فاطمة شعيتو
بدأ الأمر باتّصال هاتفيّ من زوجها عند الرابعة فجراً، حين علمت مريم أنّ الحرب تلوح في الأفق القريب، وأنّها ستلقي بظلالها الثقيلة على عائلتها وأحبّتها. تسلّل الخوف إلى قلبها، وتقاذفتها الأفكار والهواجس كما تتقاذف الأمواج مركباً محطّماً. هو خوفٌ مؤلمٌ على كلّ من تحبّ، على أطفالها الصغار الذين سيُحرمون من وقتِهم وطفولتهم، وسيسمعون أصواتاً لا تملك تفسيراً منطقيّاً لها، وخوفٌ من الوجهة المجهولة إن صدرت الأوامر بإخلاء المنازل. فذكرياتُها عن حرب تمّوز لم تصدأ بعد.
حاولت مريم منع تلك الصور المؤلمة من افتراس خيالها. لملمت أفكارها واستجمعت قواها المتآكلة، لتُسائِل نفسها: «ما السبيل إلى السكينة والأمن والطمأنينة؟ كيف أتغلّب على خوفي؟ ما الحل؟».
* إرشادات للسيطرة على الخوف
الخوفُ بحدّ ذاته ليس شرّاً، بل هو نعمةٌ من نِعم الله سبحانه وتعالى، وضعها في الإنسانِ لحمايته من المهالك والأخطار، ولمعاونته على التصرّف السليم، وللوصول إلى أفضل الغايات في حياته، ولتحقيق الأمن والطمأنينة. وقد عبّر الإمام علي عليه السلام عن العلاقة بين الأمن والخوف بأجمل تعبير إذ قال: «ثمرة الخوف الأمن»(1).
والقرآن يعترف بواقعيّة الخوف لدى الإنسان(2) ولا يعدّه جريمة، وإنّما الجريمةُ تكمن في الإفراط أو التفريط فيه، وعندما يصبح عقبةً في طريق تقدّم الإنسان وكرامته وحريّته، وحينئذٍ، لا بدّ من العلاج.
وفي ما يأتي، نعرض أهمّ الطرق والإرشادات التي تُساعد في علاج الخوف:
1. فكّر بإيجابيّة: لن يصيبك إلّا ما كتب الله لك، فهو القائل في محكم كتابه: ﴿قُل لَّن يُصِيبَنَا إِلاَّ مَا كَتَبَ اللّهُ لَنَا هُوَ مَوْلاَنَا وَعَلَى اللّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ (التوبة: 51)، فعليك بالتوكّل عليه واللجوء إليه عزّ وجلّ، كما قال أمير المؤمنين عليه السلام في وصيّته للحسن عليه السلام: «وأَلْجِئْ نفْسَك في الأُمور كلِّها إلى إلهِك، فإنَّك تُلْجِئُها إلى كَهْف حَريزٍ، ومانِعٍ عَزِيز»(3).
ولأنّ الله عزّ وجلّ بيده ملكوت السموات والأرض، فإنّه يقف إلى جانب عباده، ويمدّهم بالمدد الذي لا حدود له، وهو ما نراه واضحاً في معركة بدر والأحزاب، إذ قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَاءتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنَا عَلَيْهِمْ رِيحًا وَجُنُودًا لَّمْ تَرَوْهَا وَكَانَ اللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرًا﴾ (الأحزاب: 9). فلنحسن الظنّ بالله تعالى، فهو القائل على لسان وليّه أبي الحسن الرضا عليه السلام: «أَنَا عِنْدَ ظَنِّ عَبْدِيَ الْمُؤْمِنِ بِي، إِنْ خَيْراً فَخَيْراً وإِنْ شَرّاً فَشَرّاً»(4).
2. فكّر بعقلانيّة: اعترف بخوفك وتفكّر في حقيقته، فهو مفردة من مفردات البلاء: ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُم بِشَىْءٍ مّنَ الْخَوْفِ وَالْجُوعِ وَنَقْصٍ مّنَ الْأَمْوَالِ وَالْأَنفُسِ وَالثَّمَرَاتِ وَبَشّرِ الصَّابِرِينَ﴾ (البقرة: 155).
فالله تعالى يختبر عباده بأنواع كثيرة من الشدائد، ويبتليهم بالمكاره، والاختبار الإلهيّ إنّما هو من أجل تربية العباد وتنقيتهم من الشوائب، فيصبحون أكثر قدرة على مواجهة الصعاب والتحدّيات.
