آية الله الشيخ عبّاس الكعبي(*)
العمل الثقافيّ عبارة عن "حركة شاملة، في محاولة للتأثير في العقول، والضمائر، والعواطف، والأحاسيس، والأعراف، والعادات الفرديّة والاجتماعيّة، بهدف تصحيحها وتغييرها". في هذا المقال، سنتعرّف على عناصر هذا التعريف.
* العنصر الأوّل: العمل الثقافيّ حركة شاملة
يختلف العمل الثقافيّ عن العمل التعليميّ والتربويّ في أمور جوهريّة؛ فحركة العمل الثقافي حركة شاملة، تتضمّن التعليم، والتربية، ونظام علاقات وصداقات، واهتمام اجتماعيّ، ومساواة، ومساعدات، وخدمات إنسانيّة، وغيرها. وأحياناً قد يكون العمل الثقافيّ دفاعاً، وأمناً، وحلّاً للمشاكل، ومعايشة للواقع، وما شابه ذلك. هذا كلّه يسمّى عملاً ثقافيّاً؛ فهو ليس إلقاء محاضرات فقط!
تشرح الأحاديث الشريفة العمل الثقافيّ أنّه حركة شاملة، تدلّ على أنّ حقيقة الإيمان لا تُستكمل عند العبد حتّى تكون فيه ثلاث خصال، وقد وردت في حديث الإمام الرضا عليه السلام: "التفقّه في الدين، وتدبير المعيشة، والصبر على النائبة"(1).
العمل الثقافيّ إذاً، هو اجتماع هذه العناصر الثلاثة معاً، وليس واحدة منها فقط؛ فالصبر على النائبة مثلاً يحتاج إلى ثقافة، وأيضاً تدبير المعيشة يحتاج إلى ثقافة، فهو عدم الإسراف. وهكذا، فالعمل الثقافيّ ليس الخضوع لدورات تعليميّة، وليس عملاً جامعيّاً أو حوزويّاً أو تربويّاً خاصّاً، إنّما هو عملٌ شاملٌ ومتكامل.
* العنصر الثاني: التأثير في العقول
أوّل ما ينبغي التركيز عليه في العمل الثقافيّ هو التأثير في العقول؛ لأنّ الإنسان كائنٌ حيّ وحياته في عقله؛ لذلك ينبغي أن يتأثّر العقل بالعمل الثقافيّ، وذلك يتحقّق عبر خطوات، هي:
1- إثارة العقل: ينبغي أن يُستثار العقل ليُخرج دفائنه، وإن لم ينجح الخطاب الثقافيّ في تحريك العقول فهو ليس بموفّق. مثال ذلك: عندما تعطي دورةً في الفلسفة؛ ليتعلّم منها الطلّاب مجموعة مصطلحات ومعارف عامّة، ولكنّها لا تقوم بدورها في هزّ عقله، فتلك الدورة لا فائدة تُرجى منها.
2- إضافة التذكير إلى الإثارة: ينبغي أن تجعل الشخص الذي تقدّم له العمل الثقافيّ يفكّر، فـ"تفكّر ساعةٍ خيرٌ من عبادة سنة"(2)، وهو يفكّر حتّى ينتقل من المجهول إلى المعلوم.
3- تحرير العقول: كما في التكتيك العسكريّ، إن وُجِدت بقعة محتلّة، فيجب التخطيط في البداية لتحريرها من المحتلّ. كذلك العدوّ قد يسيطر على هذا العقل؛ لذلك ينبغي أن يحرّره العمل الثقافيّ من ثلاثة عناصر: الهوى، والدنيا، والشيطان. فقد ورد في الآية الشريفة: ﴿اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسَابُهُمْ وَهُمْ فِي غَفْلَةٍ مَّعْرِضُونَ* مَا يَأْتِيهِم مِّن ذِكْرٍ مَّن رَّبِّهِم مُّحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ* لَاهِيَةً قُلُوبُهُمْ﴾ (الأنبياء: 1-3). والقلوب هنا تعني العقول، والقلب لاهٍ بأشياء أخرى؛ لذلك يجب أن يرسم العمل الثقافيّ خطّة لتحرير عقل ذلك الإنسان، وإزالة الموانع عنه عبر الخطاب الثقافيّ؛ حتّى تؤثّر فيه.
4- إيقاظ العقل وتنبيهه: في خطاب العقول، يجب أن يقترن التفقّه بالعلم. فالجهل ينبغي أن يتحوّل إلى علمٍ، ولكنّ العلم وحده لا يكفي؛ لذا يجب إضافة اليقظة والتنبيه إليه؛ لأنّ مشكلة العقول تكمن في شقّين: جهل وغفلة. الخطاب الثقافيّ قد يُعالج الجهل، ولكنّه لا يعالج الغفلة. يجب معالجة الجهل والغفلة معاً. مضافاً إلى هذه الأمور، نحتاج إلى إيقاظ العقل وتنبيهه من خلال التفكير بنعم الله: ﴿وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللهِ عَلَيْكُمْ﴾ (آل عمران: 103). من هنا، من المهمّ أن تكون عمليّة الإيقاظ، والتنبيه، والتذكير، والتلقين عمليّةً مستمرّة، دون أن يتوقّف أيّ عامل من هذه العوامل.
