نور روح الله | يوم القدس: يوم الإسلام* إلى قرّاء القرآن: كيف تؤثّرون في المستمعين؟* أخلاقنا | ذكر الله: أن تراه يراك*  مفاتيح الحياة | الصدقات نظامٌ إسلاميٌّ فريد(2)* آداب وسنن| من آداب العيد  فقه الولي | من أحكام العدول في الصلاة مـن علامــات الظهــور: النفس الزكيّة واليمانيّ* تسابيح جراح | بالصلاة شفاء جراحي صحة وحياة | الرّبو والحساسيّة الصّدريّة تاريخ الشيعة| شيعة طرابلس في مواجهة الصَّليبيّين

أين أرواح أمواتنا؟

الشيخ موسى خشاب

لا شك أنك فقدتَ العديد من الأعزّاء بعضهم من الأقرباء، وبعضهم من الأصدقاء. ولا شك أنّك فقدت أحداً ما أيضاً وتراودك أسئلة عدة عن أحوالهم خصوصاً حين تذهب لزيارة قبورهم حيث مسْكن أجسادهم الدائم بانتظار ذلك اليوم الذي تتبعثر فيه القبور.

تُرى ماذا يجري في تلك الحفرة الضيّقة؟ هل يتنعّمون فيها أم يُعذّبون؟ هل يعيشون فُرادى أو جماعات؟ هل يتزاورون ويجلسون ويتحدّثون؟ ماذا عن طعامهم وشرابهم؟ وماذا يحصل حين يتجاور قبران أحدهما لمطيع وآخر لعاص؟ لا شكّ أن الأسرار التيتحويها المقابر جديرة بأن يُجاب عنها. فحين تدخل إلى المقابر تشعر بسكون وهدوء واضحين، وتُفتح أمامك فرصة للتفكّر والتأمّل فالصمت يلفّ المكان، والسؤال هل الأمر كذلك في داخل القبور؟ أم أن هناك أحداثاً تجري داخل تلك الحفرة التي تسمّى القبر؟

نحاول في هذه المقالة الإجابة عن مجموعة من الأسئلة عمّا يجري على الميت، خصوصاً ما يتعلّق بالعلاقة بين جسد الميت وروحه.

*رحلة ما بعد الموت

هل تعود الروح إلى الجسد بعد أن يتمّ دفن الميت داخل القبر؟ أم أنّ ذلك الجسد لا علاقة له بتاتاً بما يجري من أحداث.. وما يجري عليه فقط هو التعفّن والتحلّل وسائر الأعراض التي تعتري الأجسام الماديّة عادة؟

قبل الإجابة لا بدّ من معرفة الأحداث التي تجري على الميت ولو بشكل مختصر:

1 - مراسم الاستقبال: أول أمر يجري مع الميت في قبره هو استقباله بالطّريقة التي تليق بإيمانه أو كفره.
فعن الإمام أبي عبد الله عليه السلام أنّه قال: "إنّ المؤمن إذا أُخرج من بيته شيَّعته الملائكة إلى قبره يزدحمون عليه حتى إذا انتهى به إلى قبره قالت له الأرض: مرحباً بك وأهلاً أما والله لقد كنتُ أحبّ أن يمشي عليَّ مثلك، لَتَرَيَنّ ما أصنع بك فتوسع له مدّ بصره..."(1).

2 - المُساءلة: بعد انتهاء مراسم الاستقبال تبدأ عملية مُساءلة الميت حيث يدخل عليه في قبره الملكان وهما قعيدا القبر منكر ونكير فيلقيان فيه الروح إلى حقويه فيقعدانه ويسألانه فيقولان له: من ربك؟ فيقول (إذا كان مؤمناً): الله، فيقولان: ما دينك؟ فيقول: الإسلام، فيقولان: ومن نبيك؟ فيقول: محمد صلى الله عليه وآله وسلم ، فيقولان: ومن إمامك؟...

3 - البشارة: بعد مراسم الاستقبال والمساءلة تعلن البشارة بالعذاب للكافر، وبالنعيم للمؤمن. فينادي مناد من السماء: صدق عبدي افرشوا له في قبره من الجنة وافتحوا له في قبره باباً إلى الجنة وألبسوه من ثياب الجنّة حتى يأتينا وما عندنا خير له، ثم يقال له: نم نومة عروس، نمْ نومة لا حلم فيها(2).

