مع إمام زماننا | طاعة الوليّ في زمن الغيبة قرآنيات | اليهود أشدّ الناس عداوةً للذين آمنوا(*) أمراء الجنة | الأمنـيـة الأخيرة ... الشهيد سامر نجم  قضايا معاصرة | فلسفة الحرب في الثقافة الإسلاميّة الوقاية والحماية المدنية في حالات الحرب أوجُه الجهاد في المقاومة أسباب الانتصار حديثٌ مع السيّد من عليائه عشنا في زمن نصر الله الغيب في الوعد الصادق

البيئة أمانة فلا تفسدها

د. فاطمة ياسين


﴿وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾، (البقرة: 30).

الإنسان خليفة الله على الأرض، وهو مستخلَف في إعمارها وإدارة موارد الحياة فيها. وقد كرّمه سبحانه وتعالى بهذا المقام كي يحافظ على موارد النعم الّتي أنعم بها عليه؛ فلا يلوّثها أو يفسدها. وتأتي البيئة بكلّ عناصرها من أولى تلك النّعم والأمانات التي على الإنسان أن يديرها ويستغلها في ما يرضيه عزّ وجلّ.

* الفساد البيئيّ لا حدود له
يبدأ الفساد البيئيّ من رمي ورقة في الشّارع سواء من نافذة السيّارة أو بأيّ طريقة أخرى، ليصل إلى رمي دول نفاياتها في دول أخرى. وهو يعدّ خطراً جداً على صحّة الإنسان والبيئة، ويعكس بشكلٍ غير مباشر فساد منظومة الممارسات الإداريّة والتربويّة والاجتماعيّة، التي تتّصل بجذور تربويّة وأخلاقيّة وإداريّة تنطلق من المنزل إلى المدرسة ثمّ المؤسّسات الأكاديميّة التي تُعنى بصقل الإنسان، وصولاً إلى أكبر إدارات صنّاع القرار.

درج الحديث عن هذا النوع من الفساد في السنوات الأخيرة بعدما بدأت البشريّة تلمس آثاره المباشرة على صحّة الإنسان ومعيشته ونوعيّة حياته، مع العلم أنّ البشر على مرّ العصور قادرون على إدراك «لا أخلاقيّة» هذا الفعل بحقّ البيئة والمحيط.

سنستعرض ثلاث قضايا تشكّل مظاهر فساد بيئيّ في السلوكات الخاطئة للأفراد، والتي ينعكس أثرها سلباً على صحّتهم وصحّة المجتمعات، وعلى استدامة الموارد الطبيعيّة كمّاً ونوعاً، وهي: إدارة النفايات الصلبة، وجودة الهواء والمياه، وحفظ نعمة الغذاء.

* أولاً: النفايات الصلبة
تعدّ هذه القضيّة في أيّامنا هذه من أكثر القضايا حساسيّة على صعد عدّة: جماليّاً، وبيئيّاً، وصحيّاً، وأخلاقيّاً. وإنّ أحد أسباب مشكلة سوء إدارة النفايات الصلبة على الصعيد الفرديّ، هو توصيف الأفراد للنفايات التي ينتجونها على أنّها «نفايات البلديّة أو نفايات الدّولة، وأنّ هاتين الجهتين تقصّران في جمعها». فعليّاً، هذه النفايات ينتجها الأفراد، وهم الذين يحدّدون نوعها وكمّيتها من خلال نمط استهلاكهم ومستوى رفاهيّتهم. وما تقاذف المسؤوليّة ورمي فشل إدارة هذا الملفّ على البلديّة أو السلطة المحلّيّة سوى شكل من أشكال الفساد الّذي يؤسّس لسلوك خاطئ تتناقله الأجيال. وفي نهاية الأمر، فإنّ نتائج سوء إدارة هذا الأمر تنعكس على جميع أفراد الناس، سواء ممّن هم في النطاق الجغرافيّ نفسه لانتشار النفايات، أو حتّى خارج ذلك النطاق؛ لأنّ التلوّث لن يبقى محصوراً محليّاً، بل سينتشر ليشمل العالم. والجدير ذكره أنّ النفايات هذه لا تلوّث سطح الأرض فقط، بل تلوّث أيضاً المياه الجوفيّة والتّربة، وحتّى الهواء عند إحراقها بشكلٍ عشوائيّ.

أمّا حلول هذه المشكلة البيئيّة فتكمن في عمل السلطات المحليّة كالبلديّات مثلاً، والمدارس، والعاملين في القطاع التربويّ والبيئيّ، والأهل على تمكين الأفراد وتوعيتهم ليقوموا بإدارة هذه القضيّة من تلقاء أنفسهم، وذلك من خلال ترشيد الاستهلاك لتخفيف حجم النفايات وفرزها.

* ثانياً: تلوّث الهواء
الهواء والماء والغذاء عناصر تؤثّر على صحّة البشر بشكلٍ مباشر، سلباً أو إيجاباً. لذا، تتأثّر جودة الهواء بقطاعات النّقل والطاقة والصناعة والزراعة، وبإدارة النفايات الصلبة. أمّا وقود المحرّكات المحترق، والانبعاثات الناتجة عن حرق النفايات، ودخان المنشآت الصناعيّة، والمبيدات الزراعيّة المتبخّرة، فكلّها تؤدّي إلى تدهور جودة الهواء الّذي ينقل هذه الملوّثات بعيداً عن مكان إنتاجها ليتوسّع نطاق انتشارها في أماكن أخرى. من هنا، فإنّ للسلوك الفرديّ دوراً أساسيّاً في إدارة النفايات وقطاعَي النقل والزراعة، بحيث إنّه المسؤول الأوّل عن زيادة نسبة الملوّثات في الهواء، بالتالي، تدنّي نوعيّته وجودة الحياة.

