السيّد الشهيد عبد الحسين دستغيب رحمه الله
- لقد سئمت يا صاحبي من كثرة الشرور والمغريات في هذه الحياة التي تحول بيني وبين معرفة الله!
- وماذا تنوي أن تفعل؟
- أرغب في العزلة واجتناب الناس، فلا يشغلني شيء عن عبادة الله تعالى.
- ومن قال لك إنّ العزلة سبب للإيمان والعلم، والتحلّي بالفضائل والتخلّص من الشرّ؟ ألا تعلم أنّ النفس والشيطان هما منبع كلّ شرّ، وقد يلازمانك حتّى لو كنت في عزلتك؟! وفي ما يأتي إليك الحلّ.
* أعظم العبادات تؤدّى جماعةً
تعدّ العزلة أمراً مذموماً في الإسلام، ولذلك، بارك الله بالجماعة في الكثير من العبادات والحالات، فالصلاة مثلاً، وهي من أعظم الفرائض الإلهيّة، ينبغي أن تؤدّى جماعة، وفي سورة البقرة يأمر الله سبحانه صراحة بذلك: ﴿وَارْكَعُواْ مَعَ الرَّاكِعِينَ﴾ (البقرة: 43)، ويليها الحجّ الذي يجب أن يجتمع له الناس في وقت خاصّ لأدائه مجتمعين. وإذا تأمّلنا جيّداً في الخيرات التي يعود بها التجمّع والاختلاط بالناس، لوجدنا أنّ شيئاً منها لا يتحقّق عن طريق العزلة.
ثمّ إنّ اتّباع من يدّعي مرتبة الإرشاد من فرق الصوفيّة لا يعود على صاحبه إلّا بالضرر والضلال، ذلك أنّ هذا الداعي هو نفسه لم يصل بعد إلى درجة اليقين ولا يزال أسير النفس؛ فكيف لأعمى أن يقود أعمى آخر؟
* ما العمل؟
يجب أن نعلم أنّ الخالق العليم والحكيم الذي يعلم داء عباده ودواءهم، قد أضاء طريق النجاة بواسطة أنبيائه عليهم السلام وأوصيائهم، ولم يترك عباده سدى، بل عيّن لهم واجبات وجعل لكلّ كلمة يقولها الإنسان أو نظرة ينظرها أو لقمة يبتلعها، أو مكان يذهب إليه أو يجلس فيه، أو شخص يتعامل معه، جعل لكلّ ذلك حكماً من الأحكام الخمسة: الحرمة والوجوب والاستحباب والكراهية والإباحة، حتّى التخلّي قد ذُكرت أحكامه في الرسائل العمليّة.
* تطبيق أحكام الدين
على هذا، فإنّ واجب الجميع أن يقدّروا نعمة الله ويشكروها وينعموا بها، وذلك بتعلّم أحكام الدين أوّلاً (بطبيعة الحال ما هو محلّ الابتلاء بالدرجة الأولى) وبعدئذٍ يحملون أنفسهم على تطبيق ما تعلّموه، أي أن لا يفوّت الإنسان المتعلّم واجباً ولا يرتكب حراماً ولا يقصّر في ترك المكروهات وفعل المستحبّات، بمقدار استطاعته.
ومن المؤكّد أنّ الشخص الذي يحيط علماً بأمر الدين ويعمل به، لن يتلوّث لوجوده في هذا المجتمع الملوّث، بل إنّ الأدران الموجودة في نفسه ستزول و"تزكية النفس بإكسير(1) الشرع حتميّة"، بل إنّه ببركة الشريعة المقدّسة لن يجد أمامه إلّا طريق تزكية النفس، وكنموذج نذكر هنا بعض الأحكام:
1. التطهّر خمس مرّات في اليوم والليلة
من الأحكام الإلهيّة الصلوات الخمس في أوقاتها: الصبح والظهر والعصر والمغرب والعشاء، فمن واظب على أدائها أوّل وقتها مراعياً آدابها وشرائطها، وخصوصاً الجماعة، يطهر من الأدران التي تصله من المجتمع بين أوقات الصلاة.
وقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم: "منزلة الصلوات الخمس لأمتي كنهرٍ جارٍ على باب أحدكم، فما ظنّ أحدكم لو كان في جسده درن ثم اغتسل في ذلك النهر خمس مرات في اليوم، أكان يبقى في جسده درن؟"(2).
