الشيخ د. محمّد حجازي
يسعى الإنسان في سائر أعماله الدينيّة والدنيويّة إلى بلوغ الدرجة العليا من الكمالات الروحيّة والماديّة. وحينما يبلغ حدّاً معتداً به من الإنجازات والأهداف السامية، فإنّه يحقّق جمالاً معنويّاً أو ماديّاً في الغايات التي وصل إليها. فالجمال بمعناه الواسع لا يأخذ بُعداً ماديّاً فحسب، إنّما يتمظهر في سائر الحالات التي تعدُّ كمالاً للإنسان. وبهذه المقاربة، يخرج الجمال من حدوده الماديّة ليشمل كلّ مظاهر الحياة؛ فالالتزام بالأوامر الإلهيّة وجه من وجوه الجمال الدينيّ، والتحلّي بالأخلاق شكل من أشكال الجمال والإبداع، بل يشمل الأمر عدداً من الأمور التي تتراءى لنا بشكل الزينة وزخارف الحياة الدنيا.
* القرآن يصف الفعل الجميل
أشار سبحانه وتعالى في عدد من الآيات القرآنيّة إلى معاني الجمال المتعدّدة: ففي الجانب الأخلاقيّ وصف الله تعالى التسامح والصفح والصبر بالجميل فقال: (وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْرًا جَمِيلًا) (المزمل: 10)، وفي جانب الالتزام الدينيّ المرتبط بالمعاد قال تعالى: (وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ) (الحجر: 85). وكذلك في ما يتعلّق بالجانب المعاملاتيّ الاجتماعيّ وصف القرآن الكريم التعامل النبيل مع المرأة بالسراح الجميل، قال تعالى: (فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا) (الأحزاب: 28). والملاحظ أنّ القرآن لم يكتفِ بذلك، إنّما وصف العناية بالأنعام بشكلٍ من أشكال الجمال، قال تعالى: (وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ) (النحل: 6)؛ فعندما تعود الإبل من مرعاها وتردّ إلى مراحها بالعشايا يتراءى لأصحابها ذلك الجمال الماديّ.
* مظاهر التربية الجماليّة الإسلاميّة
أمام هذه الحقائق الماديّة والمعنويّة تتكوّن قناعات عميقة عند الإنسان بضرورة الالتزام بمبادئ التربية الجماليّة بحيث تكون قادرة على صناعة معاني الجمال ومظاهرها وتناسقها مع جماليّات الكون. فالتربية الجماليّة تحضّ على الاهتمام بالنظافة الخاصّة والعامّة، وإتقان الأعمال واستعمال الطاقات والمواهب كافّة، والارتقاء على مدارج التطوير والنموّ المتكامل، وكذلك العناية بشؤون البيئة كلّها، والمساهمة في زيادة العمران والحركة الاقتصاديّة.
لذا، فإنّ كلّ ما يؤدّي إلى تقوية مظاهر الحياة المرتبطة بأبعادها الدنيويّة والأخرويّة هو مطلب إلهيّ لأنّه يعطي الضمانة لاستمراريّة التناسل والاستخلاف في الأرض، وكلّ ما يؤدّي إلى البؤس والشقاء هو عكس المظاهر الجماليّة، بل هو من مظاهر القبح والتباؤس، وهذا ما أكّد عليه الحديث: «إنّ الله يحبّ الجمال والتجميل، ويكره البؤس والتباؤس»(1).
وقد يعتقد بعض الناس أنّ الدين الإلهيّ لا شأن له بالتربية الجماليّة، خصوصاً أنّ قسماً كبيراً من التعاليم الإسلاميّة يهتمّ بالجانب العباديّ. لكن في الحقيقة، فإنّ الدين هو منهج وأسلوب حياة وله صبغته الفطريّة والاجتماعيّة ولم ينطلق في تشريعاته من منطلقات انعزاليّة بحتة، إنّما من أرضيّة واقعيّة تأخذ أبعاداً مختلفة من الجمال العمليّ والفكريّ والإداريّ والتربويّ وغير ذلك. ولأنّ الدين الإسلاميّ دين اجتماعيّ ومدنيّ، فقد دعا إلى الاهتمام بجماليّة المظاهر، كالحفاظ على النظافة التي ربطها بالإيمان، فعن النبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «النظافة من الإيمان، والإيمان وصاحبه في الجنّة»(2)، وعنه صلى الله عليه وآله وسلم أيضاً: «تنظّفوا بكلّ ما استطعتم، فإنّ الله تعالى بنى الإسلام على النظافة، ولن يدخل الجنّة إلّا كلّ نظيف»(3). والأمر نفسه نجده في حثّ الشريعة الواضح للحفاظ على مظاهر البيئة الجماليّة، من إشكاليّة قطع الأشجار، أو الصيد اللهويّ الذي ذهب الفقهاء إلى الإفتاء بحرمته أو كراهته(4).
