لقاء مع سماحة الشيخ كاظم ياسين
حوار: الشيخ موسى منصور
عاش الإمام العسكريّ عليه السلام في أقسى الظروف الأمنيّة والسياسيّة والاجتماعيّة التي مرّت على أئمّة أهل البيت عليهم السلام، وقُدّر له أن يواجه أعتى طواغيت بني العبّاس وفراعنتهم، في مرحلة انتقاليّة ارتفع فيها حجم التحدّيات والمسؤوليّات. وقد تعرّض عليه السلام خلال حياته المباركة لمحاولات عزله عن قاعدته الشعبيّة، وحصاره ومراقبته في محل إقامته الجبريّة في سامرّاء، غير أنّ الإمام عليه السلام استطاع كسر الحصار وتشكيل حالة أمنيّة منظّمة لها خططها وعناصرها وأهدافها.
لمعرفة المزيد عن ظروف حياة الإمام عليه السلام الاجتماعيّة والسياسيّة، والتحدّيات التي عاشها، أجرت مجلّة بقيّة الله هذا الحوار مع سماحة الشيخ كاظم ياسين.
أوّلاً: الظروف الاجتماعيّة والسياسيّة
1-ما هي أبرز الأحداث السياسيّة والاجتماعيّة التي عاصرها إمامنا العسكريّ عليه السلام؟
لقد زوّد الله تعالى رسوله الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم بمنظومة كاملة من ثلاثة عشر معصوماً، مهمّة المنظومة هي إكمال المسيرة النبويّة ومنع قيام الطاغوتية الفرعونيّة ولو كانت بلباس الإسلام. وقد استطاعت هذه الفرعونيّة الاستيلاء على الدولة؛ فاضطرّ أهل البيت عليهم السلام إلى الانتقال من الخطّة الأصليّة، وهي مواجهة أولئك الفراعنة من خلال الدولة، إلى الخطّة البديلة، وهي تأسيس أمّة جديدة، قوامها الكتلة الشيعيّة؛ فإنّه لن يقف في وجه الفراعنة ويهزمهم إلّا هذه الكتلة. انطلاقاً من هنا، لا نستطيع فهم الظروف التي عاش الإمام العسكريّ عليه السلام في ظلّها إلّا من خلال الوقوف عند المراحل المختلفة التي مرّ بها أئمّتنا عليهم السلام، والتي يمكن تقسيمها إلى ثلاث مراحل:
· المرحلة الأولى: مرحلة الأئمّة: أمير المؤمنين عليّ والحسن والحسين عليهم السلام، والتي كان عنوانها تأسيس الكتلة الشيعيّة من خلال استرداد الدولة الإسلاميّة.
· المرحلة الثانية: مرحلة الأئمّة: زين العابدين والباقر والصادق عليهم السلام، والتي امتدّت نحو تسعين عاماً، حيث أعادوا عليهم السلام بناء الكتلة الشيعيّة بعد تشرذمها الذي كشفته كربلاء.
· المرحلة الثالثة: مرحلة الأئمّة: الكاظم والرضا والجواد والهادي والعسكريّ عليهم السلام، وقد تميّزت بالصعوبة البالغة، والملاحقة والتربّص بالشيعة، وتعرّضت للانتكاسة، والضغط الشديد بعد الإمام الكاظم عليه السلام. نتيجةً لذلك، كان الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام يرعى مهمّة بالغة الحساسيّة، ترافقت مع سيطرة التركمان على الدولة، الذين كانوا يتّصفون بالفظاظة والقسوة وهتك الآداب. كان عليه السلام ينجز النقطة الأخيرة في البرنامج، وهي وضع اللمسات الأخيرة على المرحلة الانتقاليّة الجديدة، وذلك من خلال تهيئة الشيعة لغيبة الإمام الثاني عشر عليه السلام، فضلاً عن تهيئة سُبل اتّصاله بشيعته، وتأسيس نظام السفارة، وإنهاء عصر الوكالة، وتحضير الشيعة للدخول في عصر حكومة العلماء.
2-ما هي ظروف وضع الإمام العسكريّ عليه السلام في الإقامة الجبريّة في سامراء وأسبابه؟
أُقيمت مدينة سامرّاء (أو مدينة العسكر) في عهد المعتصم؛ فأمّه كانت تركيّة، وكذلك زوجته والجواري والخدم والضبّاط، كلّهم كانوا أتراكاً، وكان لديه جيشٌ من الأتراك يبلغ عدد عناصره نحو عشرين ألفاً. ولأنّهم كانوا أجلافاً وقساة، فقد تسبّبوا بإحداث المشاكل في بغداد مع العرب، إلى حدّ سقوط قتلى يومياً؛ حتى ضاج أهل بغداد منهم، ما دفع المعتصم إلى نقلهم من بغداد إلى سامرّاء، واستحدث لهم مدينة هناك.
ثمّ اُتّخذت مدينة سامرّاء مركزاً للإقامة الجبريّة للإمام الهادي عليه السلام، عندما أمر المتوكّل بإحضاره إلى سامرّاء، التي أصبحت عاصمة الخلافة حينها، واستمرّ هذا الحال مع الإمام العسكريّ عليه السلام، الذي وُضع أيضاً تحت الإقامة الجبريّة. وعلى الرغم من شدّة المراقبة التي كانت تحيط بمكان إقامته، إلّا أنّ خططه الأمنيّة والسياسيّة والتبليغيّة كانت معدّةً بإحكام، وكان يستلم الحقوق الشرعيّة ويوزّعها على مستحقّيها، وكذلك يوزّع الوكالات والمهمّات، بعيداً عن أعين السلطة وأزلامها. لقد كان الإمام العسكري عليه السلام يدير معركته بحكمة بالغة وبقدرة كبيرة.
ثانياً: قيادته لشيعته وعلاقته بهم
3-كيف تمكّن الإمام العسكري عليه السلام من التواصل مع شيعته مع كلّ هذا التشديد والرقابة؟
لقد حوصر الإمام عليه السلام فعلاً، لكنّه وضع خطّة أمنيّة متكاملة لخرق الحصار. مثلاً: عندما وُلد صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، حرص عليه السلام أن لا يَعلم بولادته حتّى بعض الذين كانوا يشغلون بيته عليه السلام.
وكان بيته عليه السلام ينقسم إلى ثلاث دوائر أمنيّة: المخدع، وباقي أقسام البيت، وخارج البيت. وكانت كلّ دائرة مستقلّة عن الأخرى، بحيث كان الإمام عليه السلام قادراً على حفظ أمن كلّ واحدة بمعزل عن الأخرى.
ويعدّ الإمامان الهادي والعسكريّ عليهما السلام من النماذج النادرة في العمل الأمنيّ عبر التاريخ، التي استطاعت، رغم الحصار والتضييق والمراقبة، التواصل مع قاعدتها الشعبيّة في كلّ أنحاء العالم، وتسلّم الرسائل والأسئلة، والأموال منها، وتوزيعها على مستحقّيها دون علم السلطان الحاكم.
وكشاهدٍ على أحد طرق التواصل، نذكر القصّة الآتية: حدث أن أعطى أحد الخدم العاملين داخل بيت الإمام عليه السلام حارس البوابّة قائمة طاولة خشبيّة؛ ليأخذها إلى أحد النجّارين. وبينما كان الخادم يعبر السوق، اصطدم بسقّاء يركب بغلة، ويبدو أنّه كان فظّاً، فراحا يتشاتمان، فعمد الخادم إلى ضرب البغلة بقائمة الطاولة، فتصدّعت الأخيرة وانفصلت أجزاؤها، ووقعت منها مجموعة من الرسائل المخبّأة بعناية داخلها. عندها، تنبّه الخادم، وجمع أجزاء قائمة الطاولة بسرعة كما كانت، واتّجه مسرعاً نحو النجّار. وعندما رجع إلى بيت الإمام عليه السلام، بادره الخادم العامل داخل المنزل بالقول فوراً: "لماذا تلاسنت مع السقّاء؟ ولماذا شتمته حين شتمك؟!". لاحظوا أخلاق الخادم الذي في الداخل؛ لقد كان في قمّة الوعي والمسؤوليّة في الالتزام بأخلاق الإمام عليه السلام وسياساته. هذه الحادثة لها الكثير من الدلالات، من أهمّها أنّها كشفت وجود شبكة أمنيّة في سامرّاء، يتواصل الإمام عليه السلام من خلالها مع شيعته ووكلائه.
4-من هو بائع السمن، الذي نقرأ عنه في التاريخ أنّه كان يوصل رسائل الإمام عليه السلام؟
بائع السمن هو السفير الأوّل للإمام الحجة عجل الله تعالى فرجه الشريف عثمان بن سعيد العمريّ، وقد كان أحد أبرز وكلاء الإمام العسكريّ عليه السلام، وكان يحمل الأموال والرسائل في جراب السمن ويقوم بتوزيعها بحسب ما كان مطلوباً منه، وكان أيضاً من العلماء. وقد ورد في حقّه وفي حقّ ابنه السفير الثاني مدحٌ على لسان الإمام العسكريّ عليه السلام عندما قال: "العمريّ وابنه ثقتان، فما أدّيا إليك عنّي فعنّي يؤدّيان، وما قالا لك فعنّي يقولان، فاسمع لهما وأطعمها فإنّهما الثقتان المأمونان"(1).
أمّا أهمّ الصفات التي كان ينتقي الإمام عليه السلام وكلاءه على أساسها، فهي المهارة والاحتراف التنظيميّ والصلابة، والدليل على ذلك أنّه عندما تمّ تعيين السفير الثالث، كان أبو سهل النوبختيّ أعلم منه، "فقيل له: كيف صار هذا الأمر إلى الشيخ أبي القاسم الحسين بن روح دونك، فقال: هم أعلم وما اختاروه، ولكن أنا رجل ألقى الخصوم وأناظرهم، ولو علمت بمكانه كما علم أبو القاسم وضغطتني الحجّة لعلّي كنت أدلّ على مكانه، وأبو القاسم فلو كانت الحجّة تحت ذيله وقرض بالمقاريض ما كشف الذيل عنه"(2).
5-كيف يمكن أن نصف حال الشيعة في زمن الإمام العسكريّ عليه السلام؟
يمكننا القول: أصبح للشيعة في زمان الإمام العسكريّ عليه السلام بنيان تنظيميّ وسياسيّ وعقديّ، أيّ بات الشيعة الموالون للإمام عليه السلام منتشرين في بقاع عدّة من العالم، وأصبحوا أقوياء، وامتلكوا قدرة عالية على قيادة أنفسهم بأنفسهم. وكان هذا المشروع البديل؛ تأسيس الكتلة الشيعيّة خارج الدولة، قد اكتمل.
وهكذا، فإنّ الهدف الذي عمل أهل البيت عليهم السلام على تحقيقه، وهو استرداد الدولة الإسلاميّة والقضاء على الفرعونيّة، ما كان ليتمّ بالدستور والقانون والتشريعات فحسب، وإنّما ببناء الشخصيّة الإسلاميّة الشيعيّة العمليّة، التي سوف تؤسّس كتلتها في يوم من الأيّام، وتستعدّ لتسحق عرش الطاغوت، وتنهي الفرعونيّة في الأرض تحت راية خاتم المعصومين عجل الله تعالى فرجه الشريف.
ثالثاً: التمهيد لغيبة الإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف
6-من هم أبرز خواصّ الإمام العسكريّ عليه السلام، الذين نقلوا تراثه، وأطلعهم على سرّ ولادة الإمام الحجّة عجل الله تعالى فرجه الشريف وأنّه خليفته؟
لقد ولد الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف في ظلّ حلقة ضيّقة، أدّت فيها السيّدة حكيمة دور القابلة. بعد ذلك، جمع الإمام العسكريّ عليه السلام أربعين رجلاً وأطلعهم على المولود الجديد، من جملتهم: عثمان بن سعيد العمريّ، ومحمّد بن عثمان العمريّ، وإسماعيل بن عليّ النوبختيّ، وأبو القاسم الحسين بن روح، وعليّ بن مهزيار الأهوازيّ، وأبو عليّ بن راشد، وابن بند، وابن عاصم، وعليّ بن جعفر الهمّانيّ، ومحمّد بن معاوية بن حكيم، ومحمّد بن أيوب بن نوح، وغيرهم. وإنّه لأمر مدهش كيف تواصل معهم وجمعهم دون ملاحظة الحرّاس!
ومن أصحابه عليه السلام أيضاً، أحمد بن إسحاق بن سعد الأشعريّ، الذي يقول: "دخلت على أبي محمّد الحسن بن عليّ عليهما السلام وأنا أريد أن أسأله عن الخلف من بعده، فقال لي عليه السلام مبتدئاً: "يا أحمد بن إسحاق، إنّ الله تبارك وتعالى لم يخلِ الأرض منذ خلق آدم عليه السلام ولا يخليها إلى أن تقوم الساعة من حجّة لله على خلقه..."، فقلت له: يا ابن رسول الله، فمن الإمام والخليفة بعدك؟ فنهض عليه السلام مسرعاً فدخل البيت، ثمّ خرج وعلى عاتقه غلامٌ كأنّ وجهه القمر ليلة البدر، من أبناء الثلاث سنين، فقال عليه السلام: "يا أحمد بن إسحاق، لولا كرامتك على الله عزّ وجلّ وعلى حججه ما عرضت عليك ابني هذا، إنّه سميّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وكنيُّه، الذي يملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت جوراً وظلماً...". فقال أحمد بن إسحاق: يا مولاي، فهل من علامة يطمئنّ إليها قلبي؟ فنطق الغلام عليه السلام بلسان عربيّ فصيح، فقال: "أنا بقيّة الله في أرضه، والمنتقم من أعدائه، فلا تطلب أثراً بعد عين يا أحمد بن إسحاق". فقال أحمد بن إسحاق: فخرجتُ مسروراً فرحاً"(3).
7-كيف هيّأ الإمام العسكريّ عليه السلام الشيعةَ للتعامل مع المعصوم الغائب بدرجة ترقى على الحضور؟
في المرحلة الثالثة من عمل أئمّة أهل البيت عليهم السلام، ولمّا زادت وطأة الإرهاب وتشديد الدولة الأمنيّة الإرهابيّة، صار من الصعب أن يحضر الإمام عليه السلام بين شيعته. وأدرك العباسيّون حينها أنّ اتّصال الإمام بشيعته يعطيه القوّة وينفخ روح القوّة في الشيعة أيضاً، لهذا، أطبقوا عليه الحصار، ورغم ذلك، ابتكر الإمام عليه السلام أساليب أمنيّة وسياسيّة تنظيميّة للتواصل، كنظام الوكالة والسفارة بعد ذلك، ونظام الاتّصال التنظيميّ. حتّى أنّ الإمامين الهادي والعسكريّ عليهما السلام ابتكرا (الاسم الجهاديّ)، وكانا أوّل من أطلق على الخوّاص أسماء جهاديّة في تاريخ العمل التنظيميّ والحركات الثوريّة. وما هذا كلّه إلّا دليل على عقل مبدع وعظيم؛ يهيّئ الشيعة للتعامل مع إمام يغيب بالتدريج عنهم.
رابعاً: سمات المرحلة والآثار
8-ما هي أبرز الآثار التي وصلت إلينا من الإمام العسكريّ عليه السلام؟
أبرز الآثار التي وصلت إلينا من الإمام العسكريّ عليه السلام هي صاحب الأمر عجل الله تعالى فرجه الشريف، كما ترك عليه السلام أيضاً إرثاً حضاريّاً وتنظيميّاً على صعيد الاتّصال وبناء الكتلة الشيعيّة وتوسّعها، وكذلك إرثاً أدبيّاً تشريعيّاً، كما هو الحال عند بقيّة أهل البيت عليهم السلام، ولكنّ الإمام العسكريّ عليه السلام اختصّ بالإرث التنظيميّ وإرث إعادة بناء الثقة بالمجتهدين والعلماء بهدف بناء بنيان الفقه والشريعة في عصر الغيبة الكبرى.
9-ختاماً: ما هو التوصيف الذي يمكن إطلاقه على مرحلة الإمام العسكريّ عليه السلام؟
إنّها مرحلة التصميم الإلهيّ، انطلاقاً من قول الله عزّ وجلّ: ﴿لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي﴾ (المجادلة: 21)؛ بمعنى لن يسمح الله للهزيمة أن تتسرّب إلى ساحته وساحة رسله. فقد تكرّست في حياة الإمام العسكريّ عليه السلام مرحلة تثبيت المشروع الإلهيّ، الذي سيتحقّق مع الإمام المهديّ عجل الله تعالى فرجه الشريف، انطلاقاً من قوله تعالى: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ﴾ (القصص: 5).
(1) الشيخ الكلينيّ، الكافي، ج 1، ص 330.
(2) العلّامة المجلسيّ، بحار الأنوار، ج 51، ص 359.
(3) الشيخ الصدوق، كمال الدين وتمام النعمة، ص 384 – 385.