الشيخ د. محمّد باقر كجك*
العبادةُ فنُّ تربيةِ الإنسان في كلّ مراحل عمره وتطوّر تكوينه النفسيّ والجسديّ والمعنويّ، كي يصبح أكمل فيكون أجمل. لذلكَ، نفهم ذلك التأكيد الكبير على مفهوم التكامل في التربية، وخصوصاً العباديّة منها، والتي يزخر بها الدين الإسلاميّ بأنواعها وأصنافها الكثيرة؛ لأنّ باطنها الحقيقيّ هو ذلك الرشد والتسامي الجماليّ نحو الجمال الإلهيّ المطلق.
* الجمال يجذبنا
إنَّ نظرة الإنسان المتأملة في هذا الكون العظيم، الذي خلقه اللّه تعالى بأبدع ما يكون، تجعله يرى الجمال بعدّة معانٍ ومشاهد، وبعدة رتب، وبعدّة مظاهر؛ كالنظام والتناسب والتناسق واللطف والارتباط والعظمة والإبداع...، كلّها مظاهر تدفع للاعتقاد بارتباط قضيّة الجمال بالفعل الإلهيّ الذي يُظهر صفات اللّه تعالى. فالجمال بهذا اللحاظ، هو كلّ هذا الوجود الذي يعكس كمال الفعل الإلهيّ المنزّه عن النقص-بحسب تعريف الإمام الخميني قدس سره- وهذا النوع من النظر إلى «الجمال» يعكس ضمناً المدرسة الإيمانية والرؤية الجمالية التي بشّر بها سيد المرسلين صلى الله عليه وآله وسلم، كما نجد ذلك في قوله تعالى: (فَتَبَارَكَ اللّه أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ) (المؤمنون: 14)، وقوله تعالى: (بَدِيعُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) (البقرة: 117).
* لمَ يجذبنا الجمال؟
لذلك، يشعرُ أيّ إنسان فينا، بذلك الانشداد الطبيعيّ و"الغَرَزيّ" نحو الأمور الجميلة، وهو ما نصطلح عليه بالانجذاب الفطريّ نحو الجمال. وهذا أمر منسجم تماماً مع التكوين الإلهيّ للإنسان. فاللّه الذي هو أحسن الخالقين، خَلَقَ الانسان في «أحسن تقويم»، لذلك ينشدّ الإنسان إلى الجمال حوله؛ لأنّه مخلوقٌ مثله من عجينة الإبداع الربانيّ نفسها. كأنّ هذا الجمال المنتشر في العالم الماديّ بكلّ ما فيه من جزئيات وتناقضات صارخة أحياناً، وكذلك في العالم المعنويّ وما تنطوي عليه النفس البشرية وعالم الروح والغيب من أسرارٍ وحقائق تدهش الإنسان، كأنّ هذا كلّه عبارةً عن أطراف من المغناطيس ينجذب بعضها إلى بعضها الآخر. وتكون هذه القدرة عند الأطفال جليّة واضحةً أكثر، لكون الطفل أقرب في تكوينه المعنويّ إلى الفطرة التي فطره اللّه عليها، وإن كان لا يمكن له إدراكُ كلّ هذا الجمال بتفاصيله وأنواعه ومراتبه.
ولذلك أيضاً ينجذب أكثر الناس إلى مظاهر بسيطة من الجمال "المادّيّ"، لكن قليلٌ منهم يشعر بالانجذاب إلى المظاهر العميقة من الجمال؛ بسبب تأخّرهم في إدراك الجمال في ذلك البُعد فقط.
* العلاقة مع اللّه: روح الأسرة
من الأمور المهمّة التي تشكّل في حقيقتها وجوهرها روح الأسرة، والتي تميّز مجتمعنا وبيئتنا وثقافتنا الإسلاميّة، هي علاقتها مع اللّه سبحانه وتعالى القائمة على الاعتراف بأنَّه عزّ وجلّ هو الخالق والرَّازق، مضافاً إلى بقيّة أسماء اللّه الحسنى وصفاته، التي تجسّد أجمل القيم التي نؤمن بها وأسماها وأعظمها. أمّا كلّ القيم والسلوكات الأخرى التي يلتزم بها الإنسان في حياته الفرديّة والأسريّة والاجتماعيّة، فإنّما تنشأ من قيمة العبوديّة للّه سبحانه وتعالى. وهذا ما يضعنا أمام احتمالَين: فإمّا أن تكون العبوديّة للّه عزّ وجلّ في أعلى سلّم القيم، أو أن تكون قيمة أخرى مكانها. وإذا رجح الاحتمال الثاني، فستكون العبوديّة للّه سبحانه وتعالى راجعة للقيمة المرتبطة به، وهنا المشكلة.
