سكينة حسن*
﴿سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النور: 1). بهذه الكلمات المباركة تُفتتح سورة النور لتبيّن لقارئها بادئ ذي بدء أنّ القرآن الكريم هو القانون الذي فرضه الله على عباده، وأنّ فيه أحكاماً أوجد تعالى جذورها في فطرة الإنسان، ويحتاج تذكّرها إلى الوعظ كي ينكشف حجاب الغفلة عنها(1).
* لصلاح المجتمع
تؤكّد آيات السورة المباركة أنّ لإقامة الحدود وتطبيقها أثراً في صلاح المجتمع وأفراده، لكنّه غير كافٍ من دون إيجاد بيئةٍ اجتماعيّة سليمة من خلال تربية الأفراد وفق التعاليم الإسلاميّة الصحيحة الممزوجة بالأدب الأخلاقيّ والعاطفيّ.
ومن الواضح أنّ السورة تؤسّس للوقاية من الذنوب، وتعمل على منع الفحشاء والبلوغ المبكر، وحفظ الحرمة والحياء والكرامة من خلال الأحكام والأوامر الإلهيّة(2). ويلاحظ أنّ في طيّات الآيات الكريمة إشارة إلى مسؤوليّة الوالدين في غرس التعاليم الصحيحة في الأبناء: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ﴾، ولو كانوا غير بالغين: ﴿وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ﴾ (النور: 58)، فمن الضروريّ البدء بتربيتهم وتعليمهم الآداب الإسلاميّة قبل مرحلة البلوغ.
لا شكّ في أنّ هذه السورة تحوي آداباً تربويّةً كثيرة لا يمكن إحصاؤها في مقال واحد، ولكن يمكن الإشارة إلى شيءٍ منها، ولو بشكلٍ مقتضب.
* أدب الاستئذان لدخول بيوت الآخرين
يتعلّم الأولاد من خلال ذويهم الأحكام الأولى والآداب الأساسيّة للمعاشرة في منازلهم. من هنا، لا بدّ للآباء من تعليم الأبناء ضرورة نيل موافقة أصحاب المنزل قبل الدخول من خلال الاستئذان اللطيف، وفيه آداب:
1.الاستئذان بأدب: أي من دون صراخ ولا قرع عنيف للأبواب، ولا عبارات حادّة. ولا داعي للانزعاج إذا لم يُؤذن بالدخول، فلصاحب المنزل أسبابه، فلا يعمدنّ الإنسان إلى استراق السمع، أو التجسّس من خلف الأبواب.
2. عدم استقبال الباب: أي عدم الوقوف مقابل الباب مباشرةً عند طرقه؛ كي لا ينكشف على من في داخله إذا ما فُتح الباب، فقد رُوي أنّ النّبي صلى الله عليه وآله وسلم كان إذا أتى باب قومٍ لم يستقبل الباب من تلقاء وجهه، ولكن من ركنه الأيمن أو الأيسر(3)؛ بمعنى أنّه كان يقف جانباً فلا يرى ما في داخل المنزل حين يُفتح الباب، فإنّ للأحكام الإسلاميّة آداباً خاصّة في هذا المجال على الأهل تلقينها للأبناء، خصوصاً البالغين منهم؛ لتصبح جزءاً من أخلاقهم.
3. أخذ الإذن على ثلاث دفعات: حتّى تتاح لأهل البيت الفرصة لإعداد أنفسهم، فعن أبي عبد اللّه الصادق عليه السلام أنّه قال: «الاستئذان ثلاثة: أوّلهنّ يسمعون، والثانية يحذرون، والثالثة إن شاؤوا أذِنوا وإن شاؤوا لم يفعلوا فيرجع المستأذن»(4). فإذا حصل الإذن، دخل مسلّماً سلام لطفٍ ومحبّة، فالتحية أدبٌ سماويّ يؤثّر على خير البيت وبركة الحياة: ﴿تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً﴾ (النور: 61).
* الاستئذان عند الدخول على الوالدَين
إنّ لمسألة إرشاد الأبناء، البالغين وغير البالغين، للاستئذان قبل دخول غرفة الوالدين أهميّةً خاصّة في المحافظة على عفّة الأبناء وحيائهم وإنباتهم نباتاً حسناً، وفيها تعليمٌ لهم لاحترام خصوصيّة الوالدين.
فالمخاطَب بهذه الآية الكريمة: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ وَالَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنكُمْ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ مِّن قَبْلِ صَلَاةِ الْفَجْرِ وَحِينَ تَضَعُونَ ثِيَابَكُم مِّنَ الظَّهِيرَةِ وَمِن بَعْدِ صَلَاةِ الْعِشَاء﴾ (النور: 58) هم أولياء الأطفال الذين تقع على عاتقهم مهمّة إيصال هذه المفاهيم لصغارهم الذين لمّا يبلغوا سنّ التكليف بعد. وترشدنا الآيات الكريمة أيضاً إلى أنّ الواجب على الأطفال البالغين الاستئذان عند دخول غرفة الوالدَين. أمّا غير البالغين، الذين ما زالوا يرتبطون ارتباطاً وثيقاً بآبائهم، فلا بدّ من تعليمهم عدم الدخول من دون استئذانٍ، على الأقلّ في أوقات راحة الوالدَين وخلوتهما، فإنّه من المعلوم حساسيّة الأطفال بالنسبة إلى القضايا الخاصّة بالوالدين، وقد يؤدّي إهمال هذه الآداب إلى انحرافاتٍ أخلاقيّة أو مشاكل نفسيّة(5).