* نظافة البيوت وملحقاتها
ثمّة مجموعة كبيرة من تعاليم ديننا الحنيف توجّه الإنسان للاهتمام بمحيطه ليضيف عليه جماليّة النظافة والتنسيق والإتقان، وبعض الروايات تشير إلى أنّها من مصاديق سعادة الإنسان، واللافت هي تصريحاتها الدقيقة، منها:
1. إزالة القمامة والنفايات وعدم تبييتها: فعن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: «لا تُبَيِّتُوا القمامةَ في بيوتِكُمْ وَأَخْرِجوها نهاراً فَإنَّها مَقَعَدُ الشَّيْطانِ»(5).
2. كنس البيوت من الغبار والأوساخ: عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «كنسُ البيوتِ ينفي الفقرَ»(6).
3. إزالة حوكُ العنكبوت: تُشير الروايات إلى أنّه بيت الشياطين، كما أنّه يورث الفقر، ففي الحديث عن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «بيتُ الشياطينِ من بيوتِكُمُ بيتُ العنكبوتِ»(7).
4. توسيع مساحة البيوت: قال الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «مِنْ سَعَادةِ المَرْءِ حُسْنُ مَجْلِسِهِ، وَسَعَةُ فِنَائِهِ، وَنَظَافَةُ مُتَوَضَّاهُ»(8).
* نظافة الشوارع والأماكن العامّة
شدّدت الروايات الشريفة على ضرورة الاهتمام بنظافة الشوارع، ونهت عن التبوّل أو إلقاء القاذورات في الطرقات أو في الأماكن التي يركن إليها الناس للاستراحة مثل الظلال وغيرها، قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «اتّقوا اللَّعَّانين، قالوا: وما اللَعَّانَانِ يا رسول الله؟ قال: «الذي يتخلّى في طريق الناس أو في ظلّهم. إنّ المؤمن ليؤجر في إماطة الأذى عن الطريق»(9). الأذى هنا يشمل كلّ ما يشوّه جمال الطريق ونظافته، أو يتسبّب في حوادث الطرق أو الإرباك المروريّ، أو غيرها من الأضرار التي تلحق بالطريق ومستخدميه من إلقاء الزجاجات الفارغة والمخلّفات من الأوراق وغيرها.
* النظافة والترتيب في بيئة العمل
إنّ توافر شروط التنظيم والنظافة في بيئة العمل يجعل العاملين فيه يبدعون بشكلٍ مستمرّ ويقدّمون إنجازات رائعة، ويعطي انطباعاً حسناً عن العاملين. ونعني بالنظافة والترتيب المحافظة على المعيار الضروريّ لجعل أماكن العمل آمنة وصحيّة، وذلك من خلال: التنظيف والترتيب اليوميّ للمكتب، جعل سطح المكتب واسعاً وفيه فراغات، وضع الكتب والأوراق في الأماكن المخصّصة لها وعدم وضعها على الأرض أو تركها مبعثرة على الطاولات، المحافظة على الطرق والممّرات خالية من العوائق في جميع الأوقات، وغيرها من الأمور.
* استحباب تشجير المدن
إنّ عناية الإسلام بغرس الأشجار ونثر البذور أو الزراعة أمر مشهود تماماً في النصوص الدينيّة، حيث إنّ زرع شجرة يرقى أحياناً إلى مستوى أفضل أعمال الخير وأقدسها، كما يبيّن ذلك الحديث الشريف للنبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «سَبْع يَجْرِي للعَبْدِ أَجْرُهُنَّ وَهُوَ في قَبْرِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ: مَنْ عَلَّمَ عِلْماً، أَوْ أَجْرَى نهراً، أو حَفَرَ بِئْراً، أَوْ غَرَسَ نَخْلاً، أَوْ بَنَى مَسْجِداً، أَوْ وَرَّثَ مُصْحَفاً، أَوْ تَرَكَ وَلَداً يَسْتَغْفِرُ لَهُ بَعْدَ مَوْتِهِ»(10). وقد روي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «إِنَّ أَمِيرَ المُؤْمِنِينَ عليه السلام كَانَ يَخْرُجُ وَمَعَهُ أَحْمَالُ النَّوَى، فَيُقَالُ لَهُ: يَا أَبَا الحَسَنِ، مَا هَذَا مَعَكَ؟ فَيَقُولُ: نَخْلٌ، إِنْ شَاءَ اللهُ، فَيَغْرِسُهُ فَلَمْ يُغَادِرْ مِنْهُ وَاحِدَة»(11). وأمر الإسلام أيضاً بالمحافظة على الأشجار وسقيها ونهى عن قطعها، فقد ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: «مَنْ سَقَى طَلْحَةً أَوْ سِدْرَةً فكأنّما سَقَى مُؤْمِناً مِنْ ظَمَأ»(12)، وروي عن الإمام جعفر الصادق عليه السلام: «لا تَقْطَعُوا الثِّمَارَ فَيَصُبَّ اللهُ عَلَيْكُمُ العَذَابَ صَبّاً»(13).
