مايا عثمان
أسند الطفل جسده إلى حائط المستشفى وكلّ أعضائه ترتعد دون توقّف، وعيناه البريئتان تشيان بالكثير من الخوف وتطرحان ألف سؤال وسؤال عمّا حلّ به في غضون لحظات.
إنّه ذاك الطفل الفلسطينيّ الغزّاويّ الذي استفاق مذعوراً على صوت قصف طائرات الاحتلال الصهيونيّ، والذي ما إن حضنه أحد الممرّضين، حتّى شعر بشيء من الأمان فشرع بالبكاء لتنفيس ما في داخله من ذعر وقلق.
هي حالة من حالات كثيرة من الصدمات النفسيّة التي يتعرّض لها كثيرون، سواء كانوا صغاراً أم كباراً؛ نتيجة حدوث كوارث طبيعيّة (حرائق، وزلازل، وفيضانات...)، أو حروب، كتلك الحالات المأساوية التي تعرضَ لها العديد من أطفال غزة في الهجوم المتوحّش للعدوّ الصهيونيّ، فمثل هذه الحالات يتطلّب علاجها ما يُطلق عليه «إسعافات أوّليّة نفسيّة».
* الإسعاف النفسيّ
الإسعافات الأوليّة النفسيّة عبارة عن استجابات نفسيّة إنسانيّة لأشخاص يتعرّضون إلى معاناة نفسيّة ويحتاجون إلى الدعم. وممّا لا شك فيه أنّ الكثير من الأشخاص يمكنهم تقديم هذا النوع من الإسعافات الأوليّة، سواء أكانوا من المتطوّعين أم المستجيبين للنداء الإنسانيّ، أم متخصصين في الصحّة النفسيّة.
* كيف نُسعف؟
أمّا الخطوات التي يجب اتّباعها عند تقديم هذا النوع من الخدمات فهي:
1. تحديد من تعرّض إلى صدمة نفسيّة: من الضروريّ عدم تصنيف كلّ ردود الأفعال على أنّها أعراض مرضيّة، فليس جميع من تعرّض إلى أزمة أو كارثة يعاني من صدمة نفسيّة؛ إذ إنّ كلّ شخص يتعامل مع المواقف المختلفة بحسب قابليّته وانفعالاته وقدرته على الصمود والصبر.
2. تعريف المسعف عن نفسه: من المهمّ جدّاً أن يكون المسعف حاضراً جسديّاً في قلب الحدث، ويُعرّف عن نفسه، ويدرك حدود تدخّله بطريقة موجزة تبعث على الاطمئنان.
3. الملاحظة والسؤال: إنّ الملاحظة والسؤال في بادئ الأمر هما من أفضل الطرق لمعرفة إن كان الشخص يحتاج إلى مساعدة أم لا، ولكن علينا الانتباه إلى عدم طرح أسئلة في غير موضعها، ويجب إجراء تقديرات صحيحة واتّخاذ قرارات صائبة حول نوعيّة المساعدة المطلوبة.
4. تخصيص مكان آمن: يجب تقديم الإسعافات الأوليّة النفسيّة في مكان آمن ومريح، والأفضل أن لا يكون في قلب الحدث، وذلك ليشعر المستفيد ببعض الأمان، فقد يكون المكان مركزاً أهليّاً، أو مؤسّسة طبيّة أو تعليميّة،... ويفضّل أن يقدّم العلاج في خيمة أو زاوية في أحد تلك الأماكن.
5. عدم طرح الأسئلة: لا يحقّ للمسعف أن يسأل عن تفاصيل الأشياء التي حدثت، مثل: كيف حصل الحريق؟ كيف وقع المبنى؟ كي لا يُتعب المستفيد، بل عليه أن يترك له حريّة الكلام لا أن يعمل كالمحقّق، فأحياناً يكون الصمت أبلغ من السؤال. كما لا يجب الكذب على الأشخاص أو تقديم وعود وتطمينات دون التأكّد من صحّتها وإمكانيّة تحقّقها.
6. تصنيف المتضرّرين: ينبغي تصنيف الأشخاص المتضرّرين وفق بعض المعايير؛ لتأمين الحاجات الضروريّة الملحّة لهم، من دواء ومستشفى.
7. الدعم النفسيّ: تأتي مرحلة الدعم النفسيّ، وهي مرحلة بالغة الأهميّة، وتختلف طرقها بحسب كلّ فئة وحالتها. سنقدم نموذجاً عن الدعم النفسيّ للأطفال، بعد توضيح كيفيّة تصنيف المتضرّرين.
* كيف نصنّف المتضرّرين؟
يمكن التصنيف بالترتيب الآتي:
أ. الفئات العمريّة: نبدأ مع الأطفال لأنّ مناعتهم النفسيّة لم تتحقّق بعد، ثمّ النساء والحوامل، فالمراهقين، وأخيراً المسنّين.