عندما ندخل إلى فضاء الأسرة، وخصوصاً في هذا العالم المعاصر، ونحن أمام سطوة وسائل التواصل الاجتماعيّ والإنترنت المفتوح على احتمالات كبيرة، وأيضاً على مستوى التقدّم الذي تحرزه بعض الجهات في هذا العالم الواسع فيما يتعلّق بثقافة الأسرة وروحها وفضائها المعنويّ، نجد أنّ الأسرة في الكثير من الدول وتحديداً في العالم الغربيّ، تتعرّض إلى عمليّة تفتيت ممنهجة تحت عوامل متنوّعة؛ فنجد مثلاً قيمة حضور الأب والأم، والعلاقة بين الزوج والزوجة، وعلاقة الطفل بأهله، أي هذه الروابط التي شكَّلت عبر التاريخ أهمّ الأسس التي أدّت إلى نجاح الأسرة، قد تعرّضت إلى تهديد من جهات كثيرة تعمل في الليل والنهار على إعادة برمجة الأسرة اعتماداً على مستوى معرفيّ وقيميّ وسلوكيّ محدّد، ووفق منظومة القيم الفردانيّة والماديّة الغربيّة، التي تجعل لبّ الأسرة ومحورها هو الفرد، فتسود نتيجة ذلك منظومة من القيم والسلوكات والأهداف التي تعزّز من حضور الأنا الفرديّة.
أمّا نحن في علاقتنا مع اللّه سبحانه وتعالى، فالأمر مغاير تماماً؛ إذ لا نزال نعتبر أنّ فكرة العبوديّة له جلّ وعلا أمرٌ يعزّز ثقافتنا وقيمنا، لا بل هي أصل وجودنا. لذلك، فإنّ إشاعة روح العبوديّة للّه تعالى هي ميزة نختصّ بها كمجتمع مسلم، فينبغي أن نفتخر بها في ظلّ هذا التخلّف القيميّ والعاطفيّ والسلوكيّ السائد في العالم.
* أسس التربية العباديّة
تقتضي التربية الإلهيّة أن يقوم أفراد الأسرة بإشاعة روحِ العبوديّة للّه سبحانه وتعالى. وهذه الفكرة قائمة على أربعة أسس:
- الأول: معرفة اللّه سبحانه وتعالى: إنّ معرفة اللّه سبحانه وتعالى تعني معرفة أجمل موجود في هذا الوجود. من هنا، فإنّ العلاقة مع اللّه عزّ وجلّ بناءً على هذه المعرفة المتراكمة تقتضي معرفة صفاته تعالى، وأسمائه، وأفعاله، وهذا ما يفرض على الإنسان أن يرتبط به تعالى عبر معرفة متراكمة وهو يعيش داخل أسرته.
إنّ واحداً من الأمور الخاطئة التي يقع فيها الكثير من الأسر الناشئة، هو عدم ممارسة هذا النوع من المعرفة على مرّ أيّام وشهور وربّما سنوات، بحيث لا يكون ثمّة تقدّم ملحوظ في «نوعيّة» المعرفة باللّه سبحانه وتعالى. ونحن نعرف أنّ العبادة مبنيّة على المعرفة، لأنّ الإنسان لا بدّ من أن يعبد ما يعرفه، أو من يعرفه. فلذلك، إذا لم تتطوّر المعرفة، فلن تتطوّر العبادة.
- الثاني: محوريّة البُعد الجماليّ في التربية العباديّة: إنّ التركيب المعقّد للإنسان، من مادة وروح، وملكٍ وملكوت، وباطن وظاهرٍ، تجعل عمليّة الوصول إلى الكمال تحصل بشكلٍ دفعيّ وتدرّجيّ بتدرّج السلوك العباديّ، وهذا ما يحتاج أيضاً إلى جاذبيّة جماليّة دائمة. يقول الإمام الخمينيّ قدس سره: «اعلم أنّ الإنسان مفطور على حبّ الكمال والجمال وحبّ اللّه والتوجّه إليه»(1).
