إنّ إحدى أكثر المراحل أهميّةً في حياة أمير المؤمنين عليه السلام هي مرحلة الإمامة. والإمامة هنا لا تعني رئاسة الدين والدنيا، بل تلك التي ذكرها الله - تعالى- للنبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124)، لما يتمتّع به صاحبها من خصوصيّات استثنائيّة.
* مقام الإمامة
﴿إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَاماً﴾ (البقرة: 124)، متى أبلغ بذلك إبراهيم عليه السلام؟ كان بلا شك في زمن كِبَرِ إبراهيم عليه السلام؛ لأنه عليه السلام في الجواب يقول: ﴿وَمِنْ ذُرِّيَّتِي﴾ (البقرة: 124)، وقد أوتي النبيّ إبراهيم عليه السلام ذريّةً في شيخوخته؛ ﴿الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ﴾ (إبراهيم: 39). فهذه الإمامة المذكورة في الآية مرتبطة بأواخر حياة النبيّ إبراهيم عليه السلام، في حين أنّه بُعث نبياً منذ عقود قبل ذلك، والأنبياء هم رؤساء الدين والدنيا. ولكن هذه الإمامة أعطاه الله -تعالى– إيّاها لاحقاً. إذاً، هي مرحلة أخرى، إنّها شيءٌ أسمى، إنّها أمرٌ معنويٌّ. لا يمكن قياس مسألة الإمامة أو وزنها بموازيننا العرفية. هذا ما بيّنه الإمام الصادق عليه السلام أمام حشود الناس، كما روى عَمْرو بْن أَبِي الْمِقْدَامِ قَالَ: رَأَيْتُ أَبَا عَبْدِ اللَّه عليه السلام يَوْمَ عَرَفَةَ بِالْمَوْقِفِ وهُوَ يُنَادِي بِأَعْلَى صَوْتِه: "أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ رَسُولَ اللَّه صلى الله عليه وآله وسلم كَانَ الإِمَامَ، ثُمَّ كَانَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، ثُمَّ الْحَسَنُ ثُمَّ الْحُسَيْنُ عليهما السلام..."(1). لقد كان النبيّ إماماً أيضاً، ومقام الإمام هو بذلك المعنى [المقصود].
للإنصاف إنّ فهم مقام الإمامة خارج عن إدراكنا.
* شخصيّة الإمام عليه السلام في المعايير الدّنيويّة
بغض النظر عن المرتبة المعنويّة العالية والمهمّة جدّاً، فلأمير المؤمنين عليه السلام أيضاً شخصيّة فريدة وفقاً للمعايير الدنيويّة والبشريّة. فبعد النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم، لعلّه لا يمكن الإشارة إلى أيّ شخص آخر يتمتّع بالخصوصيّات التي عند أمير المؤمنين عليه السلام. لذلك، نرى أنّ أتباعه وغير أتباعه يكنّون له الحبّ؛ فكثيرون هم الذين يحبّونه من غير الشيعة، ومن غير المسلمين، ومن غير المتديّنين بأيّ دين.
* خصوصيّات فريدة
أولئك الذين عرفوا الإمام عليه السلام، ويدركون المفاهيم المتعلّقة بهذا الرجل العظيم، يريدون ذلك الإمام ويحبّونه، [وهذا] بسبب الخصوصيّات الموجودة في هذا الرجل العظيم، وأبرزها، في المقام الأوّل:
1. العدالة:
تلك العدالة غير المتساهلة، والشاملة، ومن دون أيّ استنسابيّة، هذه العدالة العجيبة والغريبة التي يحار المرء حقّاً حين يسمع عنها.
2. الزهد:
أي عدم اكتراثه بملذّات الدنيا لشخصه. هذا الرجل العظيم الذي كان يعمّر الدنيا، ويقود الناس إلى النموّ والرقيّ المادّيّ والروحيّ، لم يكن يريد لنفسه شيئاً.
3. الرحمة والعزم:
كذلك نحار في شجاعة ذلك العظيم، وقلبه الرحيم تُجاه الضعفاء، وعزمه الراسخ تُجاه المتغطرسين والظالمين والمستكبرين، وتضحياته في طريق الحقّ.
حقّاً، ثمّة أشياء فريدة في حياة هذا العظيم، وقد اجتمعت هذه الصفات العجيبة والغريبة فيه.
* الاقتداء بالخصوصيّات الشّخصيّة للإمام عليه السلام
إنّ هذه الخصوصيّات كلّها تجعل هذا العظيم في ذروة الكمال؛ وهو ما يعني أنّها موجودة فيه بمنتهى الكثرة والتألّق، وهي التي ينبغي أن نحتذيه قدوةً لنا من خلالها. نحن متأخّرون كثيراً في هذه المجالات، سواء على المستوى الشخصيّ، بحيث يجب على المرء أن يقتدي بخصوصيّات هذا العظيم ويتّبعه، أم على مستوى الآداب المتعلّقة بممارسة الحكم.
اليوم، الحكم بأيدينا، نحن أتباع أمير المؤمنين عليه السلام. لذلك، لا بدّ من أن نراعي الزهد نفسه، وكذلك الطريقة نفسها، والخصوصيّات، والعدالة، والشجاعة في كلّ أفعالنا وسلوكنا. وبالطبع نحن متأخّرون؛ لذلك يجب أن نسعى إلى المضيّ قدماً في هذه المجالات.
* أداء التكليف وشوقه عليه السلام إلى الشهادة
لقد وصل التزام الإمام عليه السلام بالتكليف وشوقه إليه إلى أعلى درجاته. لذلك، ورد في الخطبة 156 في نهج البلاغة أنّه سأل النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم:
"يا رسول الله، أوليس قد قلت لي يوم أحد حين استشهد من استشهد من المسلمين، وحيّزت عنّي الشهادة، فشقّ ذلك عليّ، فقلت لي: أبشر فإنّ الشهادة من ورائك؟"؛ وكأنّ الإمام عليه السلام يسأل: حسناً، والآن قد مرّت سنوات، فلماذا لم أستشهد؟
يتابع: "فقال لي صلى الله عليه وآله وسلم: إنّ ذلك لكذلك، فكيف صبرك إذاً؟"؛ أي عزيزي عليّ، هذا صحيح، سوف تستشهد، ولكن عندما تصير الشهادة من نصيبك، كيف ستصبر على الاستشهاد؟ "فقلت: يا رسول الله، ليس هذا من مواطن الصبر"؛ هذا ليس مكاناً للصبر، بل الصبر يكون على الأمر المرّ وغير المرغوب فيه، "ولكن من مَواطن البُشری والشكر"(2).
طلب الشهادة هذا هو من خصوصيّات أمير المؤمنين عليه السلام.
* على خُطى الأمير عليه السلام
في وقتنا الحاضر، ثمّة رجال اقتدوا بأمير المؤمنين عليه السلام واتّبعوه؛ فكانوا عشّاقاً للشهادة، وظلّوا يسعون وراءها، حتّى كانت من نصيبهم. فالشهيد قاسم سليماني مثلاً، كان قد هدّده الأعداء بالقتل، فقال لأصدقائه: "إنّهم يهدّدونني بالشيء الذي أبحث عنه في الجبال والصحاري والوعور والمرتفعات!"، هكذا يكون الاقتداء بالإمام عليه السلام.
نسأل الله أن يجعلنا من أتباع هذا الطريق لنسلكه، وأن يجعلنا بين الذين يتمتّعون بهذه الميزة العظيمة، إن شاء الله.
(*) كلمة الإمام الخامنئيّ دام ظله، بتاريخ 2/5/2021م.
(1) الشيخ الكليني، الكافي، ج 4، ص 466.
(2) نهج البلاغة، ج 2، ص 49-50.