة أمانةً بين أيديهم، هو إعلان عن الالتزام بأداء المهنة بأمانة، وهو أولاً وأخيراً ذو منطلَق أخلاقي إنّما يُلزم الحفاظ على أخلاقيّات المهنة".
ويتابع الأستاذ زياد بيضون قائلاً: "وأما إذا ما ارتكب المؤدّي للقَسَم أيّ خطأ يُخلُّ بعمله فحينها نعود للقانون المنظّم للمهنة لكي يتم من خلاله تحديد مصادر الإخلال بالقسم على أن يُتخذ قرار المحاسبة بما يتعلّق بالفاعل المخلّ نفسه".
*النقابة ودورها
أما بالنسبة إلى النقابات ودورها في المراقبة وحفظ حقوق الناس، فيذكّر الأستاذ زياد بيضون "أن النقابة إنما أُنشئت لتدافع عن حقوق المنضوين تحت لوائها بحيث تسعى للحفاظ على حقوقهم وتحصيلها لهم، ولكنّها من جهة أخرى لها الحق في أن تُلاحق وتُحاسب المخلّ بواجباته منهم، ولا سيما نقابات المهن الحرّة بحيث تشكل قوانينها رادعاً لمن يقصّر في مهنته ويُجحف بحق الناس المتعاملين معه إلى درجة قد تصل إلى القرار بالفصل والحرمان من أداء المهنة".
وهنا يؤكد الأستاذ زياد بيضون أنه "يُفترض بالمتضرر أن يتقدّم بشكوى إلى النقابة التي ينضوي تحتها صاحب المهنة الذي أساء إليه، وإذا تمّ التثبُّت من الخطأ بنوعه وحجمه تُتخذ الإجراءات القانونيّة المناسبة. وإذا كان ما حصل من خلل يندرج تحت عنوان جرم جزائي أو إخلال بأمر مدني فإنّه من حق المتضرّر أن يلاحق المخلّ قانونياً، مع الإشارة إلى أن أغلب النقابات تشترط الحصول على إذن منها بالملاحقة كما هو الحال في مهنة كاتب العدل والطبيب والمهندس والمحامي وغيرهم".
ويؤكد الأستاذ زياد بيضون "أن كل قرار صادر عن النقابة هو قابل للطّعن إذا ما شعر المتضرر أنّ الحكم ليس لمصلحته أو أن فيه إجحافاً بحقّه، عندها قد يلجأ للقضاء لفسخ هذا القرار".
*أخلاقيّات المهندس
ولمقاربة ما سبق ذكره مع أرض الواقع نضرب مثالاً على ذلك مهنة الهندسة المعمارية التي هي واحدة من المهن التي تنظمها وترعى شؤون العاملين فيها نقابة خاصة.
يشير المهندس الأستاذ حسن جواد، وهو نائب رئيس تجمّع المهندسين، إلى أنه "لا إلزام بأداء قَسَم للعامل في هذه المهنة، إلّا أنّ أيّ اتفاق بين المالك والمهندس هو بمثابة عقد تفاهم بين طرفين يعبّر عن التزام أخلاقي قانوني وديني التزاماً بما أمره به الله تعالى من وجوب الإيفاء بالعهود والعقود".
ويحدّد الأستاذ حسن أربع أخلاقيّات أساسيّة لأيّ مهندس يتحمّل مسؤولية تنفيذ مشروع، وهي:
أولاً: اختيار المواد اللّازمة للبناء دون غش وبمواصفات تتلاءم مع المعايير الهندسيّة المطلوبة.
ثانياً: تنفيذ الأعمال ضمن الأعراف والأُطُر والضوابط الهندسيّة الصحيحة، بشكل سليم وبدون أخطاء وعيوب.
ثالثاً: الابتعاد عن السمسرة مع شركات المواد اللازمة لعمله على حساب أصحاب المال، بحيث يستفيد من نِسبة من العمولة التي قد تعرضها عليه الشركات المذكورة شرط أن يشتري البضاعة من عندها، وهذا أمر مرفوض دينيّاً وأخلاقيّاً.
رابعاً: الالتزام بقوانين وإجراءات السلامة العامة في الورشة، أثناء العمل، لحماية العاملين معه وأيضاً بعد تسليم المشروع بحيث يتمّ تأمين عنصر السلامة لصالح صاحب السّكن.
ولكن في المقابل، يتابع المهندس الأستاذ حسن جواد، "يجب على المالك أن يؤمّن سيادة المشروع وأن يلتزم بدفع البدلات الماليّة المطلوبة وفق الاتفاق".
*ديدن النقابات
من ناحية أخرى، وفي إشارة إلى دور نقابة المهندسين في تنظيم الحالة القانونيّة، يبيّن الأستاذ حسن أن "أيّ منشأ له ملف رخصة يُسَلّم للنقابة، وهو يحتوي على الاتفاقية المنصوص عليها بين المالك والمهندس، كما أنّها تتضمن الخرائط والمستندات الملحقة، وفي حال حدوث أي خلاف بين طرفَي العقد، بما خصّ المهنة، يتم الاحتكام إلى النقابة نفسها بحيث يتم تحويل القضية إلى لجنة خاصة، مكلَّفة تقدير الحالة لتُصدِرَ حكمَها فيها، وهذا ديدن معظم النقابات منذ فترة طويلة في لبنان".
وفي إجابة عن سؤال: ما هي الحدود القصوى لمعاقبة المخلّ؟ يجيب الأستاذ حسن بالقول: "إن العقوبة قد تصل إلى حدود شطْب المهندس من النقابة". ويردف قائلاً: "إن القرار يُتّخذ وفقاً لكل حالة وتفصيلاتها، مع مراعاة شكل الخطأ وحجمه ومرّات تكراره من قبل المهندس".
وفي الختام، كلمة حقّ لكل ذي مهنة وعمل ومسؤولية، احرص على أن تحمل بين جنبَيْك ضميراً حيّاً يقظاً يتّقي الله في عباده، وتذكّر أن الناس إنّما قد أحسنوا الظن بك عندما أوكلوا إليك أماناتهم لكي ترعاها وتؤدّي حقّها حق الأداء، فالأجدر بك أن تكون عند حسن ظنّهم بك، مرضاةً لله أولاً، وصوناً للحقوق التي ائتُمنت عليها ثانياً. ولا تلومنَّ إلا نفسك إن أصبحتَ مرمىً لسهام الملاحقة القانونية والاجتماعية والدينية.