مقابلة مع أحد المجاهدين في المقاومة الإسلاميّة
حوار: الشيخ قاسم بيلون
هل يذكر أحدنا ما هي أبرز القضايا التي كانت تشغل العالم قبل «طوفان الأقصى»؟
إنّها قضايا التطبيع وصفقة القرن، والشذوذ وفساد القيم، والحرب الثقافيّة، والمواسم الفنيّة وعواصم السياحة، وقضايا الفساد التي تبرز عند الانتخابات السياسيّة في الدول الكبرى. لكن بعد «طوفان الأقصى»، خمدت شرارتها ليعود إلى الساحة بحضور قويّ مشهدان: القيم الإنسانيّة ومبدأ العدالة العالميّة.
يُعبّر المجاهدون عن هذه العمليّة بأنّها «لطف إلهيّ»، بمعنى أنّها ساقت معها بشكلٍ تلقائيّ مجموعةً من الأهداف والغايات على مبدأ: ﴿وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى﴾ (الأنفال: 17). عن هذه الألطاف نتحدّث في هذا الحوار مع أحد المـجـاهـدين الـذيـن يـرَون أنّ العـمـليّـة كانت طوفاناً من الألطـاف الإلهيّة، فأين تجلّت هذه الألطاف؟
بعد عام على بدء عمليّة «طوفان الأقصى» التي فتحت باباً من الجهاد في لبنان تحت عنوان «جبهة الإسناد»، ماذا أضافت هذه المعركة إلى المقاومة الإسلاميّة في بلادنا؟
لا يمكننا أن نعالج مرحلة «طوفان الأقصى» بمعزل عن الأحداث التي حصلت في الماضي، فهي سياق متّصل بتاريخ مستمرّ من الألطاف الإلهيّة لتحقيق مشيئة الله على الأرض، أو الخطّة الإلهيّة، إن صحّ التعبير، عندها ندرك ماذا أضافت وأهميّة ما أضافته ودوره في تنامي قدرات المقاومة وماذا يُراد منها؛ لأنّ هذه المقاومة تؤمن أنّها تمهّد لدولة الحقّ، وهي دولة صاحب الزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف.
عام 1982م، اجتاحنا عدوّ يملك من التفوّق في العتاد والخبرة ما يجعله يصنّف من أقوى الجيوش في المنطقة، ونحن لم نكن حينها نملك العتاد الكافي ولا الخبرة المطلوبة، إنّما كانت قوّتنا تكمن في الإيمان بالله وبالقضيّة وبضرورة مواجهة المحتلّ بالوسائل والقدرات المتوفّرة. وخلال مراحل عدّة في مواجهة العدوّ مباشرةً، كما في حرب تمّوز 2006م، أو عبر البديل عنه، كما حصل في سوريا مع دخول داعش على خطّ الصراع، تعلّمنا ما نحتاج إليه لنعزّز من قدراتنا على أكثر من صعيد ونراكم الخبرات للاستفادة منها في ما يأتي من استحقاقات، وهذا يقرّبنا من أن نصبح لائقين بحمل مهمّة التمهيد لدولة صاحب الزمان (أرواحنا فداه).
بهذه الرؤية، نعتقد أنّ عمليّة طوفان الأقصى نعمة إلهيّة تستبطن ألطافاً تقودنا نحو اكتساب خبرات جديدة وتحدّيات من مستوى مختلف. وهذا كلّه ما كان ليتحقّق لولا الاضطرار، أو ما يمكننا التعبير عنه بـ«التعلّم بالقهر».
أيّ لطف حمله الطوفان فجر 7 تشرين الأوّل/ أكتوبر في ردع العدوّ الإسرائيليّ؟
لو لم يقم المقاومون في غزّة بهذه العمليّة الاستباقيّة، لفاجأنا العدوّ وإيّاهم بعمليّة نوعيّة كبيرة، وهذا ما كشفت عنه وأكّدته التقارير الصادرة عن جبهة العدوّ نفسه في وقت لاحق. فكان اللطف الإلهيّ بوجود عامل اليقظة الإضافيّ عند جبهة المقاومة في غزة ولبنان.
ثمّة لطف إلهيّ آخر مرتبط ببناء القدرات، كما في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ﴾ (الأنفال: 60)؛ والشاهد في كلمة «تستطيعون»، فإنّ ما تستطيعه في ظرف هادئ قد يكون في حدود 50% من إمكاناتك الحقيقيّة التي لن يخرج مخزونها «الكامن» إلّا عند مواجهة خطر وجوديّ. «طوفان الأقصى» كان أحد هذه التحديّات الوجوديّة التي أخرجت القدرات الكامنة لدى المقاومين ليرهبوا عدوّ الله.
