مقابلة خاصّة مع رئيس المجلس التنفيذيّ في حزب الله سماحة السيّد هاشم صفيّ الدين
حوار: حسن سليم
تزدحم التحديات وتتزاحم المسؤوليات، ويصير لزاماً على المكلف أن يشخّص وظيفته الشرعيّة ويرتب أولويّاته، وإلا سوف يخرج عن جادة المسؤولية الملقاة على عاتقه ويقع في حدّ التقصير. وعليه –وتلافياً لأي إفراط أو تفريط واستدراكاً لأداء ما يجب أداؤه-ما هو تكليف الإنسان عموماً والشباب خصوصاً حيال ما يحصل من حولهم؟ وهل ثمّة علاقة بين البصيرة وأداء التكليف؟ وإذا كان كذلك، ما هو دور البصيرة في تحقيق أداء سليم للتكليف؟ هذه الأسئلة وغيرها يجيب عنها رئيس المجلس التنفيذيّ في حزب الله، سماحة السيّد هاشم صفي الدين في حوار خاصّ معه، أجرته مجلّة بقيّة الله.
بدايةً، نرحّب بكم سماحة السيّد، ونشكركم على استضافتكم لنا لإجراء هذا الحوار.
- لقد كلّفنا الله تعالى بالكثير من التكاليف الدينيّة والعباديّة وفي مقابلها الأمور الدنيويّة، هل يوجد تناقض بين هذه التكاليف؟
بسم الله الرحمن الرحيم، وصلّى الله على سيّدنا محمّد وعلى أهل بيته الطيّبين الطاهرين. لا يوجد تناقض على الإطلاق بين السعي لأداء التكليف وبين السعي للتعلّم وتأمين وظيفة من أجل لقمة عيش كريم. والفكرة الرساليّة والإيمانيّة تقتضي أن يكون الإنسان قد سخَّر كلَّ نِعَم الله تعالى في سبيله عزّ وجلّ، فإذا أعطاه الله تعالى قدرة ماليّة يُسخّرها لله، وإذا أعطاه قوّة بدنيّة يُسخّرها لله، وإذا أعطاه قدرة اجتماعيّة يُسخّرها لخدمة المجتمع في سبيل الله، وهكذا إلى ما شاء الله.
التكليف بلا شكّ هو محور حياة الإنسان، فحينما جعل الله تعالى الإنسان خليفته في هذه الأرض؛ فمن أجل حُسن أداء التكليف. وهذا الأمر يتفاوت بين الناس، فمنهم من يلتفت إلى التكليف فيسلك طريق الوصول إلى الله عزّ وجلّ والسبيل القويم، ومنهم من لا يلتفت إليه فيكون في طريق آخر. التكليف، إذاً، هو الحدّ الفاصل بين الانصياع والانقياد والالتزام بمقتضيات الإيمان، ووحدانيّة الله، ونبوّة محمّدٍ صلى الله عليه وآله وسلم، وبعثة الأنبياء والرسل عليهم السلام، والقرآن الكريم، والتعاليم الدينيّة، وطاعة أهل البيت عليهم السلام.
لكلّ إنسان مجموعة من التكاليف. مثلاً: حينما يحلّ وقت الصلاة، عليه أن يُصلّي، وحينما يغزوه عدوّ، يجب أن يواجهه، وحينما يجوع ابنه أو جاره أو أحد أقربائه، يجب أن يسعى إلى تأمين الرزق، وغيرها من الأمور. إذاً، التكاليف متعدّدة، ومن الخطأ الاعتقاد أنّ ثمّة تنافراً بينها، فحاشا لله أن يُكلّفنا بكلّ هذه التكاليف ولا نكون قادرين على الإتيان بها. نعم، في مرحلة التزاحم، يتقدّم تكليف على آخر، إذ نعمل بما هو أهمّ، وهذا لا يعني أنّنا أهملنا التكليف الآخر، بل يبقى له احترامه وأهميّته ووقته.
- يتساءل الشباب عن حجم تأثيرهم في هذا العالم، وكيف يتمكّنون من تشخيص التكليف، والتأثير من خلاله، فما هو السبيل؟
هذا له علاقة ببنية الوعي والقدرة على التشخيص وفهم الوقائع. يجب أن يكون الشابّ طموحاً وقويّاً وواعياً ومتديّناً حتّى يتمكّن من تحديد مساره؛ لأنّ ثمّة علاقة بين هذه العناصر والتشخيص؛ فإذا ضَعُف الإيمان يَضْعُف التشخيص، وإذا ضَعُفَ الوعي يَضْعُف التشخيص؛ لذلك، تجد أنَّ الموفَّق في الحياة الدنيا، وخاصّة إذا كان من أهل العلم والبصيرة والمعرفة، يرى الأمور بشكل أوسع وأشمل، ولا يرى أنّ ثمّة مشكلة بين هذا التكليف وذاك؛ بل يشخّص بهدوء، ويسعى إلى فعله بسلاسة ودون أيّ صعوبة.
على الشابّ أن يعلم أنّ تكليفه وهو شابّ شيء، وفهمه للتكليف الآتي بعد سنة أو سنتين أو خمس أو عشر سنواتٍ شيء آخر، ولتلك اللحظات خصوصيّاتها، فلا يمكن للإنسان في مقتبل عمره أن يكون مؤثّراً في كلّ شيء، كما هو حال البدن؛ فعندما تريد أن تنمّي قدراتك، عليك أن تبدأ بالرياضة يوماً بعد يوم، ساعة بعد ساعة، فتقوى العضلات ويقوى البدن. هكذا القدرات العقليّة، والنفسيّة، والروحيّة، فهي لا تأتي على شاكلةٍ واحدة منذ البداية.
من هنا أقول: على كلّ شابّ أن يضع نصب عينيه -كتكليف أوّليّ- أن يكون أفضل الناس، وأتقاهم، وأشجعهم، وأعلمهم، وهذا يتحقّق بالتعلّم والتوكّل على الله، لأنّنا حينما نواجه العدوّ بشجاعة وتوكّل على الله؛ يفتح لنا الله تعالى أبواب النصر والقوّة ويعطينا المزيد من الإصرار. لذلك، فإنّ أكبر خطأ قد يرتكبه الشابّ هو التردّد والخوف والجبن على مستوى الخيارات. والمطلوب منه أن يلقي بكلّ هذا جانباً، ويُحدّد تكليفه، وقد يستعين بمن هو أكبر وأعلم منه، ثمّ يتوكَّل على الله وينطلق دون أيّ تردُّد، قاطعاً على الشيطان الطريق ليثنيه عن أداء تكليفه والالتزام بأوامر الله تعالى؛ لأنّ التكليف عدوّ الشيطان.
- إلى من يرجع المكلّف في تحديد تكاليفه ومسؤوليّاته على المستوى الفردي والاجتماعي؟
يجب أن نفرّق بين ساحات التكاليف، وهذه نقطة مهمّة جدّاً. في التكاليف الشخصيّة، التشخيص يقع على عاتق المكلَّف، الذي يتحمّل مسؤوليّة تشخيصه؛ لأنّ الفتوى هي حكم كليّ، وأنت عليك أيّها المكلَّف أن تشخّص. وفي الأحكام الاجتماعيّة، ثمّة أمور واضحة أيضاً، فهل تحتاج أن تسأل إذا كانت صلة الأرحام مثلاً واجبة؟ هي واجبة طبعاً. وهكذا في كلّ الأبعاد المرتبطة بالحياة الاجتماعيّة؛ حضور المناسبات، والتعازي، والوقوف إلى جانب المظلوم والمستضعف، وغيرها من الأمور.
