الشيخ حسن بدوي
قال تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الفتح:4). حين يتذكّر المؤمنون قدرة الله التي لا غاية لها، ويتصوّرون لطفه ورحمته، يملأ قلوبهم موج الأمل وتغمرهم السكينة والطمأنينة.
فكيف السبيل إلى تحصيل السكينة؟ هو ما سترشدنا إليه الصفحات الآتية.
* السكينة في القرآن الكريم
جاء ذكر السكينة في القرآن الكريم، في موارد كثيرة ولأسباب عدّة، منها:
أ. خاصيّة الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: قال تعالى: ﴿إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا﴾ (التوبة: 40). هنا، يذكر الله أنّه اختصّ الرسول صلى الله عليه وآله وسلم، إلى جانب إنزال السكينة عليه، بأوصاف لا تشمل أحداً آخر، وأيده بجنود بشكل خاص.
ب. الحالة القلبيّة: قال تعالى في المؤمنين: ﴿لَقَدْ رَضِيَ اللهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ (الفتح: 18)، فذكر أنّه إنّما أنزل السكينة عليهم لما علمه في قلوبهم؛ فنزولها يحتاج إلى حالة قلبيّة طاهرة سابقة، يدلّ السياق على أنّها الصدق ونزاهة القلب.
ج. الاستعداد السابق: وقال أيضاً: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنزَلَ اللهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَأَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوَى وَكَانُوا أَحَقَّ بِهَا وَأَهْلَهَا﴾ (الفتح: 26).
تذكر الآية أنّ نزول السكينة من عنده تعالى مسبوق باستعداد سابق وأهليّة وأحقيّة قبْليّة، وهو الذي أُشير إليه في الآية السابقة بقوله: ﴿فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ﴾ (الفتح: 18).
د. الإيمان: قال تعالى: ﴿لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾ (الفتح: 4)؛ فزيادة الإيمان رتبةً على الإيمان المتحقّق كان بنزول السكينة، وهو أن يكون الإنسان على وقاية إلهيّة من اقتراف المعاصي وهتك المحارم، مع إيمان صادق بأصل الدعوة الحقّة.
* طرق تحصيل السكينة
تتأتّى السكينة من خلال طرق عدّة، نذكر منها:
أولاً: الثقة المطلقة بقدرة المسبِّب: فعندما يبرز الفارس الشجاع المجرّب لخصمٍ ضعيف جبانٍ، لا شكّ حينئذٍ في أنّ السكينة تتملّك ذلك الفارس، فيكون أكثر رزانة ومهابة؛ لثقته المطلقة بقدرته. أمّا عندما تتنزّل السكينة من عند الله على المؤمنين، فيصبح لها معنى أبعد عمقاً من معنى الرزانة والمهابة والوقار.
وكلّما ذكرها الله سبحانه في كلامه امتناناً بها على رسوله صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين، خصّها بالإنزال من عنده؛ فهي حالة إلهيّة لا ينسى العبد معها مقام ربّه.
ثانياً: التوكّل على الله: لا يمكن أن تتأتّى السكينة من دون التوكّل على الله القويّ القادر المهيمن العليم.
والتوكّل هو: الاعتماد على اللّه تعالى في جميع الأمور، وتفويضها إليه، والإعراض عمّا سواه. وباعثه قوّة القلب واليقين، وعدمه من ضعفهما أو ضعف القلب، وتأثّره بالمخاوف والأوهام.
ومن صور التوكّل التي يذكرها القرآن الكريم، ما يشير إليه قوله تعالى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾ (الفتح: 7). ولتوضيح ذلك، يمكن تقسيم هذه الآية إلى جملتين:
- الأولى: ﴿وَلِلَّهِ جُنُودُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾: وهي تقول للإنسان: إذا كنت مع الله متوكّلاً عليه، فإنّ جميع ما في الأرض والسماء معك.
- الثانية: ﴿وَكَانَ اللهُ عَزِيزًا حَكِيمًا﴾. تقول: إنّ الله يعلم حاجاتك ومشاكلك كما يعلم سعيك وطاعتك وعبادتك.
ومع الإيمان بهذين "الأصلين"، كيف يمكن أن لا يحكم الاطمئنان وسكينة القلب وجود الإنسان؟!
ورد عن الإمام الصادق عليه السلام: "أوحى اللّه عزّ وجلّ إلى داود عليه السلام: ما اعتصم بي عبد من عبادي دون أحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، ثمّ (تكيده) السماوات والأرض ومن فيهنّ، إلّا جعلت له المخرج من بينهنّ. وما اعتصم عبد من عبادي بأحد من خلقي، عرفت ذلك من نيّته، إلّا قطعت أسباب السماوات من يديه، وأسخت الأرض من تحته، ولم أبالِ بأيّ واد يهلك"(1).