لطالما حرص الكيان الصهيونيّ على إبراز صورة «الجيش الحضاريّ». ماذا بقي من هذه الصورة بعد الطوفان؟
في الأيّام الأولى للحرب، حاول العدوّ أن يقلب الصورة ويقدّم نفسه على أنّه الضحيّة من خلال تزييف الأخبار والتقارير وفبركتها، وساعدته في ذلك الوكالات الإعلاميّة العالميّة، ولكن سرعان ما بدأت تتكشّف الحقائق، وهذا ما يمكن أن نعدّه لطفاً إلهيّاً إضافيّاً؛ أي أنّ «طوفان الأقصى» أظهر الكيان في صورته الحقيقيّة المتوحّشة، خاصّة أمام الشعوب الغربيّة؛ إذ أدَّت وسائل التواصل الاجتماعيّ دوراً أساسيّاً في الكشف عن استخدام هذا الكيان للقوّة المفرطة في وجه المدنيّين العزّل، ومدى تعطّشه للدماء، وحجم ارتكابه للمجازر، واستهدافه المنشآت المدنيّة من مجمّعات سكنيّة ومستشفيات ومدارس ومراكز نزوح تابعة للمنظمات الدوليّة. نتيجةً لذلك، انتفضت الشعوب في مختلف دول العالم نصرةً لغزّة، بعدما أدركت أنّ القوانين الدوليّة كذبة كبيرة لا تطبّق ضدّ قوى الشرّ. وقد كشفت هذه المعركة زيف العدوّ وأكاذيبه؛ ففي الوقت الذي يتبجّح بـ«عداء الساميّة»، نراه يرتكب إبادة جماعيّة بحقّ أهل غزّة!
إنّ هذه الممارسات اللاإنسانيّة التي يمارسها العدوّ بيده، لا تفضحه فحسب، وإنّما تساهم في خرابه، وإن شاء الله في زواله، مصداقاً لقوله تعالى: ﴿يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الحشر: 3).
بمَ تختلف هذه الحرب عن الحروب السابقة؟
لطالما تحدّث العدوّ عن حرب متعدّدة الساحات والمجالات والأبعاد: بحر، جوّ، برّ، «سايبر»، وعي... وها نحن في هذه المعركة نشهد نوعاً جديداً من الحروب هو «الحرب الذكيّة»، التي يعدّ الذكاء الصناعيّ عنصراً أساسيّاً فيها، وهو عامل تفوّق ومؤشّر إخفاق للعدوّ في آنٍ معاً.
إنّه عامل تفوّق لأنّ العدوّ سُخّرت له كلّ التجارب التقنيّة العالميّة لتطوير قدراته في مجال الذكاء الصناعيّ، لدرجة أنّ قادته يصرّحون أنّ جنودهم وضبّاطهم لم يستوعبوا في المرحلة الأولى الكمّ الهائل من التقنيّات والمهارات التي قُدّمت إليهم.
أمّا مؤشّر الإخفاق، وهنا الأهميّة، فظهر عندما لجأ العدوّ إلى التكنولوجيا من أجل ملء فجوة الجنديّ الضعيف الذي لا يقوى على المواجهة المباشرة. إذاً، فرص العدوّ في حسم معركة بريّة حقيقيّة ضعيفة جدّاً، لذلك، كان الحلّ في اللجوء إلى الذكاء الصناعيّ كبديل سيثبت أيضاً عدم جدواه مع جبهة مقاومة حقيقيّة.
في مقابل هذا الإخفاق للعدوّ، ستحوّل المقاومة هذا التهديد إلى فرص عظيمة في المستقبل إن شاء الله، وستعرف كيف توظف كلّ هذه التقنيات وتستثمرها مستقبلاً وبشكلً جدّيٍّ وفعّال، وهذا أحد الألطاف أيضاً.
ما الدور الذي أدَّاه «طوفان الأقصى» في إعادة القيم الإنسانيّة والمشتركات الدينيّة إلى الساحة؟
من ألطاف هذه الحرب أنّها قلبت المعادلات، فأعقب «طوفان الأقصى» طوفانٌ من المتغيّرات، وأهمّها:
1. سقوط مشاريع الفتنة: نجحت عمليّة طوفان الأقصى وما حصل على أثرها من فتح لجبهات الإسناد في لبنان والعراق واليمن، إضافةً إلى الردّ الإيراني المزلزل في 14 نيسان، في إسقاط المشاريع التي أُنفقت عليها مئات ملايين الدولارات، منها مشروع الصراع السنّيّ- الشيعيّ.