أمّا التكاليف المرتبطة بالشأن العام على المستوى السياسيّ، والجهاديّ، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في أبعاده الكبرى والعامّة، فهي تحتاج إلى من يُحدّدها، وهنا، نلجأ إلى الوليّ والقائد ونتّبعه؛ لأنّه يمثّل رأي مولانا صاحب العصر والزمان عجل الله تعالى فرجه الشريف، وهو الأقدر على تشخيص القضايا الكبرى ومصلحة الأمّة. فإذا هاجم بلدنا غازٍ، من البديهيّ جدّاً أن نبادر إلى الدفاع عن أعراضنا وكرامتنا وأرضنا ومقدّساتنا، وهذا لا يحتاج إلى الرجوع إلى أيّ مرجع أو وليّ الأمر. نعم، في الحالات التي يحتمل وقوع خسائر كبيرة أو تتزاحم فيها الأمور، يمكن الرجوع إلى الفقيه الجامع للشرائط ووليّ الأمر لتحديد ما هو الأَوْلى. يتصدَّى الوليّ الفقيه ضمن أدوات ومقدّمات، وهو يحتاج إلى من يساعده ويعينه في تهيئة المقدّمات. مثلاً: في المعركة، يجب أن يُشخّص القائد العسكريّ مقدّمات الدخول في هذه المعركة، من خلال ما يأتيه من معلومات عن السلاح والذخائر وتهيئة كلّ الجبهة؛ لأنّ هذه المقدّمات ستساعد الوليّ في تشخيص التكليف، وكلّما كانت هذه المقدّمات أصفى وأوضح وتحكي الواقع، كان القائد قادراً على تشخيص تكليف كلّ الذين يقاتلون في هذه الجبهة، أو كلّ المسلمين إذا كانت المعركة على مستوى العالم الإسلاميّ. بعد تمام كلّ المقدّمات يأتي دور البصيرة التي يمتاز بها أهل الإيمان والإخلاص، وهي تساعد في تحديد التكليف، وتضيء المشهد أمام الوليّ أو المكلَّف حتّى تتبيّن له كلّ الأمور أو معظمها من مختلف الجوانب.
- كيف يمكن أن نفهم دور البصيرة في رسم تكليف كلّ فرد؟
يقول الله تعالى: ﴿قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ﴾ (الأنعام: 104)، والعلّامة الطباطبائيّ قدس سره يقول في تفسير الميزان: إنّ البصيرة هي عين القلب، والقلب هو مركز الإيمان. وهذا لا يلغي دور العقل أبداً، لأنّ المتبصّر يحتاج إلى العقل والقلب معاً. فحينما يكون عقل المرء سليماً وقويّاً وذهنه صافياً، تتكوّن لديه معرفة واضحة بالوقائع، ويتمكَّن عندها من تشخيص التكليف بشكل أفضل. وحين يكون القلب على المستوى الإيمانيّ أقوى، تكون البصيرة عندها حصيلة العقل والواقع، وهذا هو الإيمان.
صحيح أن لا بصيرة من دون إيمان، ولكنّها لا يمكن أن تتحقّق بالإيمان فقط؛ لأنّ بعض الناس لديهم إيمان ولكنّهم يفتقدون الوعي أو العلم، فيتيهون. فالبصيرة هي نتيجة كلّ هذه العوامل مجتمعةً: العقل والعلم والمعرفة بالوقائع الخارجيّة، في إطار الإيمان السليم والأنوار التي تشعّ من قلب الإنسان.
- هل يعني هذا أنّ البصيرة مطلوبة من الجميع على حدّ سواء؟
يجب أن يتحلّى كلّ مؤمن بالبصيرة؛ لأنّها تساعده في تشخيص تكليفه، وكلّما تعقَّدت الأمور، يحتاج إلى بصيرة أقوى. على سبيل المثال: من شأن الفتن أن تختلط فيها الأمور، ويلتبس الحقّ بالباطل، فيفتتن الناس. ولكن من الذي يخرج من هذه الفتنة سليماً معافى؟ المتبصّر الذي أعطاه الله تعالى بصيرة؛ تارةً يريد أن يفتّش عن تكليفه هو، فيحتاج إلى بصيرة بمقدار إخلاصه في تكليفه، وتارةً يريد أن يشخّص تكليف الآخرين، فيحتاج إلى بصيرة أقوى. ولا يتمكن الشخص من أن يكون ملمّاً بكل الأمور؛ فمن تنقصه معرفة في مجال ما، فليعد إلى من هو أعلم منه.
