كوثر الحسينيّ
سيّدتان عظيمتان من سيّدات هذا البيت الكريم الذي طهّره الله تطهيراً، عاصرتا الإمام العسكريّ عليه السلام، وكان لهما دورٌ في حياته عليه السلام، رغم أنّ ما نقله التاريخ عنهما كان شحيحاً، لكنّه يكفي ليصلنا عبقُ حياتهما المباركة. إنّهما السيّدة حكيمة والسيّدة نرجس عليهما السلام.
فمن هما هاتان السيّدتان الجليلتان؟ وما الدور الذي قامتا به في زمن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام؟
أوّلاً: السيّدة حكيمة عليها السلام
هي حكيمة بنت الإمام محمّد بن عليّ الجواد عليه السلام، اسمها أمامة، ويُقال فاطمة(1)، وأمّها سمانة المغربيّة. لم تتعرّض المصادر لتأريخ ولادتها، ولكن حيث إنّ الإمام الجواد عليه السلام استشهد في سنة 220هـ(2)، يمكن القول إنّها ولدت في العقد الثاني من القرن الثالث الهجريّ، وقيل عام 215هـ في المدينة المنوّرة. وقيل إنّها توفّيت سنة 274هـ(3)، ودُفنت في حرم الإمامين العسكريّين عليهما السلام.
عاصرت أربعةً من الأئمّة عليهم السلام؛ وهم والدها الإمام الجواد عليه السلام، وأخوها الإمام الهادي عليه السلام، وابن أخيها الإمام العسكريّ عليه السلام، كما شهدت ولادة الإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكانت لها صلة قريبة به. اختصّت بـ:
1. أوّل من شاهد الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف: زارت ابن أخيها عليه السلام في ليلة ولادة الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، وطلب منها الإمام عليه السلام أن تبيت عنده وتحضر ولادة المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، فباتت تلك الليلة إلى أن وُلد عجل الله تعالى فرجه الشريف، ورأته أيضاً في اليوم الثالث من ولادته عجل الله تعالى فرجه الشريف(4). وقد أخفى الإمام العسكريّ عليه السلام كلّ دلائل الحمل بالحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وولادته، ولم يورد ذلك في أيّ وثيقة قانونيّة رسميّة، ولم يعلم بذلك أحد حتّى القريب من أهل بيته، إلاّ السيدة حكيمة عليها السلام عمّته، التي أُعلمت بذلك في وقت متأخّر جدّاً(5). وينقل الشيخ القمّيّ عنها: "كانت هذه المخدّرة أوّل من لثمه عجل الله تعالى فرجه الشريف، ثمّ احتضنته وذهبت به إلى أبيه عليه السلام، ثمّ عادت به إلى أمّه"(6).
2. رعاية السيدة نرجس: ينقل الشيخ القمّي: "اعلم أنّ حكيمة عليها السلام (...) تمتاز بين بنات الإمام الجواد عليه السلام بالفضائل والمناقب، أسند الإمام الهادي عليه السلام إليها تعليم المُكرّمة نرجس عليها السلام -والدة إمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف- معالم الدين وأحكام الشرع، وتربيتها بالآداب الإلهيّة"(7).
3. السفارة: يتابع الشيخ القمّي: "بعد شهادة الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام، تسلّمت منصب السفارة لإمام العصر عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكانت توصل عرائض الناس إليه، كما توصل التوقيعات الصادرة عن تلك الناحية المقدّسة إلى الناس، وهي تفخر بقبالة صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف والتصدّي لشؤون ولادته. وقد صرّح بهذا العلّامة بحر العلوم -طاب ثراه- في كتاب (الرجال)"(8). وقد تلقت وصيةً من الإمام العسكريّ عليه السلام بحفظ سرّ غيبته عجل الله تعالى فرجه الشريف عن الشيعة، يروى عنها: "فلمّا كان بعد ثلاث، اشتقت إلى وليّ الله، فصرت إليهم فبدأت بالحجرة التي كانت سوسن فيها (السيدة نرجس)، فلم أر أثراً ولا سمعت له ذكراً، فكرهت أن أسأل، فدخلت على أبي محمّد عليه السلام فاستحييت أن أبدأه بالسؤال، فبدأني فقال: يا عمّة، (هو) في كنف الله وحرزه وستره وعينه، حتّى يأذن الله له (بالخروج)، فإذا غيّب الله شخصي وتوفّاني ورأيت شيعتي قد اختلفوا، فأخبري الثقات منهم، وليكن عندك وعندهم مكتوماً، فإنّ وليّ الله يغيّبه الله عن خلقه فلا يراه أحد حتّى يقدّم له جبرائيل عليه السلام فرسه؛ ليقضي الله أمراً كان مفعولاً"(9).