والحلول ترتبط بتمكين الأفراد في قضيّة إدارة النفايات، بالإضافة إلى التشجيع على التخفيف من استعمال الوقود الأحفوريّ في إنتاج الطاقة، وهو ما نشهده في السنوات الأخيرة من خلال استخدام الطاقة البديلة النظيفة على أسطح المنازل. كما أنّ التشجيع على استخدام وسائل النقل المشترك جزء من الحلّ، ولكنّ تطبيقه مرتبط بنظام حياة الأفراد وعاداتهم وأماكن عيشهم (قرية أو مدينة). هذا فضلاً عن الاستخدام الرشيد للمبيدات، وهو ما تقوم به جمعيّات محليّة كجهاد البناء.

* ثالثاً: هدر نعمة الغذاء
إنّ حفظ النعمة هو ممارسة فرديّة دينيّة أخلاقيّة قبل أن تكون بيئيّة. وهدرها من المشاكل الأساسيّة التي تعاني منها الأجيال الحاليّة مع ما يرافقها من إسراف وتدنٍّ في مستوى المسؤوليّة. وقد تُرجم ذلك بشكلٍ مباشر في زيادة حجم النفايات الناتجة عن الغذاء ورمي كميّات كبيرة منه خصوصاً خلال المناسبات نتيجة الخلط الكبير أحياناً بين الكرم والإسراف. كلّ هذا يحصل، مع الأسف، في ظلّ وجود أعداد كبيرة من الفقراء.

أمّا الحلول فتبدأ أوّلاً بتربية جميع الأفراد وتوعيتهم عن طريق التبليغ الدينيّ والأخلاقيّ. ثمّ يأتي دور التسوّق الذكيّ، وترشيد الاستهلاك، والإدارة الحكيمة في المنزل لحفظ الغذاء بشكلٍ صحيح. كما أنّ التكافل الاجتماعيّ باب أساسيّ في حفظ النعمة أيضاً، وهو يعدّ أمراً رائجاً في البيئات المتديّنة.

* علاج الفساد البيئيّ
مع إدراكنا لصعوبة وجود إجراءات فعليّة متنوّعة الوظائف على صعيد السلطة محليّاً ودوليّاً، نجد أنّه من الأمثل البدء بمكافحة هذه الظاهرة بشكلٍ فرديّ، وذلك من خلال:

1. السلوك الشخصيّ: الإنسان هو العنصر الأساسيّ القادر على إحداث التّغيير في الحاضر والمستقبل من أجل تحقيق استدامة الموارد، والحفاظ على العناصر الطبيعيّة وإدارتها بشكلٍ سليم، وهو ما سيساهم بالدرجة الأولى في مكافحة الفساد البيئيّ.

2. التربية البيئيّة: هذا يعتمد أيضاً على الفرد كعنصر أساسيّ في التّغيير انطلاقاً من سلوكاته اليوميّة المنبثقة من القيم الأخلاقيّة والدينيّة ليعمّ التأثير المجتمع بأكمله.

3. التثقيف البيئيّ: يقع على عاتق المربّين، والأهل، والمتخصّصين، وكلّ من هو في موقع مسؤوليّة، وكلٌّ بحسب قدراته والإمكانات المتاحة بين يديه، مسؤوليّة تثقيف التلامذة والطلّاب وكلّ أفراد المجتمع من أجل بناء منظومة تحافظ على البيئة.

لذلك، فإنّ العمل مع الفئات العمريّة الصغيرة والمراهقين بشكلٍ خاصّ، أكثر فعاليّة في إيجاد المحفّز المناسب لخلق قناعة في إحداث التغيير المناسب في السلوك.

4. بناء قيادة بيئيّة: إنّ كلّ تلك الخطوات تساهم في بناء قادة بيئيّين يعرفون بالأمور البيئيّة، ويبحثون دائماً عن المعرفة المستجدّة، ويتمتّعون بالقيم الّتي تضمن تطبيقهم ونشرهم لما يعرفونه في محيطهم الاجتماعيّ بفعاليّة عالية، فضلاً عن المساهمة في بناء قادة جدد يحقّقون مستويات عدّة من الأهداف، كلٌّ بحسب درجة تأثيره ومتطلّبات محيطه. كلّ هذا يؤسّس إلى مشاركة مجتمعيّة ورقابيّة تكافح الفساد البيئيّ وتتكامل مع السياسات البيئيّة الصحيحة إن وجدت.

* الإنسان أوّلاً وأخيراً
إذا كان الفساد البيئيّ سبباً مباشراً للأزمات البيئيّة، فهو يعكس أيضاً أنواعاً أخرى من الفساد في المجتمع، والتي يدفع فيها الإنسان أوّلاً وأخيراً، ومهما كان دوره وأينما كان يعيش، فاتورة تقلّص الموارد المتاحة بين يديه وتدهور صحّته.

من هنا، نشدّد على أهميّة بناء جيل واعٍ وتربيته وفق القيم والتعاليم الصحيحة. ولنأخذ بعين الاعتبار أنّ مكافحة الفساد البيئيّ وفق ما عرضناه تتطلّب الصّبر وعدم الاستعجال في انتظار تحقّق النّتائج.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع