تحقيق: فاطمة شعيتو حلاوي
معدنه من ذهبٍ وحدّته كالسّيف القاطع. لا هوادة في سير عجلاته، ولا مفرّ من اللحاق بركب عُجالته. هو عقربٌ إن لم نتقِ شرورَه، وبلسمٌ إن راقبنا بحذرٍ مرورَه. إنّه الوقت، نتقاسم وإياه رغيف الحياة، ونبقى رهائنه منذ الولادة حتى الممات. لا يضرّه إن رضينا به رفيقاً أو سجّاناً، فهو كالسحاب، يمرّ معلّقاً مصائرنا بزوّادة جوفه: فإمّا فلاحٌ وعمل، وإمّا خيباتٌ وفشل! لم يعُدِ الوقت اليوم أسيرَ أدواته المُعتادة، فهو امتشق سلّم العقارب التقليدية، قافزاً صوب الشاشات الحديثة، ليتلبّس تفاصيل الأرقام بالساعات والدقائق والثواني. نظرةٌ مُقتضبة إلى يومياتِ إنسانٍ معاصر توضح المقصد: الساعة الرقمية على شاشة الحاسوب أو شاشة "الموبايل" باتت رفيقَ النهار والليل. أمّا ساعة المعصم التقليدية، وإن ما زالت تحتفظ بشرائحَ من جماهيرها، فتعاني اليوم هجراناً ملحوظاً، وبطالةً تعزّز تداعياتها "البطاريات" الفارغة!
فهل باتت "رقمنة الوقت" سمة لامعة من سمات العصر الحديث وأهله؟ هل يتغيّر مفهوم الوقت مع تعاقب الأجيال؟ ولماذا يتخلّى شباب اليوم عن الوسائل التقليدية لتحديد الوقت والتعاطي معه؟ هنا عودةٌ إلى الوراء تكمنُ في خباياها الإجابات.
*تطوّرت الأدوات.. والوقت واحد
لقد اعتمدت الحضارات القديمة على ملاحظة الأجرام السماوية، كالشمس والقمر، لقياس مرور الوقت وتحديد التواريخ والفصول. وتُعتبر الساعة الشمسية أو "المِزْوَلة" من أقدم أنواع الساعات، وهي تقيس الوقت بطول الظل الساقط على الأرض. وعلى الرغم من دقّة ساعات الظلّ هذه، إلّا أنها كانت عديمة الفائدة ليلاً وفي الطقس الغائم.
وبرع المسلمون في صناعة الساعات التي تعمل بالماء والرّمل والزّئبق والأثقال المختلفة، واخترعوا الساعات الشمسيّة النقالة، ساعة الرحلة، والساعة الشمسية المنبّهة، التي عُرفت بـ"الرخامة".
مع مرور الزمن، طوّر الإنسان الساعات: الشمعية، الساعات ذات الموازين، الساعات الميكانيكية، الساعات البندولية، وصولاً إلى ساعات اليد التي استُخدمت أوّلاً كسوارٍ نسائي. غير أن الساعاتي الفرنسي لويس كارتييه صمّم أوّل ساعة يدٍ رجالية تصلح للاستخدام العملي. وزادت شعبية ساعات اليد خلال الحرب العالمية الأولى، عندما وجدها المتحاربون أكثر ملاءمة من ساعات الجيب إبّان المعارك.
كانت الساعات الأولى ذات ذراعٍ أي "عقرب" واحد فقط. وفي أواخر القرن السابع عشر الميلادي، تم تزويد العديد من الساعات بعقارب الدقائق. أما عقارب الثواني، فلم تشعْ إلا في القرن العشرين.
في سبعينات القرن الماضي، شاع استخدام الساعات الرقمية، أي تلك التي تُظهر الوقت بالأرقام، لا سيّما منها ساعات المعصم. وتدخل الساعات الرقمية الذكية حالياً عالم المنافسة بقوة، إذ إنها تختصرُ حاسوباً بحجم ساعة يدٍ عادية.
*مرهونون نفسيّاً للوقت!
إذاً، تطوّرت وسائل معرفة الوقت وتحديده من زمن إلى آخر، واقترن ذلك بإدراك متنامٍ لأهميته. فالوقت هو أصل الحياة وهو عنصرٌ أساسي من الموارد المتاحة للإنسان لعيشٍ سليم، ومقياسٌ لتحقق الأمور وتقويم نجاحها، بحسب الاختصاصي النفسي والاستشاري التربوي الأستاذ محمود غنوي، الذي يوضح أن كلّ فئة أو إثنية في العالم تنظر إلى الوقت وِفْق خلفيتها وثقافتها وعقيدتها.