ثالثاً: الدعاء: تأتي أهميّة الدعاء في السرّاء والضرّاء، والابتهال إلى الله من خلاله، في أنّه يزيد أمن الإنسان، ويُذهب روعاته وما فيه من وسوسة واضطرابات وقلق. والله تعالى ذكر في القرآن الكريم أنّه يستجيب لمن يلجأ إليه بالدعاء، قال سبحانه: ﴿أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ﴾ (النمل: 62)؛ فالمضطرّ الذي يلجأ إلى الله في الدعاء: (إِذَا دَعَاهُ)، فإنّه سبحانه يستجيب لدعائه، ويكشف عنه السوء.
وفي روايات أهل البيت عليهم السلام أيضاً ذكر لمسألة استجابة الدعاء، فعن الإمام الصادق عليه السلام: "إذا أُلهِم أحد [كم] الدعاء عند البلاء، فاعلموا أنّ البلاء قصير"(2).
* نموذج: السيّدة هاجر عليها السلام
لتوضيح ما سبق، يمكن جمع هذه العناصر الثلاثة: الإخلاص القلبيّ، والتوكّل على الله، والدعاء في قصّة واحدة، وذلك عندما أودع أبو الأنبياء إبراهيم عليه السلام زوجته هاجر عليها السلام في وادٍ غير ذي زرع، وترك معها ابنهما إسماعيل عليه السلام وهو يومئذ طفل رضيع، وقال: ﴿ربَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ﴾ (إبراهيم: 37).
ذهب إبراهيم خليل الله عليه السلام بعد ذلك إلى شأنه، وترك هذه المرأة والطفل الرضيع وحدهما في هذا الوادي القفر، وكلّ ذلك بأمر الله تعالى، فنفد ما كان لديهما من الماء، وعطش الطفل وغلب عليه الظمأ، وراحت المرأة تبحث عن الماء فلم تجد له أثراً، وأخذ الطفل يصرخ ويضرب بيديه ورجليه، والأمّ تهرول هنا وهناك، في حالة من اللهفة والخوف والتوتّر، فتصعد على الصفا تارة، تنظر إلى الأفق البعيد بحثاً عن الماء، ثمّ تهبط وتهرول باحثة عن الماء إلى جانب جبل المروة، وهي تدعو الله تعالى أن يرزقهما الماء في هذا الوادي القفر، عند البيت الحرام. ففجّر الله تعالى الأرض بالماء تحت قدمي الطفل، وأسرعت الأمّ إلى الماء، وروت طفلها الرضيع، وأبدل الله خوفها أمناً، ولهفتها قرّة عين، وتوتّرها سكينة وطمأنينة.
ولا بدّ من أن ينطوي هذا المشهد على سرّ خاصّ استدعى نزول رحمة الله تعالى بالطمأنينة والسكينة بحيث حلّ الأمن والأمان في ذاك الوادي القفر، وأصبح هذا المشهد مصدراً ومبدأً لكثير من البركات، واستدعى أن يثبّته الله تعالى في حجّ أجيال الموحّدين عند بيته الحرام.
وميزة هذا المشهد عن غيره أنّه كان يجمع يومئذ بين العناصر المذكورة آنفاً: الإخلاص القلبيّ، والتوكّل على الله، والدعاء مع السعي والانقطاع إلى الله تعالى، حيث إنّ القلق والاضطراب اللّذين ساورا سيّدتنا هاجر i سرعان ما تبدّدا وحلّت محلّهما السكينة والطمأنينة، اللتان تحقّقتا بأسبابهما الآتية:
1. الحاجة: إنّ الحاجة التي كان يمثّلها ظمأ إسماعيل الرضيع، والفقر إلى الله، من أسباب نزول السكينة والرحمة الإلهيّة.
2. السعي: وقد جعل الله تعالى السعي والحركة في حياة الإنسان مفتاحاً للرزق.
3. الدعاء: إنّ دعاء السيّدة هاجر عليها السلام وانقطاعها إلى الله واضطرارها إليه عزّ شأنه في طلب الماء في تلك الأرض القاحلة، هو سبب استجابة الدعاء ونزول السكينة عليها.
ختاماً: إنّها إطلالة على طرق تحصيل السكينة والطمأنينة، لعلّنا نحظى بنظرة من الله إلينا ورعايته لنا في كلّ الظروف.
(1) الحرّ العاملي، وسائل الشيعة، ج 15، ص 211.
(2) الشيخ الكليني، الكافي، ج 2، ص 471.