صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين آخر الكلام | الضيفُ السعيد الافتتاحية| الأمـومـــة... العمل الأرقى  الشيخ البهائيّ مهندسٌ مبدعٌ في العبادةِ... جمالٌ مع الخامنئي | نحو مجتمع قرآنيّ* اثنا عشر خليفة آخرهم المهدي عجل الله تعالى فرجه الشريف* أخلاقنا | اذكروا اللّه عند كلّ نعمة* مناسبة | الصيامُ تثبيتٌ للإخلاص

أخلاق العاملين‏: سر الانتصار والنجاح في كل المجالات‏

آية الله جوادي الآملي‏

* شهود قدرة الله‏
كان البحث حول أن أعلى مقام للإنسان وأكمله هو مقام صيرورته عند الله، أي عندما يصل إلى المكان الذي لا ولن يرى فيه إلا الله. ولأجل الوصول إلى هذا المقام الشامخ ذكرنا أن أفضل طريق هو أن يرى الإنسان نفسه في محضر الله ومشهده، لأنه عندما يرى ذلك ويرى الله شاهداً على جميع أعماله فسوف يراقب أعماله ويحاسب نفسه.
فتلك المراقبة وهذه المحاسبة توصلانه في نهاية المطاف إلى مقام عند الله. فالإنسان الذي يراقب نفسه ويسعى لأن لا يرتكب محرماً ويسعى لإصلاح الماضي، وإذا قام بعمل خير فإنه لا ينظر إليه بل يقيسه بالنعم الإلهية فيدرك أن نعم الله أكثر من طاعته، وعندها لن يصاب الغرور أبداً بل يظهر العجز والمذلة. فهذه المراقبة وتلك المحاسبة توصلانه إلى مقام عند الله. النقطة التي نريد أن نطرحها في البحث الحالي هي أن الإنسان المتكامل يرى نفسه في حضور الله العليم الذي يعلم كل أعماله، وأيضاً يرى نفسه في حضور الله المقتدر الذي لا يقف أحد أمامه. فلو أدرك الإنسان أنه في حضور القدير المطلق وهو شاهد على أعماله فإن هذه الرؤية سوف تحيي في نفسه عدة آثار:
أولاً: لن يتكل على قدرته ولا قدرة غيره أو الآخرين.
ثانياً: لن يخاف من ضعفه ولا من قدرة العدو، فهذه القدرات الواسعة سوف تحيا في نفسه.

فكلما شاهد الإنسان نفسه في حضور الله القدير لن يمد يده إلى المعصية وسوف يثبت على الطاعة. لأن الإنسان الذي يعصي إما أنه يكون مستنداً إلى ذاته أو إلى غيره، وإما أن يكون معتمداً على شبابه أو على ماله وثروته أو على حسبه وجاهه أو قوته وقبيلته. فالذي يطغى وينجر إلى المعصية إنما يفعل ذلك لأنه اغتر بقدرته أو اعتمد على قدرة الغير. فهذا الشخص لو شاهد نفسه في حضور الله القدير المطلق فإنه لن يعتمد بعد ذلك على قدرته المحدودة ولا قدرات الآخرين. كذلك لو أراد أحد أن يؤدي عملاً صالحاً وأحس بمانع يمنعه فإن ذلك إما أن يكون ضعفه المطلق أو من خوفه من العدو المعتدي، ولكن عندما شاهد الإنسان نفسه في محضر القدير المطلق فإنه سوف يعتمد على قدرة الله، ولهذا فإنه يجبر ضعفه ويرى قدرة العدو لا شي‏ء مقابل تلك القدرة العظيمة. فنتيجة مشاهدة الله القدير هي أن يصبح الإنسان فاتحاً ومنتصراً في أربع مراحل: في مرحلة المعصية والذنب لا يعتمد على قدرته ولا على قدرة الغير، وفي مرحلة الطاعة والفضيلة لا يخاف من ضعفه ولا من قدرة العدو.

فالإنسان الذي يطغى ويعصي إنما يفعل ذلك لأنه يعتمد على قدرته أو قدرة صديقه. فإذا شاهد قدرته أو قوة قبيلته أو عشيرته لا شي‏ء مقابل قدرة الله المطلقة فإنه لن يطغى أبداً. فالإنسان المتمرد لا يعصي عندما لا يمتلك معتمداً. وإذا أراد أن يحصل الفضيلة ويؤدي عملاً صالحاً فإنه لا يخاف من ضعفه ولا من قوة العدو المهاجم، لأنه على أثر الاعتماد على الله يجبر ضعفه ويسقط القدرة الوهمية للعدو المهاجم. فهذه المراحل العالية للسير والسلوك تكون نتيجة مشاهدة الله القدير. والاستفادة من هذا البحث من أحاديث المعصومين عليه السلام. حيث يقول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: "إن الله يحب معالي الأمور ويكره سفاسفها". يقول الإمام التاسع حضرة جواد الأئمة عليه السلام: "الثقة بالله ثمن لكل غال وسلّم إلى كل عال". فإذا كان الوصول إلى المقام الشامخ يحتاج إلى المتاع الثمين فإنه في ظل الثقة بقدرة الحق يمكن تأمين هذا المتاع الغالي. إذا أراد الإنسان أن ينال مقام العالم الشامخ فيمكنه أن يعد سلماً بهذه القدرة ويصبح عالماً. إذا أراد أن يظفر في ساحة مواجهة الباطل فعليه أن يثق بقدرة الله فيصل إلى مقام النصر الشامخ فهذه خاصية مشاهدة قدرة الله المطلقة التي تفيد في بعد النفي وبعد الإثبات(الإيجابية) فإنها تقف سداً أمام عصيان الإنسان وكذلك تمد الإنسان لفعل الخير وتحصيل الفرائض، فهذه فائدة مشاهدة قدرة الله القدير.
وعلى هذه الأصول ينقل القرآن الكريم قصص الأنبياء السابقين ويخبر بأن وقفت طائفة مقابلهم، فقال لهم الأنبياء لقد وقف من قبلكم في مواجهة الحق وأهلكوا وأنتم لا تملكون معشار ما كان عندهم من قوة. وعندما وقف مشركو مكة مقابل رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحاربوه قال الله تعالى: ﴿وكذب الذين من قبلهم وما بلغوا معشار ما آتيناهم.

بناءً على هذا، لو شاهد الإنسان قدرة الله المطلقة، فإنه لن يعتمد على قوته الوهمية ولا قدرة الآخرين الكاذبة. فهذه خاصية مشاهدة قدرة الله المطلقة، وقدرة الله واسعة ومطلقة بحيث أنها تظهر في الأمكنة التي لا يتوقع فيها ذلك. عندما يشرح القرآن ما جرى على قوم نوح يقول إن العذاب جاءهم من حيث لا يشعرون. وخلاصة الأمر أن قوم نوح قد وقفوا في مواجهة نبي السماء ورفضوا نداء توحيده، وعندما حل عليهم عذاب الله وفار الماء من التنور، لم يكونوا يتصورون أن الماء يمكن أن ينبعث من مكان شعلة النار.
فعذاب الله ينطلق من المكان الذي لا يتصوره الإنسان أو يتوقعه. فمن مكان شعلة النار فاض الماء! فلم يكن النبي نوح عليه السلام خائفاً من قدرة أعداء الله الكاذبة - لأنه كان يعتمد على قدرة الله - وهم في المقابل لجوا في عتو ونفور واعتمدوا على قدرتهم الوهمية. فلكي يتمكن الإنسان من الإعراض عن المعاصي والدخول في الطاعة يحتاج إلى القوة اللازمة. فإذا رأى نفسه معتمدة على قدرة الله المطلقة فسوف يحصل على هذه القوة. فالأنبياء لم يخافوا يوماً من ضعفهم الظاهري ولا من قوة أعداء الظاهرية، كما أن الأعداء في المقابل لم يتمكنوا من الحصول على قوة من قبيلتهم وأقوامهم وحلفائهم. فمشاهدة الله القدير على كل شي‏ء لها هذه الخاصية حيث تحفظ الإنسان من الوقوع في المعصية وتوفقه لتحصيل الفضائل. يبين الله تعالى في كتابه المجيد عدة نماذج من هذا النوع في سورة سبأ وسورة هود. ففي سور هود، عندما يأتي الحديث عن النبي عليه السلام يقول الله تعالى: ﴿وأوحي إلى نوح أنه لن يؤمن من قومك إلا من قد آمن فلا تبتئس بما كانوا يفعلون واصنع الفلك بأعيننا ووحينا ولا تخاطبني في الذين ظلموا إنهم مغرقون. وعندما بدأ نوح بصناعة السفينة: ﴿وكلما مر عليه ملأ من قومه سخروا منه قال إن تسخروا منا فإنا نسخر منكم كما يسخرون فسوف تعلمون من يأؤتيه عذاب يخزيه ويحل عليه عذاب مقيم حتى إذا جاء أمرنا وفار التنور قلنا احمل عليها من كل زوجين اثنين وأهلك إلا ما سبق عليه القول وامن وما آمن معه إلى قليل. وهذه السفينة لن تتحرك بواسطة الرياح أو القوى الأخرى: ﴿قال اركبوا فيها باسم الله مجريها ومرسيها.