2. لكلّ واجب أثره الخاصّ
لكلّ من الصلاة والصوم والزكاة والحج وسائر الواجبات، أثره الخاصّ في تزكية النفس وعلاج مرض القلب، وإذا ما أدّى الفرد كلّ الواجبات إلّا واجباً واحداً، فإنّه يُحرم من خاصيّة ذلك الواجب. كما أنّ في ترك كلّ حرام حيلولة دون حصول مرض القلب وتلوّث النفس والابتلاء بعذاب الآخرة.
3. ذكر الموت يطهّر القلب
في القيام بكلّ مستحبّ أيضاً أثر في تزكية النفس ليس موجوداً في المستحبّ الآخر، وهو أيضاً يوجب الثواب والأجر الأخرويّ، وفي تركه حرمان لا يعوّض، مثلاً: من المستحبّات التي هي تزكية للنفس وإزالة للعقبات التي تمنع من معرفة الله، كثرة ذكر الموت. يقول أمير المؤمنين عليه السلام في رسالته لعامله على مصر محمّد بن أبي بكر: "وأكثروا ذكر الموت عند ما تنازعكم إليه أنفسكم من الشهوات، وكفى بالموت واعظاً. وكان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم كثيرا ما يوصي أصحابه بذكر الموت فيقول: أكثروا ذكر الموت فإنّه هادم اللذّات"(3).
4. أكلك ونومك يبعدانك عن مرحلة العشق
إنّ اجتناب المكروهات يحول أيضاً دون تلوّث النفس ومرض القلب، لأنّ من يفعل مكروهاً فسوف يترك ذلك فيه أثراً سيّئاً (طبعاً لا يكون بمقدار أثر الحرام) ويوجب قلّة الأجر والثواب الأخرويّ، مثلاً: من جملة المكروهات التخمة، أي كثرة الأكل وإدخال الطعام على الطعام، هذا فيما إذا لم يكن مضرّاً ضرراً يعتدّ به وإلّا يصبح حراماً، وكذا كثرة النوم وكثرة الكلام، فيما إذا لم يكن الكلام محرّماً وإلّا فإنّ الكلمة الواحدة منه حينئذٍ حرام. يقول تعالى في سورة الأعراف: ﴿وكُلُواْ وَاشْرَبُواْ وَلاَ تُسْرِفُواْ إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾ (الأعراف: 31). وعن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: "عليك بطول الصمت فإنّه مطردة للشياطين وعون لك على أمر دينك"(4). وعنه صلى الله عليه وآله وسلم: "... وأبغضكم إلى الله تعالى كل نؤوم وأكول وشروب"(5).
وفي الإجمال، إنّ للاعتدال في كلّ منها (الأكل والنوم والكلام) تأثيراً كبيراً في طهارة القلب وتزكية النفس وإشراق نور الفطرة.
* سبب للسعادة الأبدية
إنّ معرفة الله والعودة إليه تتمّان بتزكية النفس، أي تطهير الإنسان نفسه من أنواع الأدران المعنويّة طبق أوامر الشرع المقدّس كما تقدّم باختصار، وإن كان ذلك صعباً على النفس وعزيزاً عليها.
ولكن بما أنّه الطريق الوحيد للسعادة(6) والوسيلة الوحيدة للوصول إلى الحياة الإنسانيّة الطيّبة(7) فيجب على الإنسان تحمّل أنواع الصعوبات وبذل الجهود للحصول على ذلك، على أمل أن يحصل على السعادة الأبديّة.
فيا أيّها الإنسان العزيز، اقتصد في طعامك ونومك واستيقظ وقت السحر وصلّ بضع ركعات، وانشغل بمناجاة خالقك والتضرّع إليه، ولا تكتفِ بليلة وليلتين بل اجعل ذلك عادتك، عندها ستدرك قرب الله وتتذوّق حلاوة ذكره، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "ولا حجاب أظلم وأوحش بين العبد وبين الله من النفس والهوى، وليس لقطعهما وقتلهما سلاح وآلة مثل الافتقار إلى الله تعالى والخشوع، والجوع والظمأ بالنهار، والسهر بالليل"(8).
(*) مقتبس من كتاب، القلب السليم، ص207-212.
1- الإكسير مادة لها تأثير سحريّ قيل إنّها تحوّل المعدن إلى ذهب، وهو أيضاً اسم شراب قيل إنّه يطيل الحياة.
2- ميزان الحكمة، الريشهري، ج 2، ص 1629.
3- وسائل الشيعة، الحر العاملي، ج2، ص437.
4- الخصال، الشيخ الصدوق، ص 526.
5- ميزان الحكمة، مصدر سابق، ج3، ص2435.
6- ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾ (الشمس: 9).
7- ﴿فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97).
8- مستدرك الوسائل، الشيخ الطبرسي، ج11، ص139.