3. أكثِر من الذكر والدعاء والصلاة: قال الله عزّ وجلّ في كتابه الحكيم:
﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾ (الرعد: 28). فالذكْر هو السبب الحقيقيّ لاطمئنان القلب. وقد روى أهل البيت عليهم السلام الكثير من الأدعية والأذكار التي تُقرأ في مواطن الخوف، ودفع المكاره، والأمن من الأعداء(5). وليس ذكر الله تعالى باللسان فقط، بل الأخير ترجمان القلب، والهدف هو التوجُّه بكلِّ وجودنا إلى الباري جلّ وعلا والركون إليه.
4. تأمّل في حقيقة الموت: فهو سنّة إلهيّة لا تقبل التغيير ولا التعديل، وإنّ ساعة الإنسان إذا ما حان وقتها فلا مبدّل لها كما يقول الله سبحانه:
﴿كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ﴾ (آل عمران: 185)، وهي الحقيقة التي بيّنها سبحانه لنبيّه محمّد صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: ﴿إنّك ميّتٌ وإنّهم ميتون﴾ (الزمر: 30). والموت ليس عدماً بل هو مقدّمة وبوّابة حياة أخرى، يقول أمير المؤمنين عليه السلام: «أَيُّها النَّاسُ، إِنَّا خُلِقْنَا وَإِيَّاكُمْ لِلْبَقَاءِ لَا لِلْفَنَاءِ، لَكِنَّكُمْ مِنْ دَارٍ إِلَى دَارٍ تُنْقَلُونَ، فَتَزَوَّدُوا لِمَا أَنْتُمْ صَائِرُونَ إِلَيْهِ وَخَالِدُونَ فِيه»(6).
5. تحدَّ مخاوفك: أقحم نفسك في الميادين المثيرة للخوف، ومع تكرار التجربة سيزول الخوف من النفس. يُطلق بعض علماء النفس على هذه الطريقة العلاجيّة «استراتيجيّة التعرّض»(7). ونجد هذا المعنى بصورة جميلة في كلمات أمير المؤمنين عليه السلام: «إِذَا هِبْتَ أَمْراً فَقَعْ فِيهِ، فَإِنَّ شِدَّةَ تَوَقِّيهِ أَعْظَمُ مِمَّا تَخَافُ مِنْه»(8)، وهي قاعدة يعتمدها ون خلال التدريبات والمناورات العسكريّة.
6. اقتدِ بأولياء الله ومواقفهم في الأزمات: فهذه أمّ نبيّ الله موسى عليه السلام كانت تخاف على وليدها من فتك فرعون وبطشه، فأتاها وحي السماء ليوجّهها إلى استثمار ذلك الخوف في اتّخاذ أشدّ الاحتياطات والإجراءات لحماية الطفل، ثمّ يدعوها إلى تجاوز حالة الخوف والركون إلى الاستقرار والطمأنينة، يقول تعالى: ﴿وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ﴾ (القصص: 7).
7. عبّر عن خوفك: ينصح علماء النفس بهذا الأسلوب العلاجيّ كمحاولة لتخفيف التوتّر، وهو ما يسمّى بـ»التنفيس الانفعاليّ»، ويكون ذلك بالتعبير عن المشاعر السلبيّة غير السارّة، كالخوف وغيره، كتابةً أو بالتكلّم المباشر والتواصل مع الأصدقاء والعائلة(9). وقد أثبتت التجربة أنّ المساندة الاجتماعيّة عاملٌ مخفّفٌ للضغط وتعزّز الصحّة النفسيّة والجسميّة(10).
8. ابحث عن البدائل: بهدف تحويل الانتباه عن الوضعيّة الضاغطة -أي الخوف- من خلال القيام بنشاطات سلوكيّة متنوّعة كالرياضة والرسم والاستماع إلى القرآن الكريم والموسيقى الهادئة، أو نشاطات معرفيّة كمشاهدة التلفاز والقراءة الممتعة(11).
9. تجنّب مثير الخوف: طرح بعض علماء النفس الحديث استراتيجيّة فعّالة لعلاج الخوف وهي «التجنّب»(12)، أي أن يتجنّب المرء مثير الخوف، فعن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: «ومَنْ خَافَ مِنْ شَيْءٍ هَرَبَ مِنْه»(13). وفي حال الخوف من الحروب، يُنصح بترك مشاهدة التلفاز بشكل مستمرّ ووضع الهاتف جانباً، والرجوع إليه بين الحين والآخر لمعرفة الأخبار المستجدّة، مع ضرورة استقصاء الأخبار من مصادر موثوقة.