فإذا شاهد الإنسان نفسه في حضور الله ذي القوة فإن رجليه ويديه لن تتحركا باتجاه المعصية، بل إن تفكره وتذكره يتجهان نحو الطاعة. فكل إنسان عاص يكون مغتراً بقوته أو بقوة الآخرين. فإذا شاهد الإنسان هذه القوى مقابل قدرة الله المطلقة فإنه لن يتحرك نح المعصية، وكل إنسان يصمم على الطاعة فإنه سوف يرى ثقل هذا العمل خفيفاً أمام قدرة الله، فهو لا يخاف من ضعفه ولا من ثقل العمل بل إنه يتحرك كما سفينة نوح عليه السلام على اسم الله. ﴿باسم الله مجريها ومرسيها. وكنموذج آخر، نذكر قصة النبي شعيب عليه السلام. يقول الله تعالى أن شعيباً لما أرسل إلى قومه ودعاهم إلى القسط والعدل، وقفوا مقابله وقالوا له: ﴿لولا رهطك لرجمناك. ﴿وإلى مدين أخاهم شعيبا قال يا قوم اعبدوا الله ما لم من إله غيره ولا تنقصوا المكيال والميزان إني أراكم بخير وإني أخاف عليكم عذاب يوم محيط ويا قوم أوفوا المكيال والميزان بالقسط.

وحيث كانت المشكلة الاقتصادية هي المشكلة الأكبر في زمان النبي شعيب عليه السلام، فقد أكد عليها عدة مرات: ﴿ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين بقية الله خير لكم إن كنتم مؤمنين وما أنا عليكم بحفيظ. ولكن هذه الفئة التي اعتادت على الطغيان ركنوا إلى قوتهم وقالوا له: ﴿يا شعيب أصلاتك تأمرنا أن نترك ما يعبد آباؤنا أو أن نفعل في أموالنا ما نشاء. ثم قال بصورة الاستهزاء: ﴿إنك لأنت الحليم الرشيد. فنحن نملك أموالنا ونفعل فيهل ما نشاء. فأجابهم شعيب: ﴿يا قوم أرأيتم إن كنت على بينة من ربي ورزقني منه رزقاً حسناً. فأنا قد بعثت على بينة من ربي ولدي معجزة وبراهين عقلية والله أعطاني النبوة وأنا أرشدكم لما فيه خير لكم، وأقول لكم إن هذه القوة التي تعتمدون عليها هي الظغيان ليست إلا قدرة وهمية، وعما قريب لن يبقى لها أي أثر، فلا تتكلوا على أنفسكم في العصيان، ولا تتعلقوا بقوة الآخرين في الطغيان، لأن قدرتكم زائلة وقدرة الآخرين إلى زوال. ﴿وما أريد أن أخالفكم إلى ما أنهاكم عنه إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. فأنا لا أنهاكم عن شي‏ء وأفعله، بل كل ما أقوله أعتقد به وأفعله فيه صلاح للجميع. لقد قمت بأمر من الله وأنا أراكم متساوين أمام هذا الأمر. فحق الله محترم للجميع وحق المجتمع بإصلاحه. فقد بين شعيب عليه السلام في كلامه ثلاثة فصول:
الأول: إن حق الله محترم بالنسبة للجميع، ويجب على الكل حفظ حدود الله.
الثاني: أن النبي يحفظ مصالح الأمة ﴿إن أريد إلا الإصلاح ويحفظ حقوق الناس.
الثالث: ﴿ما استطعت العمل بقد الاستطاعة والوسع. فالتقدم فوق مستوى الاستطاعة يؤدي إلى ضياع حق النفس وزوالها.