* العنصر الثالث: التأثير على الضمائر والوجدان
ينبغي إحياء الفطرة الميّتة ومخاطبتها من خلال العمل الثقافيّ، عن طريق تعريف الإنسان بالتوحيد، والإشارة إلى خلق الإنسان، ومسير العالم، وهو ما أشارت إليه بعض الروايات، مثل: "رحم الله امرأً عرف من أين، وفي أين وإلى أين؟"(3)، وكذلك: "البعرة تدلّ على البعير، وآثار الأقدام تدلّ على المسير، أفسماءٌ ذات أبراج، وأرض ذات فجاج لا تدلّان على اللطيف البصير؟"(4). وكذلك قول الله تعالى حول خلق الإنسان: ﴿هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا﴾ (الإنسان: 1). فهذه الأمثلة تحيي ضمير الإنسان وتهزّه.
وثمّة آياتٌ أخرى تتحدّث عن دليل التوحيد كقوله تعالى: ﴿أَفَرَأَيْتُم مَّا تَحْرُثُونَ* أَأَنتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ* لَوْ نَشَاء لَجَعَلْنَاهُ حُطَامًا فَظَلَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ﴾ (الواقعة: 63-65)، أو حول المعاد والنشور: ﴿وَاللهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ﴾ (فاطر: 9).
* خطاب تحريك الضمائر
الهدف من هذا الخطاب هو إحياء الفطرة والضمير. فهل يحيا الضمير من خلال التوجّه والتوحيد أم من خلال قضيّة إنسانيّة اجتماعيّة؟ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في الخطاب الحسينيّ لبني أمية: "يا شيعة آل أبي سفيان، إن لم يكن لكم دين، وكنتم لا تخافون المعاد، فكونوا أحراراً في دنياكم"(5).
وفي ما يأتي، نقدّم أمثلة لإيضاح هذه الفكرة:
1- خطاب الرسول صلى الله عليه وآله وسلم: أحدهم سأل الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم: "يا رسول الله، كيف يحيي الله الموتى، وما آية ذلك في خلقه؟" كان يسأل عن المعاد. لم يجب الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم الرجل جواباً فلسفيّاً، بل قال صلى الله عليه وآله وسلم له: "أما مررتَ بوادي أهلك محلاً (ممحلاً)؟ قال: بلى، قال: أمَا مرَرَت به يهتزّ خضراً؟" قال: نعم. قال صلى الله عليه وآله وسلم: "فكذلك يحيي الله الموتى، وذلك آيته في خلقه"(6)؛ أي حياة هذا الوجود، كما جاء في بعض التفاسير.
وفي حادثة أخرى، قال المشركون لرسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: إن نتّبع الهدى معك نتخطّف من أرضنا، فنحن إن كنّا معكم أُهِنّا، أو شُتمنا، أو أُفقِرنا، أو أُضعفنا. كيف أجابهم الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ؟ كيف كان عمل رسول الله الثقافيّ؟ كان يشرح لهم التوحيد والمعاد، ثمّ بعد ذلك يقول قول الله تعالى: ﴿مَن كَانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعًا﴾ (فاطر: 10)؛ لن تُتخطّفوا من أرضكم طالما كنتم مع الله، فالقوّة والعزّة والعظمة كلّها لله، ولن تكونوا ضعفاء، والله معكم: ﴿إِن تَنصُرُوا اللهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾ (محمد: 6). إنّ تحويل هذه الآية إلى خطابٍ ثقافيّ وواقع مجسّد في بيئة المقاومة، يسمّى عملاً ثقافيّاً.
2- خطاب الإمام الحسن عليه السلام: دخل جنادة بن أبي أُميّة على الإمام الحسن المجتبى عليه السلام في مرضه الذي توفّي فيه، وطلب منه موعظة. فأجابه عليه السلام: "إذا أردت عزّاً بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فاخرج من ذلّ معصية الله إلى عزّ طاعة الله عزّ وجلّ"(7). لقد ربط الإمام عليه السلام العزّة والكرامة بقضيّة المعاد والتوحيد. هذا أسلوب من أساليب العمل الثقافيّ لإحياء الضمائر.
(*) عضو مجلس الخبراء في الجمهوريّة الإسلاميّة.
1- عن الإمام الصادق عليه السلام: "لا يصلح المرء المسلم إلّا بثلاث: التفقّه في الدين، والتقدير في المعيشة، والصبر على النائبة". من لا يحضره الفقيه، الصدوق، ج 3، ص 166.
2- مستدرك الوسائل، المحدّث النوري، ج 11، ص 183.
3- موسوعة العقائد الإسلاميّة، الريشهري، ج 2، ص 303.
4- بحار الأنوار، المجلسي، ج 66، ص 134.
5- اللهوف، ابن طاووس، ص 71.
6- مسند أحمد، ج 4، ص 11.
7- بحار الأنوار، (م. س.)، ج 66، ص 134.