2. إعادة فلسطين إلى موقعها في قلب العالم الإسلامي كقضية مركزية: حيث فشلت كلّ المخطّطات والمشاريع التي كانت تستهدف حرف القضيّة الفلسطينيّة عن اهتمامات الأمّة، طيلة ســـنوات، حتّى أصـبحـت فلسطين هي القضيّة الأولى الحاضرة عالميّاً.
3. تعـزيـز قيــمـة الشـهادة: عزّز «طوفان الأقصى» حضور قيمة الشهادة أمام العالم، وأثبت أنّها عامل في التغيير وبناء الوعي والروحيّة والقدرة على الصمود؛ فالشهادة إنجاز نوعيّ، لا كمّيّ، يستنهض الأمم، والشهداء هم المبادرون إلى المواجهة، ولولا مبادرتهم لاستشهد الآلاف من الناس، فضحّوا بأنفسهم في سبيل وطنهم وناسهم.
4. التعريف بمفاهيم القرآن: قدّم «طوفان الأقصى» فرصةً غير مسبوقة لمختلف الشعوب للتعرّف إلى القرآن الكريم، من خلال سريان مفاهيمه في حياة المظلومين الذين لم يلهجوا إلّا بالحمد والشكر والتواصي بالصبر والشجاعة.
5. استحضار كربلاء: حضرت قضيّة كربلاء بقيمها في هذه المعركة على لسان الكثيرين ومجموعة من المقاومين في فلسطين، وشكّلت عنصراً بارزاً تميّزت به راية الحقّ عن راية الكاذبين والمنافقين، وهو ما أثبت أنّ تحرير القدس ليس شعاراً بل جهاد تُبذل في سبيله الأرواح.
ما الألطاف الإلهيّة التي تكشّفت خلال هذه المعركة على الصعيد العسكريّ؟
ثمّة مجموعة من الألطاف، نذكر منها:
1. الاستفادة من التجربة: لا شكّ في أنّ جبهة الإسناد في جنوب لبنان خفّفت الضغط عن المقاومة في فلسطين، وساهمت في استنزاف قدرات العدوّ، وهذا لطف إلهيّ آخر مهّد للمقاومة دراسة الميدان والمراقبة والاستفادة من التجربة.
2. حـرب محـور المقاومة: لأوّل مرّة يحـارب محـور المقاومة جبهة واحدة في الميدان، وبأدوار مختلفة، وهو ما يعزّز العقيدة القتاليّة المشتركة.
3. كسر هيبة العدوّ: كسرت هذه المعركة صورة «الجيش الذي لا يُقهر»، فلم يستطع العدوّ إخفاء هذه الحقيقة رغم محاولاته التكتّم على خسائره. وقد حُشر في زاوية ضيّقة في إطار نظريّة «اليوم التالي» على إنهاء العمليّة العسكريّة، ما يعني التسريع في زوال الكيان إذا جاء هذا اليوم دون نصر حاسم.
4. تعميق المعرفة بالعدو وانكشاف جيشه وقدراته: لقد زجّ العدو في هذه المعركة بكامل قوته وقدراته، بل استخدم آخر ما في جعبته ممّا كان معلوماً لدينا وجوده أو نجح في إخفائه عن أعيننا في الفترة السابقة. اليوم باتت قدرات العدو وأسراره صفحة مفتوحة تجيد قراءتها أعين ضباط المقاومة الإسلامية ومتخصّصيها لتبني على الشيء مقتضاه.
هل بات انهيار الكيان الإسرائيليّ قريباً؟
ثمّة مجموعة من النقاط التي تشكّل مجتمعةً مؤشّراً على اقتراب أفول هذا الكيان:
1. يؤدّي طول أمد هذه الحرب إلى آثار كارثيّة واضحة على العدوّ الإسرائيليّ سياسيّاً وعسكريّاً وأمنيّاً واقتصاديّاً واجتماعيّاً.
2. انكشاف الضعف البنيويّ لدى هذا الكيان الحريص على التمسّك بالحياة رغم كلّ محاولات رفع مستوى التحمّل لديه.
3. سقوط أهداف العدوّ ومخطّطاته كالتطبيع وتوسيع رقعة الاستيطان، وهو ما يؤدّي إلى تهديد وجوده.
4. سقوط نظريّة الحدود الآمنة والدولة الآمنة في الكيان الإسرائيليّ بعد هجرة معظم مستوطني الشمال إلى الوسط والجنوب.
وفي مقابل ذلك، نرى بشائر الانتصار تلوح في الأفق لقِوى المقاومة في المنطقة بسواعد الأبطال وصمود مجتمع المقاومة وأصحاب الأرض الحقيقيّين وصبرهم.