أمّا من حيث المنظور الديني الإسلامي، فيقول الأستاذ غنوي: إن الله عزَّ وجلّ جعل الأعمال العبادية مرتبطة بالوقت، ويُقاس ثوابها بحسب توقيت الأداء، من صلاة وصوم وزكاة وحجّ. أضف إلى ذلك أنّ أحكام المعاملات مرتبطة، أيضاً، بالوقت، كالطلاق والإرث والوصيّة وغيرها. ويستدلّ غنوي على ذلك بآياتٍ مباركة من القرآن الكريم، كقوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ﴾ (البقرة: 189)، و﴿الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَّعْلُومَاتٌ﴾ (البقرة: 197).
ويُجمل غنوي بالقول: إن النفس الإنسانية مرتبطة بالوقت، وكلّ بعد من أبعادها محكوم بحركته. فكما توجد داخل كلّ فرد ساعة بيولوجية توقظه لتلبية حاجاته الأساسية، فإنّ الحركة النفسية محكومة بالتواتر الزمني، الذي يؤدي دوراً أساسياً في تمييز نمط السلوك السويّ من غيره، وفي ضبط حركة النفس، وتقويم معايير النضج النفسي والانفعالي.
بيد أنّ علاقة الناس بالوقت، اليوم، باتت رقميّة بامتياز، والدليل الأبرز هو استبدال الساعات التقليديّة بالرقمية التي توفّرها التقنيات الحديثة، كساعات الحواسيب والهاتف المحمول والتلفاز وغيرها.. إننا نعيش باختصار عالم تكنولوجيا المعلومات ومخاض السرعة العالية التي ارتبطت بتعقيدات الحياة المختلفة، فماذا يقول أبناء العصر الرقمي عن ذلك؟
*ساعاتُ العقارب.. مجرّد زينة
توضح سكينة (23 عاماً) أنها تخلّت نهائياً عن ساعة اليد منذ أن امتلكت هاتفاً محمولاً قبل خمس سنوات، تحمله أينما ذهبت، على اعتبار أن الساعة الرقميّة التي يوفّرها "الموبايل" أكثر دقة من الساعة التقليدية ذات العقارب التي بات يلجأ إليها جيل اليوم "كمجرد أداة للزينة".
وتعتقد سكينة بقدوم اليوم الذي تتخلّى فيه الأجيال الصاعدة نهائياً عن ساعات المعصم. هذه الفكرة ترتاد أيضاً ذهن محمد (16 عاماً)، فهو لم يحمل الساعة التقليدية يوماً، واستعاض عنها بساعة الهاتف المحمول الذي اشتراه له والده منذ ثلاثة أعوام، وهو يستعين أحياناً بساعة حاسوبه اللوحي.
أمّا نسرين (24 عاماً) فتقول: إن إحدى زميلاتها وجدت نفسها "مضطرة" لأن تضع حول معصمها ساعةً "منتهية البطارية"، فقط لأنّ لونها يتلاءم وألوان ثيابها، معتبرة أن معظم أبناء جيلها لم يعد يحبّذ استخدام الساعات التقليديّة سوى لمحاكاة الموضة.
وتنسى ملاك (21 عاماً) أحياناً أن تلبس ساعتها، فتستعيض عنها بساعة هاتفها المحمول. وترى أن أهميتها تظهر جليّاً وقت الامتحانات الدراسية، حيث يحكم الوقت مصير الطالب بالنجاح أو الفشل.
وفي هذا المعرض يُطرح سؤال: أينَ يقفُ تجّار وبائعو الساعات من التحدّي القائم راهناً بين التقليد و"العصرنة"؟
يؤكد محمد (21 عاماً) أنه نجح في إقناع صاحب متجر الساعات والهدايا الذي يعمل لديه بأن ينقل الساعات التقليدية المعروضة في الواجهة إلى زاوية أخرى داخل المتجر، واستبدالها ببضاعة أخرى. يقول محمد: "الساعات العادية لم تعد تستهوي الزبائن، لا سيّما الشباب منهم".
ويشير إلى أنّ نسبة بيع هذه الساعات انخفضت مع ميلِ الناس إلى الاعتماد على الساعات الرقميّة التي توفّرها التقنيّات الحديثة، لاسيّما الهواتف المحمولة، باستثناء من يقصد شراءها، وغالباً ما يكون ذلك تلبيةً لصيحات الموضة وزينتها الملوّنة.
وعن الغايةِ المرجوة من ساعة رقميّة يضعها حول معصمه، يقول محمد: "إنها انعكاسات الموضة ليس أكثر".