- الثالث: شروط العبادة وآدابها: بما أنّ العبادة هي الوسيلة الوحيدة للبلوغ إلى الكمال، فإنّ نجاحها في إيصال الإنسان إلى هذا الهدف مقيّد بشروط وضعها اللّه تعالى؛ لأنّ الطريق نحوهُ جلّ وعلا طريق إلهيّ بالكامل: إنّا للّه وإنّا إليه راجعون. لذلك، فكلُّ عبادةٍ من العبادات التي يرتبط بها الإنسان وجوباً أو استحباباً، لا بدَّ من أنْ يؤدّي حقّها من الشروط والآداب الخاصّة بها؛ فالمعرفة، والنيّة، والتفكّر، والتدبّر، وانعكاسُ العبادةِ على تهذيب النفس وخدمةِ الخلقِ، وإمكانِ جعل كلّ الأفعال والأعمال عباديّةً، والتماهي الدائم مع الأحكام الشرعيّة الظاهريّة، والتمسّك بالعبادةِ بشرطِ الولاية للّه ورسوله وأهل بيته الطاهرين عليهم السلام، وغير ذلك من جملة الآداب التي تُذكر عادة، هي أمورٌ لا بدّ من أن يلتفتَ إليها الإنسان في سيره وسلوكه الدائب إلى اللّه تعالى.
- الرابع: الدافعيّة إلى العبادة: إنّ العبادة داخل الأسرة تعني أنّ ثمّة مجموعة من الأفراد يقومون بأفعال وشعائر وسلوكات عدّة تدلّ على الحبّ للّه، وللرسول صلى الله عليه وآله وسلم، ولأهل البيت والأنبياء عليهم السلام، وللقرآن، وللإنسان، وللطبيعة؛ إذ إنّ المفاهيم العباديّة التي علّمنا إيّاها الإسلام تؤكّد أنّ الإنسان يعبد اللّه سبحانه وتعالى من باب الحبّ والمعرفة. لذلك، فإنّ الانتماء له عزّ وجلّ، كما ورد في القرآن الكريم، هو انتماء بالحبّ والرحمة، كما تقول هذه العبارة من الآيّة الكريمة: (وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ) (الفرقان: 63)، وهذا يعني ربط العبادة بصفة اللّه (الرحمن).
لذلك، إذا كانت الصلاة التي يؤدّيها الأب أو الأم أو الأولاد قائمة على التّماس والتواصل مع اللّه سبحانه وتعالى، من منطلق أنّه رحمان، فهي عندئذ عبادة رحمانيّة، ويكون بالتالي الصوم رحمانيّاً، وقراءة القرآن رحمانيّة، والدعاء رحمانيّاً؛ وهذا يعني أنّ الإنسان الباحث عن رحمة اللّه سبحانه وتعالى بحاجة إلى هذه الأمور: المعونة، والمساعدة، واللطف، والدعم، والمعرفة المتراكمة.
فالأسرة التي تقوم بالعبادات المتنوّعة وتربّي نفسها على العبوديّة للّه وممارسة الأفعال العباديّة المتنوّعة، تُشيع الأمن النفسيّ داخل البيت وبين أفراد الأسرة؛ فالأب العابد مثلاً، يُتوقّع منه اللطف والرحمة، والأمّ العابدة التي تمارس العبادة للّه سبحانه وتعالى، لا يُتوقّع منها أن تظلم، أو تطغى، أو تقصّر في أمرٍ ما، أو تسيء إلى أحد. وكذلك الأطفال، إذا تربّوا على العبادة منذ الصغر، لا يُتوقّع منهم إلّا أن تكون سلوكاتهم متوائمة مع العبادة.
جاء عن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: «ويلٌ لأطفال آخر الزمان من آبائهم، فقيل: يا رسول اللّه، من آبائهم المشركين؟ قال: لا، من آبائهم المؤمنين، لا يعلّمونهم شيئاً من الفرائض، وإذا (تعلّم) أولادهم منعوهم، ورضوا منهم بعرَضٍ يسير من الدنيا، فأنا منهم بريء، وهم منّي براء»(2). هنا، يؤكّد الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم على ضرورة تعليم العبادات والفرائض للأطفال. ونحن نعلم أنّ الطفل إذا أراد أن يتعلّم الفريضة والعبادة، علينا أن نرفع من مستوى معرفته ووعيه بأهميّة هذه العبادة، وأن نعلّق قلبه بها وندلّه بسلوكنا على كيفيّة ممارستها، كي ينشأ بشكل سليم وينتقل إلى المجتمع وهو مزوّد منذ طفولته بأهمّ الأسلحة والدفاعات والقوى المناسبة؛ أي سلاح المعرفة والحبّ والالتزام. وهذه الأسلحة الثلاث هي التي ستجعل منه إنساناً قويّاً، مهما كان وضعه ومكانته في المجتمع مستقبلاً.
* كاتب وأستاذ جامعي، باحث في مركز الأبحاث والدراسات التربوية.
(1) مئة كلمة عرفانية للإمام الخميني قدس سره، موقع مجلة بقية الله.
(2) مستدرك الوسائل، الشيخ الطبرسي، ج 15، ص 164.