لذلك، من الضروريّ التعاطي بجدّيّة مع مثل هذه المسائل وتعويد الأولاد على هذا الأدب الإسلاميّ الذي أفرد له القرآن الكريم مساحةً خاصّة. كما يجب على الأهل تجنّب النوم في الغرف التي ينام فيها الأبناء المميّزون، قدر الإمكان، وليعلموا أنّ هذه الأمور تؤثّر كثيراً على الأطفال من الناحية التربويّة، ففي البيت يتلقّى الأبناء دروسهم الأولى في العفّة والطهارة(6).
* إلقاء التحيّة على النفس
أحد الآداب التي تذكرها سورة النور وتعدُّ لافتةً للإنسان، ولإظهار قدر كبير من الاحترام لكرامته الإنسانية، استحباب أن يلقي تحية السلام على نفسه إذا ما دخل منزلاً خالياً من الناس، سواء كان منزله أم لا، قال تعالى: ﴿فَإِذَا دَخَلْتُم بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِّنْ عِندِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُون﴾ (النور: 61). وفيه دلالة على أصل بثّ السلام والسكينة في حياة الإنسان، حتى لو لم يجد أحداً يلقي عليه السلام(7)، فنفسه جديرةٌ بذلك.
* إنشاء علاقة مميّزة مع الأقارب
إنّ ما يجب أن يميّز المجتمع الإسلاميّ هو العواطف الإنسانيّة، خصوصاً بين الأهل والأقرباء والأصدقاء. والمطلوب من الوالدين أن يلقّنوا أبناءهم منذ نعومة أظفارهم، بالأقوال والأفعال، أنّ العلاقات العائليّة أسمى من الأمور الماديّة، فأفراد المجتمع الإسلاميّ الحقيقيّ لا مكان بينهم للبخل وحبّ الذات وما شابه، بل تسود بينهم الخصال الحسنة وتحكمهم الروابط الإنسانيّة والعاطفيّة. من هنا، أجاز القرآن الكريم، وبشروطٍ معيّنة، الأكل في بعض المنازل دون استئذان، من قبيل منازل الآباء والأمّهات، والإخوان والأخوات، والأعمام والعمّات، والأخوال والخالات، قال تعالى: ﴿ولَا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَلَا عَلَى أَنفُسِكُمْ أَن تَأْكُلُوا مِن بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبَائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوَانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَوَاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمَامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوَالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خَالَاتِكُمْ أَوْ مَا مَلَكْتُم مَّفَاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَأْكُلُوا جَمِيعًا أَوْ أَشْتَاتًا﴾ (النور: 61).
إنّ هذا الحقّ الذي منحه تعالى للمؤمنين يدلّ على أهميّة العلاقات الأسريّة والعاطفيّة بين الأقارب النَّسَبيّين، وهو أدبٌ من الآداب الاجتماعيّة التي يقرّها الإسلام، فالعمّ والخال والعمّة والخالة... جميعهم يجب أن تكون العلاقة معهم متينة، وهذا ما ينبغي حثّ الأبناء عليه، لا على العلاقات الماديّة والمفاهيم الخاطئة من الحقد والحسد والغيرة، فاللّه تعالى هو الذي يرسم حدود الحقوق: ﴿وَيُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ﴾ (النور: 18)، وهو الذي أوصى بهذه العلاقة وأعطى هذا الإذن بالتصرف، رغم تشدّده في موضوع التصرّف بأموال الآخرين(8).
* وصيّةٌ تربويّة في متابعة الأولاد
تخاطب سورة النور المؤمنين: ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَمَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَالْمُنْكَرِ﴾ (النور: 21)، لا يمكن للشيطنة جرّ أيّ إنسانٍ إلى الفساد دفعةً واحدة؛ بل تسحبه خطوةً خطوة، من خلال:
1. مرافقة المنحرفين.
2. مشاركتهم مجالسهم.
3. تقبّل الذنوب والتفكير فيها.
4. ارتكاب الأعمال المشبوهة.
5. ارتكاب الذنوب الصغيرة.
6. الابتلاء بالكبائر(9).
فهذه هي خطوات الشيطان التي تبدأ من أبسط الأمور، وهي الصحبة؛ لذا فمن مسؤوليّة الآباء بالدرجة الأولى، أن يكون اختيار أبنائهم لرفاقهم موضع نظرهم وعنايتهم. ثمّ إنّه من البديهيّ أن يتمكّن الآباء، الذين يتابعون أبناءهم ويهتمّون بكلّ تفاصيلهم، قراءة أيّ تغيير في سلوكهم وتحديد المرحلة التي وصلوا إليها، وهذا ما لا يستطيعه أحدٌ سواهم. من هنا، تكمن مسؤوليّتهم في متابعة أبنائهم وإرشادهم وتقويم سلوكهم في كلّ مرحلة يعيشونها.
*باحثة إسلاميّة.
(1) يُراجع: تفسير النور، الشيخ قراءتي، ج 6، ص 124.
(2) يُراجع: المصدر نفسه، ص 188.
(3) يُراجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، الشيخ مكارم الشيرازيّ، ج 11، ص 68.
(4) تفصيل وسائل الشيعة إلى تحصيل مسائل الشريعة، الحرّ العامليّ، ج 20، ص 219.
(5) يُراجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج 11، ص 161.
(6) يُراجع: تفسير النور، مصدر سابق، ج 6، ص 191.
(7) عن الإمام الباقر عليه السلام إذا دخل الرجل منكم بيته، فإن كان فيه أحد يسلم عليهم، وإن لم يكن فيه أحد فليقل: السلام علينا من عند ربنا، يقول الله: (8) «تحية من عند الله مباركة طيبة». بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج 72، ص 3.
(9) يُراجع: الأمثل في تفسير كتاب الله المنزل، مصدر سابق، ج 11، ص 166.
(10) يُراجع: المصدر نفسه، ج 11، ص 56.