قد يبدو بارزاً تشابه الآراء لدى الشباب دون الثلاثين عاماً، لناحية تفضيل الساعات الرقميّة على سواها، وإن كان العمرُ لا يشكّل مقياساً دقيقاً في هذا الإطار. فماذا عن جماهير الساعات التقليدية؟
*روتين يومي وصديقٌ وفيّ
يقول علي (30 عاماً) إنه لا يمكنه تصوّر انطلاقة يومه دون ساعة اليد التي اعتاد أن يلبسها منذ سنوات الدراسة، ويؤكد أنها "جزء لا يتجزأ من روتينه اليومي"، وأنه مرتبطٌ بها نفسيّاً، فإذا ما نسيها ذات يوم في المنزل، عاد مُسرعاً لإحضارها مهما كلّف الأمر.
يوافقه إبراهيم (32 عاماً) الرأي. فساعة اليد، بحسب قوله، "تنظّم" الحياة اليومية، وإذا ما اعتاد الفرد عليها، فهو لن يستغني عنها مُطلقاً، إنها "الصديق الوفي الذي لا يكذب إلا إذا خانته عقاربه أو نفدت البطارية التي تمدّه بأسباب الحياة".
وبينما لم تستطع سوسن (40 يوماً) حتى اليوم أن تعير اهتماماً لساعة هاتفها المحمول بقدر ساعة اليد التي ترافقها منذ زمن، تنفي منال (39 عاماً) حاجتها الملحّة إلى ساعتي اليد والموبايل على حدّ سواء، فهي تسترق النظر من وقت إلى آخر إلى ساعات الحائط المعلّقة على جدران منزلها، كونها ربّة منزل "بامتياز"، لافتة إلى أنها لا تلبس ساعة يد أهداها إياها زوجها إلا "في المناسبات".
*بحثاً عن نمط حياةٍ عصري!
وسط الصراع "المستتر" القائم بين توارث الساعات التقليدية وتصاعد نفوذ الساعات الرقمية، يعزو الاختصاصي النفسي الأستاذ محمود غنوي رفض بعض الشباب لبس الساعات التقليدية إلى خروج هؤلاء عن النظام ورغبتهم الجامحة في المضيّ بنمط حياة معيّن دون الاعتماد على الوقت، أي إنّهم يحاولون التحرر من سجن الوقت. وفي المحصّلة، قد ينتج أحياناً عن هذا السلوك شبابٌ على هامش الوقت، ومن ثمّ على هوامش النجاح والعمل والحياة، حيث الفوضى تحكم كلّ شيء. وربّما ينمّ ذلك عن مؤشّر مرَضي، ففقدان الاهتمام بالوقت أمر خطير، لا سيّما إذا استقل الفرد عن زمنه وعاش في زمن خاصّ به، ما يستوجب العلاج.
ويوضح غنوي أنه قد يظهر، في المقابل، نمط سلوكي آخر يحكمه "وسواس الوقت"، الذي ينبثق عن انغماسٍ مبالغٍ فيه في نظم الوقت وخوفٍ من عدم تحقّق الأمور، ما يدفع الفرد إلى الإفراط في وجود أدوات معرفة الوقت من حوله. وهكذا، يعيش الإنسان في دائرة زمنية لا يستطيع الخروج منها إلّا عند المرض أو العجز أو الشيخوخة أو الوفاة.
وفي المحصّلة، يؤكد غنوي أن الوقت أصبح من أهمّ الموارد المتاحة التي تستوجب الحفاظ عليها واستثمارها، ليبقى مفهوم "الوقت كالسيف إن لم تقطعه قطعك" مستمراً مهما تعقدت طرق الحياة وتسارعت أنماطها، لذا "علينا تعلّم إدارة الوقت بفعالية لنحسن السباحة والاصطياد في محيط الأعمال في العصر الحديث، عصر الوقت المحدود".
*جزءٌ من حياتنا
رقميّةً كانت أم ذات عقارب، تبقى الساعة جزءاً ليسَ يُغفل عن وجوده في يومياتنا. ومهما نجحت تكنولوجيا العصر في تقليص حجمها وتبديل شكلها، فإنّها مؤشّرٌ حتميّ على مرور الوقت المتحكّم بأعمارنا دونما أي قدرةٍ بشرية على كبح جماحه. فمسيرُ الأرقامِ لن يتوقف إلا إذا تعطّلت الشاشات الحديثة. أما العقاربُ، فلن تعدوَ يوماً إلى الخلف إلا إذا ضعُفت طاقتها، ولكن هل تنقرضُ يوماً؟؟