فقد بين النبي شعيب عليه السلام هذه النقاط الثلاث وقال أن رعاية حق الله عند الجميع واحترام حقوق الناس وحق النفس هي سيرتي العملية. ثم قال إنني أعتمد في هذا العمل على قدرة الله المطلقة: ﴿وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإيه أنيب. فالإقدام على إصلاح المجتمع أمر صعب، وهناك خطران يهددان هذا العمل الثقيل، الأول الضعف الداخلي والآخر قدرة العدو الغاشم من الخارج. ولكن أولياء الله الذين يرون أنفسهم في محضر الله ويجبرون ضعفهم بهذه القدرة المطلقة ويهزمون قدرة العدو في ظلها أيضاً. وهذا هو معنى الحديث الذي فكرناه عن الإمام الجواد عليه السلام، فعندما يكون إصلاح المجتمع صعباً والمصلح والأعداء أقوياء، فإن المصلح الإلهي يقوي نفسه بالقدرة الإلهية ويقلل من قدرة العدو أيضاً: ﴿وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت في المسائل التكوينية، ﴿وإليه أنيب وفي الأخلاقيات والمسائل التشريعية والنفسية. ثم حذر قومه من عاقبة أفعالهم، وقال: ﴿يا قوم لا يجرمنكم شقاقي أن يصيبكم مثل ما أصاب قوم نوح أو قوم هود أو قوم صالح. وبقوله: يا قوم - دعوة بلهجة التحبب والعاطفة،وما قوم لوط منكم ببيعد) ﴿واستغفروا ربكم ثم توبوا إليه إن ربي رحيم ودود. فما كان جواب الأعداء: ﴿قالوا يا شعيب ما نفقه كثيراً مما تقول. أجل، فالإنسان المادي لا يدرك شيئاً غير الطبيعة والمادة. ﴿وإنا نراك فينا ضعيفا ولولا رهطك لرجمناك. لقد قالوا له: ﴿وما أنت علينا بعزيز. فلا عزة لك، إلا قومك وقبيلتك، فما كان جواب شعيب عليه السلام: ﴿قال يا قوم أرهطي أعز عليكم من الله واتخذتموه وراءكم ظهريا إن ربي بما تعملون محيط.

فهذه هي رؤية النبي الإلهي، وتلك هي مقولة الطغاة. ولكن لم يطل الأمر: ﴿ولما جاء أمرنا نجينا شعيباً والذين آمنوا معه برحمة منا وأخذت الذين ظلموا منا الصيحة فأصبحوا في ديارهم جاثمين كأن لم يغنوا فيها ألا بعداً لمدين كما بعدت ثمود. فالنتيجة هي أن الإنسان إذا أراد أن يكون عند الله فينبغي أن يرى الله شاهداً وحاضراً. فإذا أدرك حضور الله العليم فإنه لن يعصيه في خلواته، بل لن يصدر في عمق سره أي إثم: ﴿وإن تجهر بالقول فإنه يعلم السر وأخفى(طه: 7). وكذلك إذا أدرك الإنسان حضوره في محضر الله القدر فإنه يصان من المعصية ويقوى على تحصيل الضائل، فعند الذنب والمعصية لن يعتمد على قدرته ولا قدرة الآخرين. وفي اكتساب الفضائل لن يشعر بالضعف ولن يخاف من الأعداء ولن يخشى ثقل العمل أو صعوبته.

هذه هي بركة مشاهدة الله القدير. وما ذكر في هذه الآيات قد تجلى اليوم في جبهاتنا، فهؤلاء المجاهدون الأبطال لأنهم يشاهدون الله العظيم والقدير في كل الساحات لا يخافون من ضعفهم ولا يخشون ثقل العلم وشدته: ﴿إن ربي بما تعملون محيط.
والحمد لله ربِّ العالمين.

 

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع