الشيخ حسن فوّاز
واجه الأئمّة عليهم السلام تضييق الحكّام العبّاسيّين وظلمهم بالاعتماد على الوكلاء وأجيال من العلماء لإدارة شؤون الإمامة وحفظ هذا الدين ونشره، حتّى ورد في حقّ بعضهم؛ أي زرارة، ومحمّد بن مسلم، وليث بن البختريّ، وبريد بن معاوية، قول الإمام الصادق عليه السلام: "أربعة نجباء أمناء الله على حلاله وحرامه، لولا هؤلاء انقطعت آثار النبوّة واندرست" (1).
وقد ورد عن الأئمّة عليهم السلام التأكيد على وظيفة العلماء بألسنة وتعابير مختلفة، ولكنّ التراث المنقول عن الإمام العسكريّ عليه السلام وما نقله هو عليه السلام عن آبائه الأطهار عليهم السلام اختصّ بمصطلح (أيتام آل محمّد)، أو ما يؤدّي معناه.
والبحث في هذه المقالة يتمحور حول جمع تلك الأحاديث، مع بيان الدلالات المستفادة من هذا المصطلح.
* إرث الإمام العسكري عليه السلام
ترك الإمام العسكري عليه السلام إرثاً روائياً وحديثياً وتشريعيّاً، كما هو حال كلّ أئمة أهل البيت عليهم السلام، ولكنّه اختصّ بالعمل على إعادة بناء الثّقة بالمجتهدين والعلماء؛ لأنّه كان يمهّد مباشرةً لمرحلة غيبة الإمام المنتظر عجل الله تعالى فرجه الشريف من بعده؛ فلم يرَ شخص الإمام الحجة إلا خواص خواصه. ومن هنا، نلاحظ ترسيخ الإمام العسكريّ عليه السلام مصطلح (أيتام آل محمد) لأنّ انقطاع الشيعة عن إمامهم سيكون في عصر الغيبة قد بلغ أوجه. بالتالي عمل عليه السلام على بناء بنيان الفقه والشريعة على يد العلماء في عصر الغيبة الكبرى.
* اليتم ودور العلماء
جاء في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكريّ عليه السلام في قوله تعالى: ﴿وَإِذْ أَخَذْنَا مِيثَاقَ بَنِي إِسْرَائِيلَ لَا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَذِي الْقُرْبَىٰ وَالْيَتَامَىٰ وَالْمَسَاكِينِ﴾ (البقرة: 83) المقصود باليتيم هنا اليتيم الشرعيّ، وهو الصغير الذي فقد أباه. ولكن ثمّة جملة من الأخبار التي استُعمل فيها ذلك التوصيف في مقام حثّ العلماء على بذل العلم(2)، وهي:
1. ما نقله عليه السلام عن آبائه عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم من قوله: "وأشدّ من يُتم هذا اليتيم، يتيمٌ ينقطع عن إمامه لا يقدر على الوصول إليه، ولا يدري كيف حكمه فيما يبتلى به من شرائع دينه. ألا فمن كان من شيعتنا عالماً بعلومنا، وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيمٌ في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرّفيق الأعلى"(3).
2. ما نقله عليه السلام عن السيّدة فاطمة الزهراء عليها السلام من قولها: "إنّ علماء شيعتنا يحشرون، فيخلع(4) عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجِدّهم في إرشاد عباد الله، حتّى يخلع على الواحد منهم ألف ألف حلّة من نور. ثمّ ينادي منادي ربّنا عزّ وجلّ: أيّها الكافلون لأيتام آل محمّد صلى الله عليه وآله وسلم، الناعشون(5) لهم عند انقطاعهم عن آبائهم الذين هم أئمّتهم، هؤلاء تلامذتكم والأيتام الذين كفلتموهم ونعشتموهم فاخلعوا عليهم كما خلعتموهم خلع العلوم في الدنيا"(6).
3. ما نقله عليه السلام عن الإمام الحسن المجتبى عليه السلام من قوله: "فضل كافل يتيم آل محمّدٍ، المنقطع عن مواليه النّاشب في رتبة الجهل، يُخرجه من جهله، ويوضح له ما اشتبه عليه على فضل كافل يتيمٍ يُطعمه ويَسقيه كفضل الشّمس على السهى"(7)؛ والسهى كوكب ضعيف النور، يفوقه نور الشمس بأضعاف مضاعفة. وفي هذا الحديث إشارة إلى تشبيه العلم بالطعام، نظير ما روي في تفسير قوله تعالى:
﴿فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ إِلَى طَعَامِهِ﴾ (عبس: 24)، قولهم عليهم السلام أنّ المراد من الآية أن ينظر الإنسان إلى: "علمه الذي يأخذه عمّن يأخذه"(8).
4. ما نقله عليه السلام عن الإمام الحسين عليه السلام من قوله: "من كفل لنا يتيماً قطعته عنّا محنتُنا باستتارنا، فواساه من علومنا التي سقطت إليه حتّى أرشده وهداه، قال اللّه عزّ وجلّ (له): يا أيّها العبد الكريم المواسي، أنا أولى بالكرم منك، اجعلوا له يا ملائكتي في الجنان بعدد كلّ حرفٍ علّمه ألف ألف قصرٍ، وضمّوا إليها ما يليق بها من سائر النّعم"(9).
5. ما نقله عليه السلام عن الإمام الكاظم عليه السلام من قوله: "فقيه واحد ينقذ يتيماً من أيتامنا المنقطعين عنّا وعن مشاهدتنا بتعليم ما هو محتاج إليه، أشدّ على إبليس من ألف عابد؛ لأنّ العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا همّه مع ذات نفسه ذوات عباد الله وإمائه؛ لينقذهم من يد إبليس ومردته، فلذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد"(10)؛ وفي هذا الحديث توجيه إلى سبب تفضيل العالم على العابد من جهة النيّة، ويفهم منه أنّ الذي فُضّل على العابد هو خصوص العالم الباذل لعلمه.
6. ما نقله عليه السلام عن الإمام الرضا عليه السلام من: "ويقال للفقيه: يا أيّها الكافل لأيتام آل محمّد، الهادي لضعفاء محبّيهم ومواليهم، قف حتّى تشفع لكلّ من أخذ عنك أو تعلَّم منك"(11)، والمقصود من الضعف ليس إلّا القصور الذي وقع فيه عند الانقطاع عن مصدر العلم.
7. ما نقله عليه السلام عن الإمام الجواد عليه السلام من قوله: "إنّ من تكفّل بأيتام آل محمّد المنقطعين عن إمامهم، المتحيّرين في جهلهم، (الأسراء) في أيدي شياطينهم، وفي أيدي النواصب من أعدائنا، فاستنقذهم منهم، وأخرجهم من حيرتهم، وقهر الشياطين بردّ وساوسهم وقهر الناصبين بحجج ربّهم، ودليل أئمّتهم، ليفضّلون عند الله تعالى على (العابد) بأفضل المواقع بأكثر من فضل السماء على الأرض، والعرش والكرسيّ والحجب على السماء، وفضلهم على هذا العابد كفضل القمر ليلة البدر على أخفى كوكب في السماء"(12)؛ وتشبيه الجاهل بالأسير فيه إشارة إلى أنّ الجهل من قيود الذلّ والهوان.
8. ما روي عنه عليه السلام: "يأتي علماء شيعتنا القوّامون لضعفاء محبّينا وأهل ولايتنا يوم القيامة، والأنوار تسطع من تيجانهم، على رأس كلّ واحد منهم تاج بهاء، قد انبثت تلك الأنوار في عرصات القيامة ودورها مسيرة ثلاثمائة ألف سنة. فشعاع تيجانهم ينبث فيها كلّها، فلا يبقى هناك يتيم قد كفلوه، ومن ظلمة الجهل وحيرة التيه أخرجوه، إلّا تعلّق بشعبة من أنوارهم، فرفعتهم في العلوّ حتّى يحاذي بهم ربض غرف الجنان"(13)؛ وهنا، وُصف العالم أنّه مقوّم للضعفاء؛ أي يُقوّم صلبه، وهذا فيه تشبيهٌ للجهل بحالة من الانكسار.
* المنقطع عن إمامه كاليتيم
هذا ما وجدناه من أخبار ورد فيها مصطلح (اليتيم) في إشارة إلى المنقطع عن إمامه ومنها تعبيره عليه السلام بـ(لا يدري كيف حكمه) و(الناشب في تيه الجهل).
ووجه الشبه بمعناه العرفي إمّا من جهة تشبيه الإمام بالأب؛ باعتبار أنّ الإمام هو الكافل والقائم بأمور شيعته كما يقوم الأب بأمور أولاده، ففقده يُتمٌ وهو ما يستفاد من الحديث الثاني المتقدّم الذكر، وإمّا من جهة تشبيه المنقطع عن إمامه كاليتيم في ضعفه بعد فقد كافله كما يمكن أن يستفاد من الأحاديث التي عبّرت بكلمة (لضعفاء محبّيه) كما في الحديث السادس و(لضعفاء محبّينا) كما في الحديث الثامن، ويمكن أن يكون الملاحظ كلتا الجهتين.
* مسؤوليّة العلماء
إنّ تشبيه حال الجاهل المنقطع عن إمامه باليتيم، مضافاً إلى أنّه بيان لواقع حاله، ففيه:
1- إلقاءٌ للمسؤوليّة على عاتق العلماء.
2- وحثٌّ لهم نحو بذل العلوم وإرشاد الجاهلين.
3- الكفالة، فقد بيّنت الأخبار السابق ذكرها، أنّ وظيفة العلماء هي الكفالة، وقد فُسّرت بأنّها كفالةٌ معنويّةٌ، يُراد بها إخراجه من جهله وإنقاذه منه (كما في الحديث الثالث والثامن).
4- ثمّة وظيفة أخرى للعلماء هي الإنعاش؛ فكأنّ ذلك المنقطع عن إمامه في طور الهلكة، وانتهاء رمق روحه، يُراد إنعاشه (وهو ما عُبّر عنه في الحديث الثاني).
* يتمٌ معنويّ
كما أنّ يتيم الأب منقطعٌ عن أبيه من جهة، وقد فَقَدَ كافله وراعي شؤونه من جهة أخرى، فالجاهل المنقطع عن إمامه يتيمٌ باليتم المعنويّ، وكلّ منهما (اليتيم الشرعي والمعنوي) بحاجة إلى كافل يتعامل معه برفق ورعاية. وهو ما عمل إمامنا العسكري عليه السلام على ترسيخه للشيعة في عصر الغيبة وولاية إمامنا الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف.
(1) الشيخ المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلاميّة، ج 2، ص 95.
(2) الشيخ الطبرسيّ، الاحتجاج، ج1، ص 16.
(3) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 66، ص 344.
(4) الخلعة: المنحة والعطيّة.
(5) أي المتداركين لهم بعد الهلكة.
(6) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 2، ص 3.
(7) المصدر نفسه، ج 2، ص 4.
(8) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 1، ص 50.
(9) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 2، ص 4.
(10) الشيخ الطبرسيّ، مصدر سابق، ج 1، ص 9.
(11) المصدر نفسه، ج 1، ص 9.
(12) الحرّ العامليّ، الفصول المهمّة في أصول الأئمّة عليهم السلام، ج 1، ص 603.
(13) العلّامة المجلسيّ، مصدر سابق، ج 7، ص 225. ومعنى انبثت: انتشرت.