- الاقتناع، هل هو شرطٌ في أداء التكليف؟
إنّ القناعة ليست شرطاً في تأدية التكليف؛ إذ ليس المطلوب أن تقتنع حتّى تُطيع؛ فقد يكون عقل المكلَّف غير قادر على استيعاب كلّ هذه المصالح، وقد تكون معرفته قاصرة. أمّا الوليّ، فهو الأكثر فهماً للواقع. فحينما يأمر قائدي بأمرٍ ما، عليّ أن أطيعه، حتّى لو لم أكن مقتنعاً بذلك. أمّا لو أردنا أن نربط الطاعة بالاقتناع، لضاع كلّ شيء. وإنّ أحد أهمّ عناصر قوّة الإيمان والتديّن عند المسلمين والمجتمع الإسلاميّ والعالم الإسلاميّ ككلّ هو الطاعة، والتي إذا فُقدت، فَقَدت التكاليف العامّة روحها وقيمتها وتأثيرها.
واسمح لي بالقول إنّه لا يجوز أن ننتقد ونهاجم مَن يخالفنا في التشخيص إن كان مؤمناً أو مخلصاً حسب الظاهر، ولطالما كان هذا الأمر موجوداً منذ زمن الرسول صلى الله عليه وآله وسلم حتّى الآن. نعم، عندما يحين وقت التطبيق والعمل يجب أن نتّحد جميعاً، لا أن نتخلّف، حتّى لو كان فينا من هو ليس مقتنعاً. لذلك، لا بدّ من التسليم المطلق بأنّ ما يقرّره الوليّ والقائد فيه كلّ المصلحة. وحينما أكون مستعدّاً لطاعة وليّ الأمر حتّى في ما لست مقتنعاً به، فهذا يعني أنّني سوف أطيعه بشكل أفضل في حال كنتُ مقتنعاً.
- هل يتطلّب ذلك من الشابّ المؤمن مواكبة الأحداث والتطوّرات في مختلف الميادين؟
كما ذكرتُ سابقاً، المطلوب تحقّق مجموعة عناصر، وهي أوّلاً: الإيمان، والإخلاص، والبصيرة، وثانياً: العلم والمعرفة، وثالثاً: معرفة الواقع بشكل جيّد. وهذه كلّها عوامل تساعد في تشخيص التكليف. عادةً يقوم الشابّ بردّة فعل سريعة، أحياناً في غير محلها، نعم، الروح الثوريّة مطلوبة، لكن في محلّها. إذا كنّا نجهل مسألةً ما، وهذا ليس عيباً، علينا أن نسأل مَن يعرف، وكثيرة هي الأمور التي نتعرّف بها بعد أن نختبر الحياة السياسيّة والعامّة وما شاكل.
من يكون مخلصاً وصافياً ونقيّاً، لا يهتمّ بكلّ هذه الأمور، ويبتعد عن كلّ هذه التسويلات التي تمنعه من المعرفة أو من القدرة على تشخيص التكليف. وحينما يمتلك الإنسان هذه المواصفات، يكون قادراً على تشخيص التكليف.
- هل من كلمة أخيرة أو توصية توجّهونها سماحتكم إلى الشباب؟
أوصي الشباب بالقراءة والمطالعة، خصوصاً أحداث التاريخ، وسيَر أهل البيت عليهم السلام والعظماء والشهداء؛ لأنّ في قراءة هذه الأمور ما يكفي لتنوير القلب ولزيادة المعرفة حتّى يكون الإنسان أكثر حصانةً في الموارد الصعبة التي واجهت من سبقنا من العظماء، من رسول الله وأهل بيته عليهم السلام وجميع الأولياء، وصولاً إلى القادة والسادة.
في ختام هذا الحوار، نشكر سماحتكم على هذا اللقاء القيّم، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يساعد الشباب والشابّات على حُسن تأدية التكليف، وإنارة دربهم كمفتاح للبصيرة.