4. زيارة ضريحها: يذكر الشيخ القمّيّ (رضوان الله عليه) ضريحها وزيارتها قائلاً: "وقد صرّح العلماء باستحباب زيارتها، وقبرها الشريف في سامرّاء في قبّة العسكريّين إلى الأدنى ملاصق لضريحهما عليهما السلام، في ضريح على حدة، ولم ترد في كتب المزار زيارة خاصّة بها"(10). وقال العلّامة المجلسيّ رحمه الله: "إنّ في القبّة الشريفة قبراً منسوباً إلى النجيبة الكريمة العالمة الفاضلة النقيّة الرضيّة حكيمة عليها السلام بنت أبي جعفر الجواد عليه السلام، ولا أدري لِمَ لَمْ يتعرّضوا لزيارتها مع ظهور فضلها وجلالتها، وأنّها كانت مخصوصة بالأئمّة عليهم السلام ومودعة أسرارهم، وكانت أمّ القائم عندها، وكانت حاضرة عند ولادته عجل الله تعالى فرجه الشريف، وكانت تراه حيناً بعد حين في حياة أبي محمّد العسكريّ عليه السلام، وكانت من السفراء والأبواب بعد وفاته، فينبغي زيارتها بما أجرى الله على اللسان ممّا يناسب فضلها وشأنها"(11).
ثانياً: السيّدة نرجس عليها السلام
هي أمّ الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف، ينتهي نسب أمّها إلى شمعون أحد أوصياء السيّد المسيح عليه السلام ومن حواريّيه. وكانت هذه السيّدة الزكيّة من سيّدات نساء المسلمين في عفّتها، وإيمانها، وطهارتها، ويكفيها سموّاً وفخراً أنّها أنجبت مخلّص العالمين عجل الله تعالى فرجه الشريف. ومن أسمائها: مليكة، وصقيل، وسوسن(12)، وريحانة، ومريم. ولمّا أُسرت، أسمَت نفسها نرجساً(13)، وهو أشهر أسمائها، وكنيتها أمّ محمّد.
1. وصولها إلى بيت الإمامة: روى ابن بابويه(14) عن موفد الإمام الهادي عليه السلام، الذي أرسله إلى السوق عندما سُبيت أسيرةً، وعُرضت للبيع جاريةً، حيث يقول إنّه عندما تسلّمها من الدلاّل، عرض عليها كتاب الإمام الهادي عليه السلام، فأخذت تلثمه وتمسح به وجهها، فقال متعجّباً: "تلثمين كتاباً لا تعرفين صاحبه؟!" فقالت: "أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء عليهم السلام، أعرني سمعك وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأمّي من ولد الحواريّين تُنسب إلى وصيّ المسيح شمعون، أنبئك بالعجب؟ إنّ جدّي قيصر أراد أن يزوّجني من ابن أخيه وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريّين والقسّيسين... وأبرز من بهيّ ملكه عرشاً مساغاً من أصناف الجوهر، ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلمّا صعد ابن أخيه وأحدقت الصلب، وقامت الأساقفة عكفاً، ونشرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصلب من الأعلى، فلصقت الأرض وتقوّضت أعمدة العرش، فانهارت إلى القرار، وخرّ الصاعد من العرش مغشيّاً عليه"(15). ودلالة قولها هو يقينها بمشيئة الله في منع زواجها هناك، وسوقها إلى بيت النبوّة، وفيه إشارة إلى إسلامها قبل زواجها من الإمام عليه السلام.
2. رؤيا الخطبة: ذكرت السيّدة مليكة عليها السلام حلماً رأت فيه النبيّ محمّداً صلى الله عليه وآله وسلم ومراسم خطبتها: "فرأيت في تلك الليلة كأنّ المسيح عليه السلام وشمعون وعدّة من الحواريّين اجتمعوا في قصر جدّي... فدخل عليهم رسول الله محمّد صلى الله عليه وآله وسلم مع فتية وعدّة من بنيه، فقام إليه المسيح عليه السلام واعتنقه، فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: يا روح الله، إنّي جئت خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لابني هذا، (وأومأ) بيده إلى أبي محمّد عليه السلام، فنظر المسيح عليه السلام إلى شمعون، فقال: قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، قال: قد فعلت"(16).