4 - العذاب الدائم أو النعيم المقيم: بعد بشارة العذاب أو النعيم يبقى الميت على حاله، منعّماً أو معذّباً إلى يوم القيامة كما بينت الروايات، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام : والله إنّ القبر لروضة من رياض الجنة، أو حفرة من حفر النار(3). ونلفت أنّ الأحداث التي تجري مع المؤمن المسرف على نفسه مختلفة عمّا ذكر، وللبحث محله، وما ذكر له علاقة بثواب المؤمن التقيّ وعذاب الكافر الشقي...


*أين تجري هذه الأحداث؟!

نعود للسؤال المطروح وهو هل تجري هذه الأحداث داخل الحفرة أم أنها تجري في مكان آخر؟ وإذا لم تكن هذه الأحداث تجري على جسده فما معنى الوصية بالرفق بجسد الميت حين تغسيله؟ ولماذا يتم التوقف عدة مرات حينما يتم أخذ الميت إلى القبر؟ وما هي الفائدة من زيارة القبور؟ وما معنى ضغطة القبر؟ وكيف نفسر الروايات التي تحدّثت عن أن الله يسلّط عليه هوام الأرض؟ وما معنى أن الملكين يجران الأرض بأنيابهما؟ وغيرها من الأمور...

ينتقل الميت من اللحظة الأولى إلى البرزخ، فبحسب ظاهر الآية الكريمة ﴿وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (المؤمنون: 100) وما ذكره المفسرون أن البرزخ يمتد من لحظة الموت إلى يوم البعث، وهذا يعني أن الأحداث التي تجري مع الميت لا بد أن تجري معه في البرزخ وليس في مكان آخر. وبما أن الحفرة وجسد الميت هما في عالم الدنيا فلا يجري أي حادث من تلك الحوادث في القبر.

يقول الشيخ المفيد قدس سره:
"إن الله تعالى يجعل لهم أجساماً كأجسامهم في دار الدنيا ينعّم مؤمنيهم فيها ويعذّب كفارهم وفساقهم فيها دون أجسامهم التي في القبور يشاهدها الناظرون تتفرق وتندرس وتبلى على مرور الأوقات وينالهم ذلك في غير أماكنهم من القبور"(4).

إذاً، فحكم جسم الميت الموجود في الحفرة هو نفس الحكم فيما لو بتر أحد أعضائه وهو حي فكما أن اليد أو الرجل المبتورة تفقد الحياة تماماً ولا يجري عليها أي شيء فكذلك جسم الميت وذلك أنه تم استبدال جسمه الدنيوي بجسم برزخي وكل ما يجري على الميت يجري على ذلك الجسم ولو ضرب جسم الميت بألف ضربة سيف وفأس ولو نهشته الأفاعي والعقارب أو أكلته الذئاب فالميت لن يشعر بشيء مطلقاً؛ إذ إن العلاقة بين الجسم والروح انقطعت وحلت محلها علاقة أخرى بين الروح والجسم البرزخي أو المثالي أو الملكوتي وأصبح جسمه الدنيوي أو المادي أو الملكي طعاماً للحشرات وفاكهة للديدان فالموت أشبه باستبدال ثياب بثياب أخرى حسب ما ذكرت بعض الروايات...


*كيف نفسّر بعض المشاهدات عند القبور؟!

إذا كان القبر وجسد الميت الدنيوي ليس محلاً للثواب والعذاب فكيف نفسّر الكثير من الروايات الشعبية والمشاهدات التي لا تقبل التكذيب بسبب كثرتها وتواترها من ظهور بعض الكرامات للمؤمنين عند قبورهم، أو في أجسامهم من مشاهدة نور في القبر، أو بسمة على ثغر بعض الشهداء أو شم ريح طيبة أو حفظ جسده غضاً طرياً لسنين طويلة لسبب معين أو لميزة أو بسبب مواظبة على عمل أو...، وكذلك ما يظهر من بعض الأمور على بعض الكافرين أو الفاسقين أو الذين يقومون بفعل معين لا يرضاه الله ورسوله؟

والجواب أن هذه الأمور هي انعكاس لما يجري معه في البرزخ، وما يسعده أو يؤلمه هو ما يجري معه هناك وليس هنا، وقد أظهره الله تعالى لأن فيه قدوة وعبرة لنا...


*هل يشاهد الميت ما يجري على جسده البالي؟!

