السيّد حسين أمين السيّد
على الرغم من وضوح مفهوم الفساد ومساوئه عند البشر، إلّا أنّ كثيرين منهم يتمسّكون به ويرتكبونه صباحاً ومساء، حتّى نكاد لا نجد في التاريخ فسحة أو بقعة خلت منه. وقد اشتدّ أمره في عصرنا بأشكال مختلفة ولأسباب عديدة. من هنا، كان لا بدّ من التعرّف على حقيقته، ومعناه، ومصاديقه في القرآن الكريم لكي نحدّد تكليفنا في مواجهته.
* الفساد ومصاديقه في القرآن
في اللغة الفساد يقابله الصلاح، ويكفي في معرفته ملاحظة النتائج؛ فإن كان نتاج العمل ممّا يستوجب مدح العقلاء فهو صلاح، وإن كان لا يستوجبه فهو فساد. والمقصود من العقلاء هم أصحاب العقل السليم لا غيرهم، وعليه، فكلّ ما يستوجب الأذيّة والنقيصة والضرر وضياع الفرص والمقدّرات، وكلّ ما يخالف فطرة البشر في السلوكات والأخلاقيّات... يصدق عليه مفهوم الفساد. وبما أنّ الله سبحانه وتعالى مجمع الكمالات، فقد أمر عباده وخلقه باتّباع الصلاح ومحاربة الفساد، لذا، أخذ بيان المقصود من الفساد في الكلام الإلهيّ مساحة كبيرة حتّى يقيم سبحانه الحجّة على خلقه، فلا يحتجّ مخلوق على الله تعالى بعدم معرفته بمصاديقه.
أوضح القرآن الكريم بما لا يدع مجالاً للشكّ والاشتباه المقصود من الفساد، وسنعرض بعض الآيات القرآنيّة التي تكشف لنا عن بعض أشكاله:
1. الإفساد في الأرض: قال تعالى: ﴿وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الفَسَادَ﴾ (البقرة: 205)؛ فالذي يتولّى عن الله سبحانه تصبح حياته قائمة على مخالفة أوامره تعالى، فيعمل على خلاف الكمال، وهذا معناه اعتماد الفساد أسلوباً وسلوك حياة، ونتيجته الطبيعيّة ستكون هلاك الحرث والنسل أي المجتمع الإنسانيّ برمّته.
2. جنوح الناس إلى الفساد: قال سبحانه: ﴿ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُم بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ﴾ (الروم: 41). يُفهم من الآية أنّ الإنسان هو من يملأ الدنيا فساداً وظلماً، فينتج عن ذلك خراب البرّ والبحر كمساحة حياة للبشر، الذين يتحمّلون نتائج أفعالهم بحسب نظام الأسباب والمسبّبات، فيذوقون وبال أمرهم وعظيم جرمهم فيرجعون إلى الله تعالى وما يأمرهم به.
3. الفساد الفكريّ: قال تعالى: ﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77). وهنا، يدفع القرآن الكريم شبهة مهمّة وهي الاعتقاد أنّ كلّ من يطلب الدنيا يعدّ طالباً للفساد، والصحيح أنّ الله سبحانه خلق الدنيا ليستفيد منها عباده كما أمرهم: ﴿قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللّهِ الَّتِيَ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ﴾ (الأعراف: 32)، ومن خرج عن هذا الحدّ وقع في الفساد، فالدنيا من خلق الله تعالى وهي مجبولة بالخير لمن أطاعه، ومن خرج عن الطاعة وقع في الفساد ودخل في زمرة المفسدين.
4. الفساد التجاريّ والاقتصاديّ: قال تعالى: ﴿وَيَا قَوْمِ أَوْفُواْ الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ وَلاَ تَبْخَسُواْ النَّاسَ أَشْيَاءهُمْ وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (هود: 85).
5. طاعة القيادة الفاسدة: قال سبحانه: ﴿وَلَا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ* الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَلَا يُصْلِحُونَ﴾ (الشعراء: 151-152)، وقال تعالى عن لسان بلقيس: ﴿قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ (النمل: 34).
6. قطيعة الرحم: قال تعالى: ﴿فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ﴾ (محمّد: 22).
* الرضى الإلهيّ أوّلاً
في المحصّلة، إنّ كلّ عمل لا يدخل تحت مفهوم الرضى الإلهيّ فهو فساد، سواء على المستوى الفرديّ أم الاجتماعيّ العام، وسواء كان العمل مهمّاً أم بسيطاً؛ فكلمة “الفاسد” تصدق حتّى على من عصى الله تعالى سرّاً، لأنّ من كان فاسداً في نفسه ما يلبث أن يفيض فساده على المجتمع، لأنّ ثمّة من يعدّ نفسه صالحاً على المستوى الشخصيّ ويمارس العبادات ولكنّه يعيث الفساد في المجتمع، كالذي يقطع رحمه أو يأكل مال اليتيم أو يقتل ويسرق، خصوصاً سرقة المال العام التي لا تسمّى “سرقة” عند كثيرين!
ومن لطيف ما يعرضه القرآن الكريم عند حديثه عن المفسدين هو عدم اعترافهم أنّهم من أهل الفساد، لا بل هم مقتنعون أنّهم من أهل الصلاح ويريدون خدمة الإنسان والمجتمع، فيبرّرون أفعالهم بأنّها صلاح وخير، ومن يرفضهم يجب أن يلام ويعاتب، وقد نقل القرآن الكريم ذلك بوضوح في قوله تعالى: ﴿وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ *أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِن لاَّ يَشْعُرُونَ﴾ (البقرة: 11- 12).
* مناشىء الفساد
الفساد ليس أصيلاً في هذه الدنيا بل الإنسان هو من يصنعه. وقد أودع الله عزّ وجلّ في البشر عند خلقهم قابليّة السلوك الكماليّ أو التسافل على حدّ سواء، وأعطاهم حريّة الاختيار بين هذا وذاك، كما بيّنه في قوله تعالى: ﴿لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ* ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ* إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَات﴾ (التين: 4-6). يُستفاد من الآية أنّ المقصود هو الإنسان الذي بدأ على الفطرة السليمة، فطرة الخير والصلاح (أحسن تقويم)، وأمّا (أسفل سافلين) فهو الذي خرج عن أحسن التقويم بأفعاله، في حين أنّ الذين عملوا بطاعة الله تعالى هم أهل الإيمان والعمل الصالح فينالون الأجر العظيم والثواب الجزيل. فهذا الاستعداد لدى الإنسان للكمال أو الهبوط يجعله يختار تنمية أيّ استعداد يريد: ﴿إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا﴾ (الإنسان: 3).
* آثار الفساد
قد يتصوّر الإنسان أنّ للفساد أثراً على فاعله فقط، فيتحمّل مسؤوليّة ما اقترفت يداه وانتهى الأمر، ويغفل عن أنّ ثمّة آثاراً يصعب إدراكها وضبطها. صحيح أنّ الآثار تبدأ فرديّة، ولكنّها تصبح اجتماعيّة، ثمّ تتطوّر لتعمّ الأرض ومن عليها، فيصدق على الناس قول الله تعالى: ﴿وَلاَ تَعْثَوْاْ فِي الأَرْضِ مُفْسِدِينَ﴾ (الشعراء: 183). وهنا، يستنكر المفسد عظيم ما قام به وخطورته معتبراً أنّه عمل بسيط ومحدود، ويتنصّل من تحمّل مسؤوليّة هذه الآثار العظيمة لفساده. وقد عرضت الآيات القرآنيّة بعض ما أعدّه الله تعالى للمفسدين، نذكر بعض النماذج:
1. قال الله تعالى: ﴿إِنَّمَا جَزَاء الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُواْ أَوْ يُصَلَّبُواْ أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلافٍ أَوْ يُنفَوْاْ مِنَ الأَرْضِ﴾ (المائدة: 33). لقد جعل الله تعالى السعي بالفساد هو عين محاربة الله ورسوله، فمَن يستطيع أن يتحمّل هذا العذاب وأثر هذا الفعل؟
2. قال الله في معرض نصحه لقارون: ﴿وَأَحْسِن كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ﴾ (القصص: 77)، ولكنّه أبى إلّا أن يخرج بزينته ويتغنّى بما يملكه من قوّة على أنّها من نفسه، فكانت عاقبة سوء عمله: ﴿فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ فَمَا كَانَ لَهُ مِن فِئَةٍ يَنصُرُونَهُ مِن دُونِ اللَّهِ وَمَا كَانَ مِنَ المُنتَصِرِينَ﴾ (القصص: 80).
3. من أثر الفساد في الآخرة أيضاً ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّار﴾ (الرعد: 25).
* سبيل الخلاص من الفساد
من الطبيعيّ السؤال عن سُبل الخلاص من الفساد، فهل ذكر الله تعالى طريقاً للمواجهة؟
عند الجواب عن هذا السؤال، ينبغي أن نتذكّر أنّ مسؤوليّة محاربة الفساد هي مسؤوليّة بشريّة إنسانيّة خالصة، وأنّ القضاء عليه يعود نفعه على الإنسان. وما يبيّنه الله تعالى من سُبل للمواجهة هو من باب اللطف بعباده والرحمة بهم، فإن ساروا وفق الإرشاد الإلهيّ والبيان الربّانيّ وصلوا إلى الفوز العظيم، وتصبح عندها الدنيا دار العدل والصلاح والطاعة لله تعالى. أمّا أساليب المواجهة، فنذكر بعض الآيات الشريفة التي تحدّثت عنها:
1. الجهاد في سبيل الله تعالى: ﴿وَإِن نَّكَثُواْ أَيْمَانَهُم مِّن بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُواْ فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُواْ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لاَ أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنتَهُونَ﴾ (التوبة: 12)؛ فلا خلاص إلّا بالجهاد والمواجهة.
2. النهي عن المنكر: ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ﴾ (آل عمران: 110)؛ فكلّ مكلّف معنيّ بمواجهة الفساد أينما وجده، وهذا تكليف شخصيّ ومجتمعيّ وإنسانيّ، ليصل بالنتيجة إلى التنعّم بآثار الطاعة: ﴿وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقًا﴾ (الجن: 16). تبدأ المواجهة أوّلاً من إصلاح الإنسان نفسه من خلال التربية والتزكية والتحلّي بمكارم الأخلاق، لينتقل من بعدها إلى مواجهة مصاديقه في المجتمع الإنسانيّ، وهذه المعركة دائمة ومتواصلة لا استراحة فيها، حتّى يُكتب في النهاية من المجاهدين: ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69).