الشيخ بلال حسين ناصر الدين
موقف واحد كان كفيلاً بأن يفضح مكنونَ نفسه التي أخفى معايبَها ردحاً طويلاً من الزمن، ويقلِب مآل أمره رأساً على عقب، حتّى صار في عداد المطرودين من رحمة الله، وخرج من جنّته مذموماً مدحوراً، بعد أن كان بين الملائكة مكرّماً.
هي العصبيّة التي تملّكت إبليس حتّى تمكّنت منه، فأردته صريعاً بين يدي الشقاء الأبديّ. فبينما هو يزهو بعنصريّته ويتكبّر، جاء الأمر الإلهيّ كالصاعقة على نفسه المتخمة بالعُجب والتكبّر أن: اسجدوا لآدم، أنت ومن معك، فسجدوا جميعاً طائعين، إلّا هو؛ فقد أبى واستكبر، وأعلن حينها سرّ جحوده لأمر مولاه بغلظةٍ قائلاً: ﴿أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ﴾ (الأعراف: 12)، هذا ما كان يراه متوّهماً بأنّ عنصره أرفع شأناً من عنصر آدم، وأنّى لمن كان هو أعلى أن يسجد لمن هو أدنى حسب ظنّه؟!
هكذا تفعل العصبيّة بأهلها، حيث تغشي بصيرتهم بالجهل، وتعمي أعينهم عن الحقّ، حتّى يصبحوا أسرى الأهواء، ويصل بهم الحال إلى أن يطغوا ويتعدّوا حدود ربّهم سبحانه، وهم بذلك قد اتّخذوا الشيطان لهم وليّاً وانقادوا إلى نزغاته، حتّى صار لهم أسوة وإماماً. كأولئك الذين يتعصّبون لقبائلهم أو عشائرهم أو مناطقهم أو أعراقهم، وغير ذلك من مظاهر العصبيّة المنتشرة بين الناس منذ خُلق آدم عليه السلام إلى يومنا هذا. ولا غرابة لو علمنا أنّ حروباً سُفكت فيها الدماء، وهُتكت فيها الأعراض، ودُمّرت فيها البلدان، كان منشؤها العصبيّة العمياء: كالحربين العالميّتين الأولى والثانية، وكذلك الاحتلال الصهيونيّ الغاشم لفلسطين، وكذلك العنصريّة المقيتة التي تسود المجتمع الأمريكيّ ضد المواطنين الزنوج، وغيرها الكثير من أشكال العصبيّات.
لقد نهى الإسلام عن كلّ أشكال العصبيّات وعدّها من موروثات الجاهليّة، حيث قال سبحانه: ﴿إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجَاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَى رَسُولِهِ وَعَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الفتح: 26)، فإنّ أهل الجاهليّة قد عاندوا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وواجهوه بعصبيّتهم القبليّة، التي أعمت بصيرتهم عن لزوم الحقّ واتّباعه.
وقد عُدّ المتعصّب خارجاً عن بوتقة المؤمنين، كما ورد عن النبيّ الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حيث قال: "ليس منّا من دعا إلى عصبية، وليس منّا من قاتل على عصبيّة، وليس منّا من مات على عصبيّة"(1)؛ ففي هذا الحديث، يضع الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم -لأولئك الذين يدّعون انتماءهم إليه وهم يعيشون عصبيّتهم القبليّة- حدّاً حاسماً، بأن لا تظنّوا أنفسكم مؤمنين حقّاً، فلو كنتم كذلك، لنبذتم كلّ أشكال العصبيّات من نفوسكم، ولكان الإسلام المنادي بالحقّ، هو المعيار الأساس في علاقاتكم وحياتكم.
أخيراً، إذا كان لا بدّ من عصبيّة، فلتكن في ما يحبّه الله ويرضاه، وهو كما عبّر عنه الإمام عليّ عليه السلام: "فليكن تعصبّكم لمكارم الخصال ومحامد الأفعال ومحاسن الأمور..."(2).
1.الهندي، كنز العمّال، ج 3، ص 510.
2.الشريف الرضي، نهج البلاغة، ج 2، ص 149.