ب. الفئات المرضيّة: نبدأ مع مرضى الصحّة النفسيّة أي الأفراد الذين لا يتمتّعون بحصانة نفسيّة، ثمّ مرضى السرطان، ومرضى الفشل الكلويّ، ومرضى السكّريّ، والأشخاص المصابين بإعاقات جسديّة.
ج. الفئات الاقتصاديّة: الأشخاص الذين فقدوا سيّاراتهم، يختلفون عن الأشخاص الذين فقدوا بيوتهم، والأفراد الذين فقدوا ممتلكاتهم، يختلفون عن أولئك الذين فقدوا مأواهم، وهكذا. لذلك، يجب التعامل مع كلّ حالة بحسب الأولويّات.
8. مراعاة كلّ فئة عمريّة: مهنيّاً وأخلاقيّاً، يجب الالتفات إلى بعض الأمور أثناء التعاطي مع مختلف الفئات العمريّة؛ فعند التحدّث مع الطفل، ينبغي أن ننحني حتّى نصبح في مستواه، وأن تكون لغتنا ومفرداتنا مفهومة وسهلة بالنسبة إلى مستوى فهمه وإدراكه.
كذلك الأمر مع كبار السنّ، إذ يجب احترامهم مهما كانت ظروفهم وأوضاعهم وجنسيّاتهم، ومخاطبتهم بشكلٍ مباشر، والإصغاء إليهم، واحترام مشاعرهم وهواجسهم، حتّى الجوع والعطش، لأنّهما من الحاجات المنطقيّة. كما يجب احترام سرّيّة كلّ المحادثات وخصوصيّتها مع أيّ كان.
* تقنيات تساعد في دعم الأطفال نفسيّاً
لأنّ للأطفال وضعاً نفسيّاً خاصّاً ودقيقاً، فثمّة بعض التقنيّات المستخدمة أثناء تقديم إسعافات أوّليّة نفسيّة لهم، منها:
1. تعليم الأطفال بعض التقنيّات، مثل:
أ. تقنيّة الاسترخاء: التي تساعد في التخفيف من التوتّر، مثل التنفّس البطيء لاسترخاء العضلات.
لتنفيذ هذا التمرين، على الطفل أن يجلس على الأرض ويضع قدماً على الأخرى (يتربّع)، ويحضن جسده بذراعيه ثمّ يغمض عينيه. بعد ذلك، يقوم الشخص البالغ بتشغيل موسيقى حماسيّة، ويطلب منه أن يُدخل الهواء من أنفه، يحبسه قليلاً، ثمّ يُخرجه من فمه (شهيق وزفير). يجب تكرار تمرين التنفّس مرّات عدّة، على أن يترافق مع كلمات إيجابيّة على مسمع الطفل، مثل: «نحن بخير، هيّا لنتخيّل سويّاً أجمل اللحظات والضحكات، فلنحلم بماذا نريد أن نصبح في المستقبل».
ب. تقنيّة التفريغ: مثل نفخ فقاعات الصابون أو بالونات، والطلب من الطفل أن يرمي في داخلها كلّ المشاعر السلبيّة، ثمّ يطلقها في الهواء ليتخلّص منها.
ج. تقنيّة التعبير عن المشاعر: من خلال إتاحة المجال للطفل لإخبار قصّة أو حادثة، أو الرسم والتلوين.
إنّ تحرير المشاعر يختلف نسبيّاً من فرد إلى آخر وقد يستغرق وقتاً، لذلك، ينبغي إتاحة الفرصة للطفل للتعبير عن مشاعره حتّى بلوغ مرحلة التعافي من الصدمة.
2. التحلّي بالصبر من أجل إتاحة الوقت للطفل لبلوغ مرحلة التعافي من الصدمة.
3. إفساح المجال له للتحكّم ببعض الأمور التي لا تتعارض مع المبادئ التربويّة، في ما يخصّ خيارات الحياة اليوميّة الصغيرة التي تعزّز ثقته بنفسه، كتسليمه دور القائد على المجموعة، أو الطلب منه إحضار بعض الأدوات، أو المساعدة في جمع المقتنيات.
4. لا ينبغي للأهل إلقاء اللوم على أنفسهم في أنّهم السبب في عدم التمكّن من تأمين الحماية لأولادهم.
5. طلب الدعم من العائلة والأصدقاء أو حتّى من الجهات الرسميّة.
الصدمة النفسيّة مسألة في غاية الأهميّة، وهي من الأمور الطارئة التي ينبغي علاجها في وقتها حتّى لا تتفاقم فتؤثّر على المدى الطويل سلباً على الفرد نفسه أوّلاً ثمّ محيطه ومجتمعه ثانياً.
*مختصّة بالعلاج النفسيّ والسلوكيّ.