كما روي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّ قطعها مشروطٌ بالتعويض عنها: «قَالَ: سَأَلْتُ أَبَا الحَسَنِ عليه السلام عَنْ قَطْعِ السِّدْرِ، فَقَالَ: سَأَلَنِي رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِكَ عَنْهُ فَكَتَبْتُ إِلَيْهِ: قَدْ قَطَعَ أَبُو الحَسَنِ عليه السلام سِدْراً وَغَرَسَ مَكَانَهُ عِنَباً»(14).
* مناطق الحرم محميّات طبيعيّة إلهيّة
ربّما تعدّ المنطقتان اللتان وصفتا بالحرم وتوابعهما، في مكّة والمدينة، أوّل محميّتين طبيعيّتين، لا مساس بنباتهما ولا بحيواناتهما، إذ يحرم اقتلاع شجرهما والصيد فيهما، كذلك يحرم فيهما القتال، وفي ذلك إشعار للمسلم بحدود تصرّفه في مناطق عباديّة، وتدريب جميل له على التعامل مع الطبيعة تحت قانون الحلال والحرام.
* إتقان العمل جمال
كلّ عمل أتقنه صاحبه وبلغ مراده هو في حدّ ذاته جمال من جماليّات الحياة. وما يؤكّد على ذلك أنّ طريقة صناعة الكون وإبداعه وتوزيع أدواره ونظامه قائم على أساس الجماليّات في الزينة والتكوين ومباهج الحياة، قال تعالى: (إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا) (الكهف: 7).
إنّ طبيعة خلق الإنسان في أحسن صورة وتقويم: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين: 4)، يستدعي أن تكون أفعال الإنسان بمستوى الأهداف الإلهيّة التي أرادها الله تعالى من عباده، فالمولى سبحانه يريد من كلّ عاقل أن يتقن عمله ويؤدّيه على نحو كامل، وهذا معنى آخر للجمال والإبداع.
لذلك، فالمولى سبحانه وتعالى لا ينظر إلى كثرة الأعمال وإنّما إلى أحسنها وأجملها، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ) (الملك: 2).
في ضوء هذه الآية الشريفة، أكّدت الأحاديث هذا المعنى القرآنيّ، والتي منها حديث النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: «إنّ اللّه تَعالى يُحِبُّ إذا عَمِلَ أحَدُكُم عَمَلاً أن يُتقِنَهُ»(15)؛ لأنّ الإتقان وجه من وجوه الحُسن والجمال. لذلك، فإنّ من يدقّق في أحكام الشريعة ومواثيقها الأخلاقيّة يلاحظ أنّ الدين يطلب مجاهدة النفس للوصول إلى أعلى الدرجات الكماليّة، سواء أكانت على مستوى النفس أم على مستوى الإنجازات المهنيّة.
حريّ بالمسلمين أن ينظروا إلى البيئة على أنّها أمانة إلهيّة، ويهتمّوا بالمحافظة عليها، ويحرصوا على عدم تلويثها، ويجعلوا ذلك فرضاً عليهم، لا يتخلّون عن أدائه حتّى في حالات الحرب، فقد روي عن الإمام الصادق عليه السلام: «كَانَ رَسُولُ الله صلى الله عليه وآله وسلم إِذَا بَعَثَ سَرِيَّةً دَعَا بِأَمِيرِهَا، فَأَجْلَسَه إِلَى جَنْبِه وأَجْلَسَ أَصْحَابَه بَيْنَ يَدَيْه، ثُمَّ قَالَ صلى الله عليه وآله وسلم: سِيرُوا بِسْمِ اللَّه وبِاللَّه وفِي سَبِيلِ اللَّه وعَلَى مِلَّةِ رَسُولِ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم، لا تَغْدِرُوا ولا تَغُلُّوا ولا تُمَثِّلُوا ولا تَقْطَعُوا شَجَرَةً إِلَّا أَنْ تُضْطَرُّوا إِلَيْهَا»(16).
(1) ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج 1، ص 414.
(2) مستدرك الوسائل، الشيخ الطبرسي، ج 16، ص 319.
(3) ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 4، ص 3303.
(4) www.arabic.Khamenei.ir
(5) من لا يحضره الفقيه، الشيخ الصدوق، ج 4، ص 5.
(6) ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج4، ص 3302.
(7) المصدر نفسه.
(8) مكارم الأخلاق، الشيخ الطبرسي، ص 126.
(9) ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 2، ص 1597.
(10) كنز العمّال، الهندي، ج 15، ص 953-954.
(11) مستدرك الوسائل، مصدر سابق، ج 5، ص 75.
(12) تفسير العياشي، العياشي، ج 2، ص 86.
(13) وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 19، ص 39.
(14) الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص 264.
(15) ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج 3، ص 2131-2132.
(16) الكافي، مصدر سابق، ج 5، ص 30.