10. حاول الحفاظ على الروتين اليوميّ: من نوم كافٍ وتغذيَة صحيّة وتمارين رياضيّة ودراسة وعمل وفق الوسائل والإمكانات المتاحة، فالعمل مطلوب مهما كانت الظروف ضاغطةً، عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: «إن قامت الساعة وفي يد أحدكم فسيلة(14)، فإن استطاع أن لا يقوم حتّى يغرسها فليغرسها»(15).
11. نفّذ بعض تمارين التنفّس والاسترخاء: يُعدُّ دماغ الإنسان أحد أعظم الآيات التي حيّرت العقول والألباب، فهو يتكوّن من 100 مليار خليّة عصبيّة، وتحدث فيه ملايين العمليّات الكيميائيّة(16)، فعندما يشعر الإنسان بالخوف، يقوم الدماغ بتنبيه الجهاز العصبيّ وإحداث مجموعة من التغيّرات الجسميّة، كإطلاق هرمونات التوتّر (الكورتيزول، والأدرينالين) المسؤولة عن زيادة سرعة التنفّس وارتفاع ضربات القلب وضغط الدم وشدّ عضلات الجسم. وتكمن فائدة تمارين الاسترخاء والتنفّس في التقليل من حدّة الخوف وعوارضه الجسميّة عبر تحسين مستويات هرمونات التوّتر وإطلاق هرمونات السعادة (هرمون السيروتونين وغيره). ومع تقدّم العلم، أصبح ثمّة منهجيّة علميّة في تنفيذ عمليّة الاسترخاء وبأساليب وأنماط وأنواع مختلفة، أهمّها: الاسترخاء الذهنيّ (التأمليّ)، والاسترخاء بتمارين التنفّس وبالتدليك، وغيرها(17).
توصية أخيرة: الخوف ينتقل بالعدوى وبالإيحاء وبالمشاركة الوجدانيّة، فاستُر خوفك عن عيون الآخرين، واغرس الأمل والثبات في نفوسهم ولا تدمّرهم، لأنّ الخوف من الحرب أشدُّ فتكاً من الحرب نفسها.
1- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 207.
2- وردت مفردة الخوف ومشتقّاتها في 124 آية قرآنيّة، بما تعنيه كلّ مفردة منها، لكن كلمة (خوف) وحدها وردت 21 مرّة، ومشتقّاتها 103 مرّات، واتّخذت معانيَ كثيرة.
3- نهج البلاغة، تحقيق صبحي صالح، ص 393.
4- الكافي، الكليني، ج 2، ص 72.
5- راجع: باب في الأدعية التي يدعى بها للهمّ والغمّ والخوف وغيرها ممّا روي عن أهل بيت العصمة عليهم السلام، أوردها الشيخ عبّاس القمّيّ في كتاب مفاتيح الجنان، ويشتمل على اثني عشر دعاءً. راجع أيضاً الصحيفة السجّاديّة، دعاء: يا من تُحلّ به عقد المكاره، ودعاء دفع كيد الأعداء، وغيرها من الأدعية.
6- الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، الشيخ المفيد، ج 1، ص 238.
7- راجع: التعايش مع الخوف: فهم القلق ومكافحته، ماركس، ص 269.
8- نهج البلاغة، مصدر سابق، ص 501.
9- راجع: التعايش مع الخوف، مصدر سابق، ص 268.
10- أساليب التعامل مع الضغوط: حدود المنهج والأساليب، سعد الإمارة، مجلّة النبأ: العدد (٥٥)، ص3.
11- راجع: الصحّة النفسيّة والعلاج النفسيّ، حامد عبد السلام زهران، ص 39.
12- المصدر نفسه، ص 60-61.
13- الكافي، مصدر سابق، ج 2، ص 69.
14- الفَسِيلة: الصغيرة من النخل، والجمع فَسائل وفَسِيلٌ. (لسان العرب، ابن منظور، ج11، ص519).
15- ميزان الحكمة، الشيخ الريشهري، ج2، ص1410.
16- راجع: كيف تضاعف قدرتك الذهنيّة؟ ستين جين ماري، ص 18.
17- الضغط النفسيّ، غريغ ويلكنسون، ترجمة: زينب منعم، ص 3-4.
لبنان _ صور
عباس خضرا
2023-12-20 18:18:23
اعجبتني الاقتراحات التي من بعد رقم 5 والذي اضحكني واستغربت منه هو اقتراح رقم 5