إن وجود الميت في البرزخ لا يعني أنه لا يطَّلع على ما يجري في الدنيا، خصوصاً في لحظة موته وبكاء أهله وتغسيله وتشييع جنازته وتوسيده في لحده وإهالة التراب عليه. فقد ذكر بعض الروايات أن الميت يرى كل ذلك وإن كان الناس لا يرونه ولا يسمعون كلامه، سواء كان يُطمئن أهله ويبشرهم ويطلب من ملائكة الرحمة التعجيل به إلى روضته البرزخية، أو يناشد ملائكة العذاب ويتوسل إليهم ويسترحمهم ويستمهلهم طالباً أن لا ينزلوه في حفرته البرزخية كمن يحلم حلماً مخيفاً يحاول الهروب مما يخيفه ويستيقظ قائلاً الحمد لله أنني كنت في حلم ولكنه سرعان ما يتبين له أنه في واقع لا مهرب منه ولا مناص... فهو يرى مغسله يصب عليه الماء، ولكنه يحترق من ماء الحميم الذي تصبه الملائكة على جسمه البرزخي وكذلك يرى موسده ينزله في حفرته ولكنه يستصرخ ملائكة العذاب حين ترميه في واد سحيق...


*لماذا نخاطب جسد الميت ونزور قبره؟!

إن تلقين الميت الشهادة حين توسيده في قبره أو حتى بعد دفنه من خلال وضع اليد في التراب وإعادة الشهادة، ليست من باب تلقين جسم الميت للشهادة ولكنها خطاب مع روح الميت وجسمه البرزخي الذي يرى ويسمع ما يجري حوله كما أسلفنا. أما لماذا نخاطب جسده ونزور قبره فلأنه لا بد من معلم أو أثر مادي يأنس به الناس حين يقومون بزيارة الميت أو الدعاء له تماماً كما يذهب الإنسان للحج في مكة أو يزور كربلاء مع أنه يمكن له أن يدعو ويزور في أي مكان ولكنه يذهب إلى تلك الأماكن المقدسة لأن للمكان خاصية تجعله أقرب وتؤثر في نفسه أكثر وكذلك هو جسد وقبر الميت.


*كيفية الاطلاع على أحوال الميت

إن جريان هذه الأحداث في البرزخ لا ينفي إمكانية أن يرى البعض من أصحاب النفوس الصافية والقلوب الواعية كالأنبياء والأولياء ما يجري على الأموات هناك، كأن يروا عذاب الميت وتنعّمه أو يسمعوا صوته سواء من خلال التواصل مع جسمه البرزخي كما في مخاطبة النبي عيسى عليه السلام لأمه بعد موتها أو من خلال إحياء جسده الدنيوي ومخاطبته للاطلاع على ما يجري معه في البرزخ كما حدث في قصة عيسى عليه السلام مع سام بن نوح...


*كيف نفهم الروايات التي تحدثت عن عذاب القبر؟!

ويبقى السؤال الأهم وهو أنه لو سلّمنا بكل ما ذكر حتّى الآن فكيف نفسر الروايات التي تحدّثت عن عذاب القبر وضمة القبر، خصوصاً أن المقصود من كلمة القبر واضح وبيّن ولا يحتاج إلى تفسير؟

والجواب أن لكل شيء في عالم المُلك (الدنيا) بُعداً ملكوتياً (برزخياً)، قال تعالى: ﴿فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (يس: 83).

والمترتب على هذا الأمر أنه يمكننا أن نفسر ضمّة الأرض للميت (ضغطة القبر) من خلال البُعد الملكوتي للأرض، وهذا يعني أن ضغطة القبر هي أمر ملكوتي وليست أمراً ملكياً وكذلك سؤال منكر ونكير وسائر الأمور من فتح باب إلى الجنة وباب إلى جهنم كلها تجري في عالم الملكوت (البرزخ) دون عالم الملك (الدنيا) حيث نرى الجسد أمامنا كما هو ولا يجري عليه شيء...

فالمقصود من القبر هو القبر الملكوتي وليسَ الملكي، وهكذا كل الأمور من نداء القبر وغيره، فلو كانت تجري في عالم الملك لكنّا سمعناها ولكنها تجري في عالم الملكوت وقد أكدت الروايات الشريفة أن القبر والبرزخ هما شيء واحد وليسا شيئين...

عن الإمام الصادق عليه السلام : "فإذا قبضه الله عز وجل صيّر تلك الروح في قالب كقالبه في الدنيا، فيأكلون ويشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة التي كانت في الدنيا"(5).

نسأل الله تعالى أن يختم لنا بحسن العاقبة.


1- الكافي، الشيخ الكليني، ج3، ص239.
2- الوافي، الكاشاني، ج25، ص616.
3- الدعوات، الراوندي، ص244.
4- أوائل المقالات، الشيخ المفيد، ص77.
5- الوافي، م.س، ص635.

أضيف في: | عدد المشاهدات:

أضف تعليقاً جديداً

سيتم عرض التعليق على إدارة الموقع قبل نشره على الموقع