مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

الشهيد على طريق القدس المُربّي خضر سليم عبود


نسرين إدريس قازان
 

الشهيد على طريق القدس المُربّي خضر سليم عبود (الأستاذ فداء)
اسم الأمّ:
روضة عبود.
محل الولادة وتاريخها: دير عامص 2/03/1967م.
الوضع العائليّ: متأهّل وله 3 أولاد.
محلّ الاستشهاد وتاريخه: الجنوب 1/12/2023م.

 

أينما حلّ كان يترك أثراً فيه رائحة الحنين، يكتب بيتاً من الشعر هنا، وقصيدة هناك، ويمضي أوقاته وهو يجذف زورق كلماته بين القوافي، هي استراحة شاعر محارب في الحياة، ومجاهد في الجبهة.

أضاعت الأيّام فرصته في جمع قصائده في ديوانٍ خاصّ، “هي واحدة من لاءات الحياة التي علّمته أنّ مجموعها يساوي نعم”، كما كتب في إحدى قصائده، فظلّ يتنقّلُ كعصفور بين أحلامه التي سعى إليها بشغف الشاعر الذي يسكنه.

* بشغفٍ وحبّ
لا تزال صورته محفورة في ذاكرة عوائل الشهداء، وهو يمشي تحت أشعّة الشمس الحارقة ووجهه ملطّخ بعرق التعب، أو تحت مطر الشتاء القارس وثيابه مبلّلة، يتأبّط مجموعة من ملفّات أبناء الشهداء التربويّة، يتنقّل بها من مدرسة إلى أخرى، يتابع شؤونهم الدراسيّة بكلّ تفاصيلها، ثمّ يعود ليجلس خلف مكتبه في مؤسّسة الشهيد في بيروت، منكبّاً على الأوراق التي يدوّن عليها الملاحظات، فينتهي دوامه وهو لا يزال مستغرقاً في العمل بكلّ شغف وحبّ، فهو لم يكن يتعامل يوماً مع مهامه في المؤسّسة كوظيفة، بل كواجب يؤدّيه تجاه أبناء المضحّين، من شهداء وأسرى في سجون العدوّ وقتذاك. وكان يبذل كلّ ما في وسعه لجعل مسيرة هؤلاء الأبناء الدراسيّة ناجحة، فبنى لهذه الغاية علاقة وطيدة مع مديري المدارس وأساتذتها من جهة، ومؤسّسة الشهيد من جهة أخرى.

* همّة ونشاط
ولد خضر في بلدة دير عامص الجنوبيّة في بيتٍ متواضعٍ يكدح فيه الوالدان في سبيل تربية أولادهما. وقد تأثّر منذ صغره بالحركة الإيمانيّة الجهاديّة، فكان يتوجّه إلى المسجد لأداء الصلاة، حتّى بنى بيت الله في روحه الحصن الذي يساعده على الصمود في وجه نوائب الأيّام. تلقّى دراسته في مدينة صور إلى أن أنهى المرحلة الثانويّة، وما إن نال شهادة نجاحه، حتّى عقد العزم على التوجّه إلى بيروت للالتحاق بالجامعة في اختصاص الأدب العربيّ. بعد ذلك، عقد قرانه وبدأ بترتيب حياته الخاصّة والمهنيّة.

عمل في بداية الأمر في مكتبة “القدس” التي كانت تابعة لمؤسّسة الشهيد، ثمّ انتقل بعدها إلى القسم التربويّ لتسع سنوات، وكان بموازاة ذلك مساعداً في الملفّات الاجتماعيّة الثقافيّة، كما كان عريفاً في الاحتفالات يساعده على هذه الموهبة بلاغة كلامه ورقّة شعره.

مضافاً إلى ذلك، كان خضر يوقظ في نفوس الآخرين الحنين إلى القرية والبساطة، إذ لم تسرق منه بيروت لكنته الجنوبيّة أو تعامله الطيّب مع من حوله، محافظاً على ابتسامة دائمة رافقته في مختلف الظروف، حتّى باتت ذخيرة روحه الطيّبة.

* تربية وتعليم
تجلّت في شخصيّته روح المُربّي، وامتلك قدرة متميّزة على إيصال الفكرة التي يناقشها إلى الآخرين بكلّ سهولة، ما زرع في نفسه حبّ التعليم، فما إن شرّعت مدارس المهديّ – شاهد أبوابها، حتّى التحق بالسلك التعليميّ بعد أن نال إجازته الجامعيّة، فبدأ بتدريس اللغة العربيّة بأسلوب بسيطٍ وسهل، وأدخل نصوصاً عن المقاومة الإسلاميّة وشهدائها إلى محاور الدروس، وكان يختار منها عند تحضير أسئلة الامتحانات بهدف زرع الوعي والثقافة الجهاديّة في نفوس تلاميذه.

