-الرواية الإيرانيّة نموذجاً-
د. زينب الطحّان
يقول سماحة السيّد القائد دام ظله: "لا بدّ من نشر الحقائق بمنطق قويّ وخطاب متين وعقلانيّة تامّة، مع تزيينه بالعاطفة والمشاعر الإنسانيّة وتطبيق الأخلاق. علينا جميعاً اليوم أن نتحرّك في هذا الميدان، كلّ واحد بطريقةٍ وبالسَّهم الذي لدينا في هذا الطريق"(1). عملاً بهذا المبدأ يسهم الأدباء الملتزمون في الجمهوريّة الإسلاميّة في تشكيل بنية أدبيّة، تؤثر بلغتها الخاصّة، في تشكيل بنية المجتمع وقيمه الإسلاميّة منطلقة من مفهوم جهاد التّبيين، وتشكّل الرّواية الإيرانيّة الملتزمة نتاج هذا الجهاد.
يطلّ هذا المقال على روايتين اشتهرتا بتأثيرهما في القارئ؛ لنبيّن هل اقتصر هذا التأثير على بلوغ العاطفة الأدبيّة أم تعدّى إلى الفكر أيضاً؟!
* ملامح جهاد التبيين في الرواية
إذا أخذنا نموذجين، الأوّل هو رواية "ها هو اليتيم في عين الله"، والثانية "أناه"، نجد ملامح ثقافة "جهاد التبيين". الرّواية الأولى تتحدّث عن المرحلة الأولى من حياة خاتم الأنبياء النّبيّ الأعظم محمّد صلى الله عليه وآله وسلم؛ فهي تحمل همّاً رساليّاً وهو كتابة السّيرة النبويّة الشّريفة، يرافقها همٌّ آخر هو الهمّ الأدبيّ. وهذا بحدّ ذاته يندرج تحت خطابات "جهاد التبيين" الدّاعية إلى كشف مزايا حياة الأنبياء والأئمّة عليهم السلام ودعواهم وتعاليمهم. إذ يقول الإمام الخامنئيّ دام ظله - بما معناه- إنّ إحياء أمر أهل بيت النّبوة عليهم السلام هو حركة أساسيّة في جهاد التبيين، وهذه الرّواية الأدبيّة التي تسرد جزءاً من حياة نبيّنا الأعظم صلى الله عليه وآله وسلم هي حتماً تمثّل هذا الجهاد من منظوره الأدبيّ والسّرديّ. فالإمام دام ظله يشدّد دوماً على دور الأدب في إحياء الدّين، وغرس قيمه الكبرى في الجيل الناشئ، فهو لا يترك مناسبة ثقافيّة إلّا ويتحّدث فيها عن هذا الدور البنّاء للأدب، وخصوصاً الرّواية والقصّة.
* أولاً: "ها هو اليتيم في عين الله"
تغوص هذه الرواية في أعماق التاريخ الدّينيّ في شبه الجزيرة العربيّة، وتحرص حرصاً شديداً على أن تتلبّس فيه؛ إذ يسترجع نصّها الأدبيّ أسئلة الواقعيّ والمحتمل، الرّوائيّ والتاريخيّ؛ المؤتلف والمختلف، غير أنّها ستختار أن تنزاح عن التاريخ عموديّاً، عبر عمليّة حفر دقيقة في وقائعها وإشباعها بالتفاصيل. وهي لا تستلهم الشرط الهزليّ واللّعبيّ –وهو من عناصر الفن الأدبيّ؛ بل جعلت سياقها مفعماً بروح التاريخ سياقيّاً؛ أي أنّها تعتمد المسار الجادّ، وإن لم يكن كاملاً.
* البنية الثقافيّة
مجرّد قراءة العنوان "ها هو اليتيم في عين الله"، يستحضر ذهن المتلقي أفقاً مصاحباً للخطاب الدينيّ، ويرافقه في الرّواية منظوران لشخصيّة النّبيّ محمّد صلى الله عليه وآله وسلم: الأوّل، منظور الشخصيّة التاريخيّة الواقعيّة. والثاني، الشخصيّة المقدّسة التي رافقتها العناية الإلهيّة منذ لحظة الولادة.
هذان المنظوران اللذان تمثّل كلاهما في الرّواية، ارتبطا بخطاب سرديّ تاريخيّ مشوب بتفكيك عناصر البنية الثقافيّة للبيئة العربيّة في تلك الحقبة المزامنة. وهذا ما ملّك الرّاوي قدرة كبيرة على إنتاج خطاب جماليّ أدبيّ منح الرّواية مرافعة بجرعة ثقافيّة عالية، أثبتت في كلّ مناحي السّرد أنّ ما تحكيه ليس خيالاً، ولكنّه حقيقة في إطار مغاير من الرؤية التقليديّة لسيرة النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم؛ رؤية تفجّر معها صنوف التأويل الدّيني لفقهاء السّيرة، وتؤكّد أنّ القطيعة المزعومة بين الجاهليّة والإسلام لن تكون في صالح الإسلام، كما يُشير الناقد العربيّ والإسلاميّ "محمّد أركون". وهنا، تأتي لحظة التنوير الأدبيّ لتكتمل مع لحظات الوعي الثقافيّ الدّينيّ، الذي يريده الإمام الخامنئيّ دام ظله من أصول جهاد التبيين، إذ يقول: "كانت مسألة التبيين إحدى الإستراتيجيّات الأساسيّة لعملنا منذ البداية"(2).
* ثانياً: رواية "أناه" والزمن المراوغ
تستحوذ عليك هذه الرّواية الإيرانيّة حين تمسك بها، تُدخلك إلى عالم يعود بك سنوات بعيدة قبل قيام الثورة الإسلاميّة، حين كان ممنوعاً على المرأة أن تخرج بخمارها وحجابها، وحين كان السُّفور يُفرض على مجتمع مسلم تقليديّ في تمسّكه بالدّين وتعاليمه. الرّواية هي رحلة تاريخيّة، يسبح فيها الزمن متكسّراً على أهداب حبّ لم يرَ النور، في المقهى الفرنسيّ حيث يجلس "علي" و"مريم" و"مهتاب". كانت باريس في تلك الحقبة ملاذاً للإسلاميّين؛ هرباً من بطش الشاه. يتابع السّرد مسار شخصيتَيْ "علي" و"كريم"، وكلاهما يحمل الوجه الأوّل ونقيضه بين الإيمان الدينيّ والتفلّت من عقاله، في خضمّ أجواء منفصمة في مجتمع متمسّك بكلّ تلابيب الدّين، وبين سلطة تراوح في الاندماج بركب الحضارة الغربيّة آنذاك، حين كانت الدّعوة إلى الوجوديّة وإنكار وجود الله في تصاعد كبير. "كريم"، الذي حاول تجريب الصّلاة في خضمّ سُكره قبل قتله بأيّام، كان الوجه الآخر لـ"عليّ" وصراعه بين انتماء حمله لتعاليم الدرويش مصطفى وبين قسّ فرنسيّ، كان كلّ ما فيه يذكّره بالدرويش مصطفى، وكأنّه يختزل المسافة الزمنيّة من خمسينيّات القرن العشرين في إيران إلى أوّل الثمانينيّات في باريس. هاتان الصورتان، وجّهتا الدرويش مصطفى الإيرانيّ والقسّ الفرنسيّ، وشكّلتا هويّة زمنيّة فاعلة بالنسبة إلى شخصيّة "علي"، أعادت إليه توازنه إلى حدّ أبقاه مسيطراً على مجرى حياته، التي كانت تسيّرها ظروف بلاده القاهرة. فكيف حدث أن تاه "علي" بين شوارع باريس وبرجها العاجيّ، وهو يتخيّل نفسه في شارع حارته في طهران؟! البرودة وحدها أعادته إلى الواقع، حين لمس ذلك العمود الملتصق ببرج الإليزيه، فاقشعرّ جسمه وانتفض لذكريات طفولته وصباه، كيف أنّ برودة باريس هذه لا تشبه ألفة شوارع عاصمته!
* جهاد التبيين في رواية "أناه"
في هذا التصوير الرّوائيّ، تبرز دلالات الروح والانتماء ومعانيهما عند الشعب الإيرانيّ الذي اختار حكم الإسلام بعد انتصار الثورة، وبعد صراع مرير بين الانتماء للغرب أو الشرق، فكانت لا شرقيّة ولا غربيّة؛ بل حكومة إسلاميّة صافية النّقاء في بُعدها التّاريخيّ المتّصل بزمن النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وأهل بيته الأبرار عليهم السلام. وفي كلّ هذا التصوير الدلاليّ، تظهر روحيّة جهاد التبيين الذي اعتمدته الرّواية في سرد مرمّز وغير مباشر؛ فأدّت لعبة الزمن المتكسّر في السّرد بين باريس وطهران فلسفة تقضي بالقول إنّ الزمن الثقافيّ أرفع منزلة من الزمن الفيزيائيّ الطبيعيّ، فهو يحمل في ثوانيه ودقائقه تشظّياً لطالما عاشه "عليّ" حتّى عندما كان في كنف جدّه "عبد الفتاح"، زمن ظلّ العباءة التي يرخي عليها "عليّ" كلّ إخفاقاته. وعندما كاد ينجح في فرنسا، أعادته طهران إليه على صهوة زمن مليء بعنف الحرب التي شنّها "صدّام" ضدّ بلاده، فغادر الدّنيا في زمن فعليّ روحيّاً قبل أن يغادرها جسديّاً، وبقيت كلمات "يا علي مدد" التي يردّدها على مسامعه "الدرويش مصطفى" هي المفتاح الذي لم يعرف "علي" أن يكشف سرّه، أو حتّى أن يؤمن به.
* خطابٌ متين
إنّ هذه الروايات هي مفتاح من مفاتيح الشّعب الإيرانيّ الذي اختار كشف حقيقته الإيمانيّة بدين الإسلام، والتي دفع ثمنها غالياً، وما يزال. لذلك؛ تبقى روح جهاد التبيين هي الروح الأمثل التي يطرحها الأدب الإيرانيّ الملتزم بقضايا شعبه وأمّته.
(1) الإمام الخامنئيّ دام ظله حول جهاد التبيين في 27/09/2021م.
(2) في خطبه له دام ظله في تاريخ 4/7/2011م.