3. حمل السيّدة نرجس عليها السلام وإنجابها: تروي السيدة حكيمة عليها السلام: "بعث إليّ أبو محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام فقال: يا عمّة، اجعلي إفطارك الليلة عندنا، فإنّها ليلة النصف من شعبان، فإنّ الله تبارك وتعالى سيُظهر في هذه الليلة الحجّة وهو حجّته في أرضه، قالت: فقلت له: ومن أمّه؟ قال لي: نرجس. قلت له: والله جعلني الله فداك ما بها أثر؟ فقال عليه السلام: هو ما أقول لك"(17).
ثمّ قال لها عليه السلام: "إذا كان وقت الفجر يظهر بها الحبل؛ لأنّ مثلها مثل أمّ موسى، لم يظهر بها الحبل، ولم يعلم به أحد إلى وقت ولادتها، لأنّ فرعون كان يشقّ بطون الحبالى في طلب موسى عليه السلام، وهذا نظير موسى"(18).
4. حياتها بعد الإمام العسكريّ عليه السلام: ينقل التاريخ أنّ السلطة ألقت القبض عليها بعد شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام بمدّة غير طويلة؛ نتيجة الوشاية بها في شهر ربيع الأوّل من عام 260هـ، وبقيت تحت رقابة السلطة أكثر من عام، وقيل أكثر من عامين. لم يكن الهدف الأساسيّ من حجزها ومراقبتها البحث عن جنينها أو انتظار ولادتها، وإلّا كان يكفي التأكّد من ذلك بمجرّد أن تمضي أشهر عدّة فقط، إنّما كان المقصود اضطهادها وعزلها عن مجتمعها أوّلاً، واحتمال اتّصال ولدها بها خلال هذه المدّة ثانياً(19).
دورٌ لافت
كان للسيّدة حكيمة عليها السلام الدور الأكبر في تربية السيّدة نرجس عليها السلام وتزويجها وحضور ولادتها. كما كانت ترى الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف بشكل مستمرّ طوال الغيبة الصغرى، وكانت ممّن يربط الشيعة به؛ حيث كانت تأخذ أسئلتهم إليه عجل الله تعالى فرجه الشريف، وتأتي إليهم بإجاباته. وقيل إنّه صدرت على يدها توقيعات من الناحية المقدّسة.
كما انتخب الله عزّ وجلّ السيّدة نرجساً عليها السلام لحمل خاتم الأئمّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وبقيّة الله في الأرضين، وقد تميّزت بشدّة صبرها وتحمّلها المشقّة بعد شهادة الإمام العسكريّ عليه السلام والتضييق عليها من قِبل العباسيّين؛ لذلك، تعبق سيرتها برقيّ العبادة، والطاعة، وحفظ الوصيّة.
(1) الحائريّ، تراجم أعلام النساء، ج 2، ص 22.
(2) الشيخ المفيد، الإرشاد في معرفة حجج الله على العباد، ج 2، ص 273.
(3) الحسينيّ، الإمام محمّد الجواد عليه السلام، ج1، ص 89.
(4) الطبسيّ، الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف المصلح العالميّ المنتظر، ص 36.
(5) الطبسيّ، حياة الإمام العسكريّ عليه السلام، ص 235.
(6) الشيخ القمّي، منتهى الآمال، ج 2، ص 458.
(7) المصدر نفسه، ج 2، ص 458.
(8) المصدر نفسه، ج2، ص 458.
(9) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 51، ص 18.
(10) الشيخ القمّي، مصدر سابق، ج 2، ص 458.
(11) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 29، ص 79.
(12) يراجع: الأعلميّ، ترجم أعلام النساء، ج 2، ص 218. (ذُكرت في هذا المرجع باسم سوسن ونرجس، ولم تُذكر باسم مليكة).
(13) القمّي، الأنوار البهيّة، ص 275.
(14) الشيخ القمّي، مصدر سابق، ج 2، ص 556.
(15) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 51، ص 8.
(16) السيّد النجفيّ، منتخب الأنوار المضيئة، ص 112.
(17) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 51، ص 2.
(18) الشيخ الطوسيّ، الثاقب في المناقب، ص 201.
(19) يراجع: الزبيديّ، مصدر سابق، ص 246.
Kuwait
Nizar
2022-11-02 04:12:03
Excellent رعاكم الله وسدد خطاكم