إلى جانب كونه أستاذاً، التحق خضر بالعديد من الدورات العسكريّة التخصصيّة، وكان يُشارك في المرابطات على الثغور وفي بعض المهام الجهاديّة، حتّى طُلب إليه عام 2005م الانتقال إلى العمل العسكريّ في منطقة الجنوب، فما كان منه إلّا أن انتقل وعائلته إلى هناك، ليقسّم وقته بين العمل الجهاديّ والتربويّ، وقد بدأ منذ ذلك الوقت العمل مدرّباً حيث برع في هذه المهمّة، مستغلّاً مهاراته في أساليب التعليم الممنهج، ومستخدماً طرائق ومهارات تتناسب وأعمار المتدرّبين، معتمداً على مبدأ أنّ التدريب ليس نقل معلومة فحسب، بل هو تلبية روحيّة للفرد.

بهيبة لافتة كان يقف “الأستاذ فداء”، كما كان المتدرّبون ينادونه، ولكن سرعان ما كان يُظهر عطفه ولينه في التعاطي معهم، لدرجة أنّه كان ينادي كلّ فرد منهم “يا بيّي”، فأرسى بشخصيّته المحبّبة الراحة والسكينة في نفوسهم. وكذلك كان في ميدان التعليم، إذ كان شديد الحرص على مساعدة زملائه وتلاميذه، وأدّى دور حلقة الوصل بين الجميع إذا ما اختلفت الآراء، ولم يتوانَ للحظة عن لفت نظر أحدهم إلى أيّ تفصيل قد يضرُّ بالعمل. كما كان يواكب الأفراد في حياتهم الشخصيّة، فيساعدهم على اجتياز الصعوبات بالنصيحة والموعظة الحسنة.

* «لن أحبّ زمناً لست فيه»
التحق خضر بحرب الدفاع عن المقّدسات في سوريا منذ بدايتها، فبقي يتنقّل بين جبهاتها ستّ سنوات، وكانت تلك المرحلة نوعيّة بالنسبة إليه على الصعيدَين الروحيّ والمعنويّ، وكان في كثير من الأحيان يتلمّس أطراف الشهادة بأصابعه التي كانت ترتاحُ من الضغط على الزناد بقلمٍ يكتب الخواطر والقصائد.

بعد هذه الفترة، ترك خضر مهنة التدريس في مدارس المهدي في منطقة صور، وتفرّغ كليّاً للعمل العسكريّ، فكان يطوّر من خبراته بالدورات التي يلتحق بها، وينقل تجاربه إلى ساحة العمل، إلى جانب رغبته في استكمال دراسته العليا في مرحلة الماجستير. وفي الفترة الأخيرة، ألزم نفسه بالمتابعة مع الأستاذ المشرف على الرسالة بإصرار غريب، بهدف الانتهاء منها بأسرع ما يمكن، وقد حملت رسالته عنوان: «لن أحبّ زمناً لست فيه»، وهي تتمحور حول قصائد للشاعر يوسف نصر الله، وقد أنهى إعدادها بانتظار تحديد موعد المناقشة. وكان قبل أن يسلّم الرسالة إلى عمادة الجامعة قد عرضها على صديقه حتّى يَطّلع عليها، فما إن قرأ صديقه العنوان حتّى خالجه شعور غريب، وكأنّه لن يحبّ زمناً ليس فيه صديقه «فداء»!

* آخر القصائد
أصيب خضر بوعكة صحيّة استلزمت إجراء عمليّة في رقبته، ولكنّه أهمل الذهاب إلى الطبيب بسبب العمل، وكلّما حدّد للعمليّة موعداً أجّله لسبب أو لآخر، حتّى أجراها أخيراً قبل استشهاده بعشرين يوماً، بحيث التحق بالجبهة في الجنوب قبل أن يشفى تماماً نصرةً لغزة في معركة طوفان الأقصى. وهناك، خلال استراحة محارب، كتب آخر قصائده الجميلة، وتماهى لون عينيه مع تراب الأرض ومطر الشتاء، وألقى بمجذافَي زورقه ليبحر بلا رجعة، إلى حيث الحلم الأخير له، إلى حيثُ قالت الشهادة له: «نعم»، فكان شهيداً على طريق القدس.

بعد استشهاده بأسبوع، حُدّد موعد مناقشة رسالة الماجستير، وقرّر رفاقه التحضير لإجراء المناقشة نيابةً عنه، وتمت المناقشة، ونال «فداء» درجه الماجستير، لكنه أبى إلا أن ينال قبلها وسام الشهادة!

أضيف في: | عدد المشاهدات: